إعادة التربية والإدماج...
حسن أحراث
الحوار المتمدن
-
العدد: 8055 - 2024 / 7 / 31 - 04:10
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
طبيعي أن تفرح أُمُّ المعتقل حين الإفراج عن ابنها، كما الأم الفلسطينية، سواء إثر العفو أو بعد إتمام مدة السجن المحكوم عليه بها؛ وكذاك الزوجة والأب والأسرة والعائلة الصغيرة والكبيرة. ولا يمكن أن نفرح لبقائه داخل الزنزانة الصدئة بغض النظر عن مواقفه أو مرجعيته. ببساطة لأننا نناضل من أجل إطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين واقتلاع سجون الذل والعار. وأكثر من ذلك، فقلب المناضل الثوري أكبر من قلب الأم والأب والأسرة...؛ ونضالنا سيستمر حتى ذلك الحين وبكل التضحيات المطلوبة..
لا نعكر الأجواء ولسنا من هواة افتعال الألم، وتهانينا الى من يستحقها..
إننا نفضح المسكوت عنه، ومن حقنا ومن حق شعبنا إعلان الحقيقة العارية؛ ونعلم أن ضريبة ذلك باهضة ومكلفة..
والخطير أن ينسينا الإفراج (طبعا المحسوب ببيض النمل وليس العشوائي) عن بعض المعتقلين (دراجة السلطان عبد العزيز الهوائية) معتقلين آخرين ونُطبِّل ل"عرس" دم وعرق، ونغرق في وحل/"نعيم" الفرح المسموم أو المغشوش الذي يُسوِّق من خلاله المرتبكون والانتهازيون والمتملقون كون الاعتقال السياسي ملفا وظاهرة بدل تأكيد عن جدارة كونه قضية طبقية ملازمة للنظام القائم باعتباره نظاما لاوطنيا لا ديمقراطيا لاشعبيا. ولمن له ذاكرة هشة، ذاكرة سمك؛ فكم من عفوٍ تلته الاعتقالات بل والاغتيالات.. ولا يمكن أيضا نسيان أو تناسي "الترافع" البليد لمحترفي "الوضاعة" باسم المحاماة وحقوق الإنسان (جمعيات وهيئات وائتلافات...) على أسماء وتجاهل أخرى بفظاظة و"سبق إصرار" وبعيدا عن الأخلاق والمبدئية والمنطق السليم (الكيل بمكاييل وليس فقط بمكيالين، وهو ما ينتصر لتهم النظام ومحاكماته الصورية)، علما أن شروط الاعتقال تختلف بالنسبة لهذا المعتقل وذاك، وحتى تازمامارت عرفت تفاوت أوضاع الاعتقال..
بدوري، فرحت يوم إطلاق سراحي إثر عفو سنة 1991 وفرحت عائلتي أيضا، وهو فرح/حق مشروع. وكان ذلك بالنسبة لي فرح انتصار معركة الشهيدين بوبكر الدريدي ومصطفى بلهواري، حيث كان لنا (جوهاري نورالدين وأنا) شرف مغادرة مستشفى ابن رشد (موريزكو) بالدار البيضاء ونحن مضربان عن الطعام (إضراب لامحدود عن الطعام في إطار معركة الشهيدين، معركة لا للولاء)، ولم يتم إزالة القيد من معصمينا والمسبار (SONDE GASTRIQUE) عبر أنفينا حتى منتصف يوم 16 غشت 1991، ومنذ استمرار المعركة يوم 23 يونيو 1985 بسجن بولمهارز بمراكش. لم نطلب عفوا والتهمة "المؤامرة الغاية منها قلب النظام" والحكم 15 سنة سجنا نافذا.. ولم نخضع لتعليمات أو ضغوطات ولم نركع أمام الحصار والتجويع اللذين داما أزيد من ست سنوات. وإنا على عهد الرفيقين الشهيدين بلهواري والدريدي وباقي الشهداء سائرون..
غادرنا السجن في 16 غشت 1991، نحن 39 معتقلا سياسيا إثر ذلك العفو، ليتم بعد ذلك الإفراج عن "المحظوظين" (الذين بقوا على قيد الحياة) من معتقلي تازمامارت وعلى من تبقى من معتقلي السجن المركزي بالقنيطرة ونفي الفقيد ابراهام السرفاتي الذي كان محكوما بالمؤبد الى فرنسا.
فرحنا، نعم؛ لكنه فرح بطعم المرارة والحسرة. لأن السجون قائمة وأسوارها باسقة وزنازينها متعفنة، وكان رفاقنا يعانون في جوفها المظلم، ومنهم رفاقٌ بمجموعتنا، مجموعة مراكش 1984. وحتى عفو 1994 الذي تم عبره الإفراج عن حوالي 400 معتقل سياسي، لم يضع حدّا للاعتقال السياسي؛ فكم اعتقل من مناضل وكم استشهد من شهيد بعد ذلك..
ما رأي من يقول ب"ظاهرة" و"ملف" الاعتقال السياسي؟
إنها رسائل اطمئنان لمن يهمه الأمر..
أما الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، فلم تزدد إلا تفاقما، الأمس واليوم؛ وغدا ستكون أسوأ..
بالفعل، كمْ مرّت من لحظات فرحٍ عابرة، لكن شعبنا يغرق دائما في الحزن والألم، بل في أحزان لا تُقاس حتى بالأطنان. هذا لا يعني أن شعبنا لا يحب الحرية أو لا يفرح لحرية بناته وأبنائه، بل لأن الكثيرين بعد "إدماجهم وإعادة تربيتهم" يصطفّون ببشاعة الى جانب النظام القائم ويخدمونه، بل يطيعونه أكثر مما يطيعه خدامه؛ وذلك إذا لم يكونوا كذلك حتى من قبل. ولنا العبرة في رواد كذبة "الإنصاف والمصالحة" وحواري ما يسمى ب"المجلس الوطني لحقوق الإنسان" فيما بعد..
إن النظام يروض بأسلوب العصا والجزرة، ونجح الى حد كبير من خلال تركيع الأحزاب السياسية وقتل كفاحية النقابات والجمعيات من خلال تواطؤ قياداتها البيروقراطية وشراء النخب ومن بينها "المثقفين" وأشباههم وضحايا القمع السياسي السابقين وفي مقدمتهم العديد من المعتقلين السياسيين السابقين..
لا ننفي تضحيات وجهود شعبنا ومناضليه (شهداء ومعتقلين سياسيين ومشردين...)، ولا نبخِّسها؛ لكن النتائج ليست في مستوى الطموح والانتظارات في غياب التنظيم الثوري. واستمرار معاناة المعتقلين السياسيين بسجون الذل والعار، ومن بينهم الطلبة ومعتقلي الريف...، يفضح الشعارات المرفوعة المُهلِّلة للديمقراطية وحقوق الإنسان، وتصريحات بعض المُفرَج عنهم تفسر بالضبط حكاية "إعادة التربية والإدماج" التي سبق أن عبر عنها أخنوش بكل ثقة في النفس..
إن الجماهير الشعبية أكبر من المهرجين، خُدّام النظام؛ وأقوى من أن تخضع لإغراءات النظام ومخططاته الطبقية المُمْلاة من طرف الامبريالية ومؤسساتها المالية. إنها بالعكس ضحية مناوراته واضطهاده بمباركة القوى السياسية المتخاذلة والقيادات النقابية والجمعوية البيروقراطية. ولنرجع الى التاريخ، لنقف عند الانتفاضات الشعبية البطولية ومنذ القرن الماضي وعند الإضرابات العامة والنضالات التي لا تتوقف حتى اللحظة..
وأغرب من الغرابة أن يرفع أحدٌ عقيرته للدفاع عن المعتقلين السياسيين (البعض فقط ودون الكل) ويتجاهل معارك العمال والفلاحين الفقراء وباقي الجماهير الشعبية الكادحة!!
إن "دفاعه" في هذه الحال مكرٌ وخديعة. فلا يهمُّه المعتقلين السياسيين ولا عائلاتهم ولا قضيتهم؛ إنه يدافع عن نفسه، أي يسعى الى صنع "مستقبله" على حساب المعتقلين السياسيين. وتجارب كثيرة تليق أن تكون سيناريوهات لأفلام "الوقاحة"..
نعلم أن السماسرة بكل مكان وأن المخبرين أمامنا ووراءنا والأعين الجاحظة والمُتلصِّصة تتربص بنا، ومن بينها الأعين "الصديقة"، لكن ذلك لن يحول دون مواصلة المعركة من أجل تحقيق حلم الشهداء، حلم شعبنا، حلم الطبقة العاملة..
وكما قال أحد الحكماء: "ليس العيب أن نحلم، لكن العيب ألا نعمل من أجل تحقيق حلمنا"..
إن النظام قائم وأبواب الأقبية والسجون مفتوحة؛ فلنعمل أيها الرفاق، أيها المناضلون من أجل تحقيق حلمٍ سيتحقّق بدون شك، آجلا أم عاجلا..
وإنها معركة لا للولاء حتى النهاية على رؤوس الأشهاد..