لماذا التهرب من التنظيم..؟!


حسن أحراث
الحوار المتمدن - العدد: 8109 - 2024 / 9 / 23 - 21:28
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

يجد جُلُّ المناضلين (أقول "جُلّ" بحسرة وليس بشماتة) ضالّتهم في إعلان الانتماء الى هذه المرجعية السياسية والإيديولوجية أو تلك دون تنزيل ذلك على أرض الواقع، وكأن إشهار الانتماء افتراضيا ينوب عن الخوض ميدانيا في معركة وسيرورة بناء التنظيم السياسي وفق تلك المرجعية. وكأننا ننتظر خروج الزعماء التاريخيين من قبورهم وعملهم على "إعادة" التاريخ أو وضع حلول جاهزة بين أيدينا. ويتم من حين الى آخر التراشق باللوم والتشويش، وكل طرف يُحمِّل مسؤولية فشله وانحساره للطرف أو الأطراف الأخرى، خاصة والاحتكاكات السياسوية التي لا تتوقف في صفوف هذه الأطراف جميعا، على الجبهات السياسية والنقابية والجمعوية والإعلامية...
لقد قام هؤلاء العظماء المؤسسون لتلك المرجعيات والتجارب بما قاموا به لفائدة شعوبهم والطبقة العاملة بالخصوص في مواجهة البورجوازية وبقايا الإقطاع، ودون أن ننسى الأدوار الكبيرة لجنود الخفاء في التصدي للاستعمار وفي دحر المشروع الاشتراكي للرأسمالية والامبريالية. لقد اجتهدوا وأبدعوا وتركوا إرثا نظريا علميا ورصيدا عمليا خصبا للإنسانية من أجل الاسترشاد به وتطويره. وهنا تكمن بعض المهام المطروحة على عاتقنا كمناضلين ثوريين نتبنى النظرية العلمية والتحليل العلمي، أي التحليل الملموس للواقع الملموس، ومن بينها أيضا قراءة وتقييم تجاربنا "الفاشلة"، وإنجاز دراسات علمية لهذه التجارب الغنية واستخلاص الدروس منها..
لا أحد يدعو الى بناء التنظيم الثوري في حدود "ذهنه" أو على "راحة يده" أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو بالمقاهي وغيرها أو عبر انتظار الذي قد يأتي أو لا يأتي. إنها تُهم مجانية ومتحاملة تتوخى تشويه فكرة الدعوة والإلحاح على بناء الأداة الثورية كمدخل لإنجاز مهمة الثورة المغربية بقيادة حزب الطبقة العاملة. إننا عندما ندعو الى استحضار أولوية التنظيم في ظل احتداد الصراع الطبقي وهيمنة الرجعية والصهيونية والامبريالية لا نلغي الانخراط في معارك بنات وأبناء شعبنا، وفي مقدمتهم العمال والفلاحين الفقراء والمساهمة في توفير شروط نجاحها. إننا نستلهم حكمة "بناء التنظيم تحت نيران العدو" الحكيمة..
وبهذا الصدد، فالنظام ليس بعيدا عن تعثراتنا؛ بل إنه اليد الطويلة وراء أغلب الانهيارات التي عرفتها التجارب التنظيمية السابقة. وذلك من خلال التدخل القمعي المباشر (الاعتقالات والمحاكمات والأحكام الثقيلة...)، مثل حالة "الحملم"؛ أو عبر دس العناصر المشبوهة واستقطاب الحلقات الضعيفة للتفجير من الداخل، وبالتالي نسف اللّبِنات الأولى للتنظيم. وهذا الأسلوب الأخير صار لنجاعته ونتائجه "الباهرة" أكثر اعتماد من طرف النظام. علما، وهذه حقيقتنا المهزوزة، أن أغلبنا يمثل البورجوازية الصغيرة، ولا تكاد أحيانا تجد عاملا واحدا أو فلاحا فقيرا واحدا في صفوفنا. ولأن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لجل المناضلين جد متدهورة، فتلك نقط ضعف إذا لم تُستغل للاستقطاب والتدجين، تبقى عائقا يصعب تجاوزه لإنجاز المهام الصعبة، ومن بينها التواصل الميداني المنظم والمنتظم. ولا يخفى أن كثيرا من مُردّدي شعار بناء الحزب الثوري وبدون توقف بعيدون عن خوض غمار التجربة على الأرض وبما يتطلبه الأمر من تضحيات والتزام ونكران الذات، ولا يتبنون النقد والنقد الذاتي والمحاسبة إلا كشعارات للتداول والاستهلاك..
كان الانتماء الى الأحزاب السياسية يُعدُّ تميُّزا إيجابيا، طبعا يوم كانت الأحزاب السياسية يُحسب لها بعض الحساب من طرف النظام القائم؛ وخاصة الأحزاب المحسوبة على "المعارضة"، من بينها وأساسا الحزب الشيوعي المغربي، أي حزب التحرر والاشتراكية وفيما بعد حزب التقدم والاشتراكية، ثم حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية؛ وحتى حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي...
أتحدث هنا بشكل عام، أما ما يهمنا كمناضلين ثوريين، ماركسيين لينينيين، فعدم التحاقنا بهذه الأحزاب ليس رفضا للحزب أو التنظيم عموما. لقد كان ذلك موقفا سياسيا واضحا. كانت أحزابا إصلاحية وقياداتها انتهازية ومتواطئة مع النظام. ولا يمكن أن تكون إلا كذلك باعتبارها أحزابا شرعية، أي قانونية. وسقفها محدود ومُكرِّس للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة، ضدا على مصالح الجماهير الشعبية المسحوقة، وفي مقدمتها الطبقة العاملة.
كان تطلعنا الى التغيير الجذري عبر الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية بارزا. وطبيعي أن سعينا الى الالتحاق بالتنظيمات السياسية الثورية السرية، والمقصود طبعا تنظيمات الحركة الماركسية اللينينية المغربية (الحملم)، خاصة منظمتي الى الأمام و23 مارس، كان بدوره فخرا وتشريفا.
كانت تنظيمات محظورة، وكنا نعلم خطورة الانتماء اليها (الاغتيال، الاعتقال، التشريد وفقدان الوظيفة/العمل...)؛ ورغم ذلك كان شغفنا بها كبيرا وسعينا الى الارتباط بها قويا.
ماذا حصل/يحصل اليوم، خاصة واحتداد الصراع الطبقي وتواصل إجرام النظام؟
يمكن، أخذا بعين الاعتبار التحولات الإقليمية والدولية والانتكاسات التي عاشتها بعض التجارب الرائدة تحت ضربات الامبريالية والتحريفية وتعيشها حركات التحرر الوطني عبر العالم، اختصار بعض عناصر الجواب فيما يلي (لا أقصد الحصر):
1- ارتداد جل أطر الحركة الماركسية اللينينية المغربية، سواء من عانوا الاعتقال أو من لم يعتقلوا، وتخليهم عن شعاراتهم الثورية؛
2- التحاق جل من ارتدوا بالنظام القائم كخدام مخلصين ومطيعين، بل ومساهمين في عرقلة أي محاولة لإعادة البناء الثوري. وهناك من لجأ الى "واحة" ما يسمى بالمجتمع المدني، خاصة والتمويلات السخية والجهد غير المكلف و"الضريبة" البسيطة في أسوأ الأحوال؛
3- فقدان الثقة في العمل السياسي المنظم، وخاصة الثوري، بعد "فشل" العديد من المحاولات السابقة، وصعود القوى الظلامية وتصاعد/توسع نفوذها مدعومة من طرف النظام؛
4- عدم الاستعداد لأداء ضريبة التضحية، خاصة والمعاناة الصامتة للعديد من المناضلين وعائلاتهم، ومن بينهم شهداء ومعتقلين سياسيين سابقين وحاليين؛ أو للتخلي عن بعض "الامتيازات" التي تتوفر عليها البورجوازية الصغيرة أو حتى المتوسطة (محطّ جذبٍ ومغازلة طبقيين) بواسطة سماسرة الاقتراض المُكبِّل (الأبناك بالخصوص...)، كالسكن والسيارة وتدريس الأبناء بالمؤسسات الخصوصية...، وبالتالي العض عليها بالنواجد؛
5- توفر مصادر المعلومة ويُسر التوصل بها الآن؛ عكس ما كان سابقا، حيث الانتماء الى التنظيم كان يشكل "وحده" منفذا للمواكبة والتتبع. بالإضافة الى عدم مواكبة المناضلين للتحولات المجتمعية السريعة والعميقة المرتبطة بشكل أو بآخر بالساحة الدولية، خاصة والتطورات التي عرفها مجال التكنولوجيا (وسائل التواصل الاجتماعي...)...؛
6- دفء الواجهة عبر وسائل التواصل الاجتماعي (الفايسبوك وانستغرام...) دون عناء؛ وحتى الحضور الميداني يقتصر على أخذ الصور والفيديوهات والسيلفيات في الصفوف الأمامية والتدخلات وإعطاء التصريحات...؛
7- "حرية" الضرب طولا وعرضا من خلال تدوينات غير خاضعة للمحاسبة، وإطلاق الكلام على عواهنه، بما في ذلك اقتراح المبادرات وانتقاد أخرى "تجذرا" وخلطا للأوراق، وبدون متابعة أو خلاصات...؛
8- "حرية" التفاعل أو عدمه، أي عدم "التوقيع على بياض"، ودون التزام أو تقيُّد بالتنظيم القائم على المركزية الديمقراطية ومستلزماته، وذلك قمة العفوية والاتكالية والانتهازية؛
9- معانقة الشيء ونقيضه بدعوى "الديمقراطية والحق في الاختلاف"، وهو ما ذهبت وتذهب اليه جهات متعددة تبحث عن الهامش المريح وغير المكلف، بل والربحي، ومن بينها الشوفينية مُبرِّرة ارتماءها في أحضان الكيان الصهيوني واستقبال الدعم والتمويل الصهيونيين والجهر بممارسة التطبيع مع الكيان الصهيوني الدموي وتنزيل مشاريعه ومخططاته والسهر على مواصلة اختراقاته التي لا تتوقف، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا...؛
10- الغياب والحضور حسب المزاج إبان المحطات والأشكال النضالية المختارة واللطيفة، والانخراط في موضة الشبكات والائتلافات والجبهات "الإطفائية" التي تدافع عن "كل شيء" وعن "لا شيء"...؛
إنها محاولة بسيطة في صيغة نقد ونقد ذاتي ومناشدة/حُرقة نضالية لمواصلة الجهود الفعلية لبناء الأداة الثورية "تحت نيران النظام القائم"...