لنا فوق الأرض رفاق وتحتها رفاق..
حسن أحراث
الحوار المتمدن
-
العدد: 8027 - 2024 / 7 / 3 - 05:48
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
محطات الماضي المشعة زاد الحاضر البئيس..
بؤس الحاضر يفقأ العين وينشر الإحباط واليأس. وحتى المعارك النضالية التي يخوضها العمال والفلاحون الفقراء والمعطلون والطلبة والموظفون وعموم بنات وأبناء شعبنا التي تزرع فينا الأمل وتغذي فينا الصمود تحاصر من كل الجهات وتسعى سهام النظام القائم وأزلامه إلى إجهاضها وتسميم "رموزها" وخنق أنفاسها بالعصا تارة وبالجزرة أطوارا أخرى..
نقاوم اليوم ونناضل من أجل كسر طوق الحصار والعزلة عن محيطنا/مائنا الذي نتنفس فيه أوكسجين الثورة. وذلك ما يؤكد قبضنا على الجمر، موقفا وممارسة، ومواصلة المسير على درب الشهداء، ومن بينهم رفيقينا الشهيدين بوبكر الدريدي ومصطفى بلهواري اللذين جمعتنا وإياهم قضبان وصدأ الزنزانة رقم واحد (1) بحي العزلة بسجن "بولمهارز" بمراكش سنة 1984، وانصهرنا وإياهم كذات مناضلة واحدة في خضم معركة الشهيدين البطولية، معركة "لا للولاء" عنوانا للعهد والوفاء للثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية..
لا نتغنى بتضحيات الماضي لتبرير ضعف الحاضر، لكننا نستحضر الماضي من باب الاعتزاز به واعتباره خلفيتنا التي تحدد هويتنا النضالية وأرضيتنا الصلبة لمواجهة إجرام النظام وتكالب أزلامه. وأكثر من ذلك نعده الزاد الذي يعاضد وقود اليوم ويخصبه. علما أن تضحيات الأمس كانت من أجل خدمة قضية الجماهير الشعبية المضطهدة وفي مقدمتها الطبقة العاملة، ولن تكون تضحيات اليوم إلا استمرارية كفاحية لبطولات الأمس وإعلان على رؤوس الأشهاد المسؤولية تجاهها. ومن ينزعج من الذاكرة ومن الحقيقة فإنه لقيط أو متلون (سياسيا) ولا تاريخ نضالي له غير "الزقزقة" باسم النضال وتوزيع الاتهامات على "الصقور" والورود على "الحواري" والأتباع الغبية أو ذات الرغبة في الريع (للريع معاني اقتصادية، وهنا المقصود سياسيا الريع "النضالي" أو باسم النضال، وهناك من اغتنى واغنى...)، بعيدا عن طاحونة الصراع الطبقي. وللمزيد من "الإزعاج"، فمن كان منبطحا بالأمس لا يمكن إلا أن يعمل على طمس تجربته المدمرة وعلى نسيانها/تناسيها والتشكيك فيها. وليس غير المناضل الثوري من يبرز اليوم معارك الأمس ويؤطرها بكفاحية ومصداقية نضالية ويدعو إلى مواصلتها والإخلاص لها والسير على خطاها؛ دون أن ننسى أن تسليط الضوء على الماضي النضالي يفضح من تنكر له ببشاعة وانخرط في نوادي الحاضر البورجوازية التي تقتل الماضي والحاضر والمستقبل أيضا. فمن يذكر اليوم الانتفاضات الشعبية ومعارك العمال والفلاحين الفقراء والشهداء ومعارك المعتقلين السياسيين...؟!!
خلاصة القول، الماضي النضالي لا يموت، إنه حاضر ومستقبل المناضل، بل الشعب..
ويشرفني في الذكرى السنوية 40 (الأربعاء 04 يوليوز 1984) وبرأس مرفوعة (مرفوع القامة أمشي...) أن أعيد نشر عمل لي حول معركة الشهيدين الدريدي وبلهواري، بعنوان "تاريخنا/بوصلتنا"، تعبيرا عن الوفاء للقضية وتحديا لتشويش الأقزام والإمعات النكرة:
"تاريخ لم يكتب بالماء ولم يدبج إنشاء أو شعرا.. تاريخ كتب بالدماء الطاهرة، دماء الشهداء الزكية وتضحيات المعتقلين السياسيين وشموخ العائلات ودعم كافة المناضلين..
تاريخ لم ينسج على صفحات الفايسبوك أو في المقاهي.. تاريخ ليس زعيقا أو ثرثرة أو أحلام يقظة.. تاريخ ولد داخل الأقبية السرية والدهاليز المظلمة والزنازين الباردة والكاشوات النتنة والمستشفيات المتعفنة..
هذا تاريخنا/بوصلتنا الذي نعتز به ونستمد منه صمودنا وقوتنا ونسترشد به لصنع مستقبلنا وخدمة قضية شعبنا.. هذا تاريخنا الذي يقض مضجع النظام وأزلامه المكشوفة والمتسترة ويؤجج الحقد في صدور "الأبطال" الورقية التي لا تترك الفرصة تمر دون قضم لحم المناضلين والافتراء عليهم..
هذا تاريخنا/درسنا.. منذ الاعتقال إثر الانتفاضة الشعبية المجيدة ليناير 1984 بتهمة "المؤامرة الغاية منها قلب النظام" الى تاريخ انطلاق معركة الشهيدين بوبكر الدريدي ومصطفى بلهواري يوم 04 يوليوز 1984.. إنها الذكرى التي قد تنفع "غير المومنين" والنكرات الحاقدة والإمعات الموجهة عن قرب أو عن بعد..
هذا تاريخنا/درسنا لكافة الأجيال الصادقة التي يهمها فعلا وقولا السير في الدرب الشاق والشائك للثورة المغربية الآتية لا محالة..
هذا تاريخنا المتواضع أمام رصيد شعبنا البطولي وتجاربه الغنية، بعماله وفلاحيه الفقراء..
هذا تاريخنا كذلك ل"بني أمية" (من الأمية السياسية) الذين يرددون "القيل والقال" عن ظهر قلب..
هذا تاريخنا، من خلال هذه اللقطة /النبذة* المختصرة عن معركة الشهيدين:
أ - الطور الأول من المعركة:
بعد صدور الأحكام في حق مجموعة مراكش 1984 (ثلاثة قرون وعشر سنوات) لم يبق أي عذر للتعايش مع الشروط المذلة داخل سجن بولمهارز بمراكش. وتبعا لذلك نظمنا نقاشات متواصلة لبلورة الصيغة النضالية المناسبة لتحسين وضعيتنا داخل السجن ولإثارة واقع السجون بالبلاد الذي لا يختلف في جوهره وحتى الآن عن واقع الجماهير الشعبية المضطهدة. وأمام تباعد الرؤى السياسية واختلاف التقديرات والتقييمات للظرف السياسي الذي كانت تمر منه البلاد، قرر عشرة معتقلين خوض إضراب لا محدود عن الطعام من أجل تحقيق ملف مطلبي شامل. والمعتقلون السياسيون المعنيون هم:
الشهيد مصطفى بلهواري
الشهيد بوبكر الدريدي
نور الدين جوهاري
كمال سقيتي
أحمد البوزياني
الحسين باري
الطاهر الدريدي
الحبيب لقدور
عبد الرحيم سايف
حسن أحراث
وفعلا، انطلقت معركة الشهيدين يوم الأربعاء 04 يوليوز 1984. وكان من الطبيعي ومن المنتظر أن يواجه الإضراب بالتجاهل والاستخفاف. ولم تتحمل إدارة السجن بمراكش حتى "عناء" أخذ الرسالة التي تضمنت قرار الإضراب ومطالب المضربين التي تجلى أهمها فيما يلي:
- الزيارة المباشرة لكافة أفراد العائلة وكذلك الأصدقاء؛
- وسائل الإعلام والتثقيف: الجرائد، المجلات، الكتب، الراديو، التلفزيون؛
- اجتياز الامتحانات (منع المعتقلون السياسيون في صيف 1984 من اجتياز امتحاناتهم على الصعيد الوطني)؛
- الإقامة في جناح ملائم وفي ظل شروط مقبولة: التغذية، الفسحة، النظافة، التطبيب...
وتجدر الإشارة إلى أنه وبعد حوالي أسبوع من انطلاق المعركة أعلن بعض المعتقلين من مجموعة مراكش عن خوض إضراب آخر عن الطعام وقدموا رسالتهم إلى إدارة السجن لتلقى نفس مصير رسالة رفاق الشهيدين الدريدي وبلهواري.
إلا أنه وبدل الاستجابة لمطالب المضربين تم انتظار فجر يوم الجمعة 20 يوليوز 1984 لتشتيت المجموعة بكاملها سواء المضربين أو غير المضربين على سجون مراكش والصويرة وآسفي. وكانت عملية التشتيت كالآتي:
- تنقيل المعتقلين المحكومين بسبع سنوات إلى 15 سنة، إلى السجن المدني بآسفي (23 معتقلا)؛
- تنقيل المعتقلين المحكومين بثلاث سنوات إلى خمس سنوات، إلى السجن المدني بالصويرة (16 معتقلا)؛
- إبقاء المعتقلين المحكومين بسنة واحدة بالسجن المدني بمراكش (خمسة معتقلين).
كان الاستقبال حارا بسجني الصويرة وآسفي. فحتى قبل أن تطأ أقدامنا أرضيتي السجنين المذكورين، انهالت علينا التهديدات والسب والشتم بغية تكسير حماسنا منذ الوهلة الأولى. فلم يطيقوا شعاراتنا ولا تحدينا الجريء للموت البطيء. لقد اختلفت أساليب التعذيب من مراكش إلى آسفي ومن هذين الأخيرين إلى الصويرة في الشكل فقط وبقيت واحدة في المضمون. ففي الصويرة تم تعذيب المعتقلين المضربين وتشويه حالتهم عن طريق الحلق العشوائي للشارب وشعر الرأس. وتم الزج بهم على هذه الحال في عنابر معتقلي الحق العام. أما بآسفي وبعد اصطدام عنيف مع الحراس وأمام بنادق رجال الدرك زج بالمضربين فرادى بالكاشوات بعد إشباعهم جلدا وتجريحا.
ورغم كل هذا استمر الإضراب بآسفي كما بالصويرة ومراكش، وتوحدت الخطوتان/الإضرابان رغم بعض التحفظات وبعض التجاوزات. وبدورها واجهت عائلاتنا بإصرار نادر متاعب التنقل لاقتفاء أثرنا من سجن الى آخر وتصدت بشجاعة للمضايقات وقاومت الإشاعات المرعبة التي سعت بخبث إلى الأخذ من صمودها وإلى زرع البلبلة في صفوفها. وواجهنا نحن الجوع والعطش والتعتيم وأصنافا متعددة من الآلام والإجرام في عزلة تامة. ولم يتم تنقيلنا إلى المستشفيات إلا بعد تدهور الحالة الصحية لكل المضربين حيث انطلق فصل جديد من الاحتراق تميز هو الآخر بالإهمال والتيئيس وافتعال كل ما يمكن أن يؤثر على صمودنا ومعنوياتنا. فمن التقييد بالأصفاد مع الأسٍرَّة وإغلاق النوافذ والحرمان من وسائل النظافة إلى إجبارنا على القيء فوق الأرض والأسرة عندما عجزنا تماما عن الحركة. وكانت النتيجة المأساوية هي استشهاد المناضل بوبكر الدريدي بالصويرة في 27 غشت 1984 والمناضل مصطفى بلهواري في 28 غشت 1984 بأسفي، وهما في أسبوعهما الثامن من الإضراب عن الطعام. ثم سقوط عدد كبير من المضربين في غيبوبة عميقة. وبما أن الظرف السياسي كان استثنائيا حيث الحملة الانتخابية في أوجها (الانتخابات التشريعية لشتنبر 1984) تم العمل على تكسير الإضراب بأي شكل من الأشكال، خاصة بعد توسع التغطية الإعلامية للمعركة بالخارج وصدى الاستشهادات (استشهاد عبد الحكيم المسكيني في يوليوز 1984 بالسجن المدني ببني ملال وكذلك استشهاد الرفيقين بلهواري والدريدي) وعلى محاصرة كل ما من شأنه التشويش على طقوس الانتخابات. بعد ذلك تم تنقيل الحالات الخطيرة في صفوف المضربين من الصويرة وآسفي إلى مستشفى بن زهر بمراكش مع استقدام أطباء ذوي كفاءات عالية من الدار البيضاء والرباط للإشراف على الوضعية الخطيرة التي بات يتردى فيها المضربون.
أخيرا توقف الإضراب بعد 62 يوما من انطلاقه، وذلك بكل من مراكش وآسفي والصويرة بعد الوعود بتلبية مطالبنا والتي تلقيناها عن طريق الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في شخص رئيسها آنذاك وبعدما لم يعد في وسعنا، بالنظر للتمزيق الذي استهدفنا والوضع الصحي الذي أصبحنا عليه، التحكم في مسار المعركة.
وبعد قضاء مدة طويلة بمستشفيات مراكش والصويرة وآسفي تخللها أكثر من إضراب إنذاري، من جهة لمعرفة مصير مطالبنا ومن جهة أخرى لانتزاع بعض المكاسب داخل المستشفى كالراديو الذي لم يتمتع به المضربون بآسفي قط بالإضافة إلى الجرائد والكتب والمجلات، تم تنقيلنا إلى سجون آسفي والصويرة ومراكش ما عدا بعض المعتقلين الذين كان وضعهم الصحي يستدعي البقاء بالمستشفى. أما مطالبنا فلم تلب بسجني آسفي ومراكش، وأكثر من ذلك أصبحنا أمام مطلب جديد انضاف إلى مطالبنا الأخرى وهو مطلب الجمع بسجن واحد.
رسالة تعزية:
وجهت منظمة إلى الأمام المغربية رسالة تعزية إلى عائلات ورفاق شهداء معركة الإضراب عن الطعام بسجون مراكش وآسفي والصويرة، هذا نصها:
"إلى كل زهرة نمت في أحضان الجماهير الكادحة، فداستها أقدام الهمجية...
إلى كل شمعة اشتعلت فاحترقت لتضيء هذا الوطن...
إلى كل الذين سقطوا في ريعان شبابهم في ميدان الشرف خدمة لقضية شعبهم...
إلى كل هؤلاء الذين تحدوا القمع والحصار متشبثين بالطريق النضالي حتى الشهادة... وإلى كل مناضلي الشعب المخلصين وكل العائلات والأمهات نتقدم بالتحية والتعظيم.
إن عزاءنا وعزاءكم الوحيد، الذي يجعلنا نبتسم والدمع في الأجفان، هو هذا العهد الذي جمعنا وجمع كل أحرار المغرب مع شعبهم... عهد النضال ومواصلة طريق الشهداء ضد العدو الحقود المسؤول عن مآسي الشعب المغربي بأجمعه وعن فاجعته في فقدان أبناء له، من أوفى الأبناء.
فتحية لأبناء الزحف المقدس صناع الغد الجديد. والمجد والخلود لشهدائنا الأبرار من الزرقطوني إلى الدريدي...
وسيعلم طغاة اليوم أي منقلب سينقلبون..."
ب - الطور الثاني من المعركة:
استمرت النقاشات التي كانت قد استؤنفت في صفوف المجموعة المضربة الموزعة على مستشفيات مراكش والصويرة وآسفي رغم صعوبة التواصل ورغم الشروط الصحية المتدهورة لجل أفرادها حتى بعد التنقيل إلى السجون. ومن جديد برزت الخلافات حول ما يمكن أن نقدم عليه في ظل المعطيات الجديدة. مما أدى في آخر المطاف، أي بعد ما وصل النقاش إلى الباب المسدود، إلى مواصلة المعركة فقط من قبل المجموعة الأولى التي أضربت عن الطعام في 04 يوليوز 1984 واستشهد في صفوفها الشهيدان بلهواري والدريدي (رفاق الشهيدين) بالإضافة إلى معتقل آخر التحق بالإضراب الأول في السجن المدني بالصويرة. علما أننا لم نسمح للمناضلين الحبيب لقدور وعبد الرحيم سايف بالدخول في الإضراب الثاني رغم إصرارهما على ذلك، نظرا لوضعهما الصحي المتردي والذي ما فتئ يزداد سوء نتيجة عزلتهما القاهرة المستمرة آنئذ، وهي نفس وضعية المعتقلين السياسيين السابقين عبد الكريم بيقاري وخالد نارداح. مما يستدعي وفي أسرع وقت الالتفات إليهم قبل فوات الأوان.
خاض رفاق الشهيدين الموزعون على سجني آسفي والصويرة ومستشفى ابن زهر بمراكش إضرابات إنذارية عديدة كان أطولها الإضراب الذي دام من 25 أبريل إلى 19 ماي 1985 (25 يوما) والذي تم توقيفه كآخر فرصة أمام الجهات المسؤولة لمراجعة الوعود الكاذبة التي على إثرها أوقفنا الإضراب اللامحدود الأول عن الطعام. لكن، لا حياة لمن تنادي، حيث تم تنقيل ستة مضربين بعدما تم تجميع الكل بمستشفى ابن زهر بمراكش إلى مستشفى الصوفي بالدار البيضاء لمدة أسبوع وليتم بعد ذلك إرجاعهم إلى السجن المدني بمراكش في ظل نفس الوضعية غير المقبولة.
وأمام التعنت واللامبالاة اللذين قوبلت بهما الإضرابات الإنذارية بغية فرض الأمر الواقع، واقع الذل والمهانة خاض رفاق الشهيدين في 23 يونيو 1985 إضرابا لا محدودا عن الطعام باعتبار هذا الأخير سلاحا فعالا لإسماع صوت المعتقل وصيانة كرامته، مصرين على اختراق الصمت والحصار ورفض الذوبان كما حصل لبعض التجارب السابقة رغم التضحيات البطولية التي تم تقديمها (مجموعة تزنيت كمثال صارخ). وكالعادة ألقي بالمضربين داخل الكاشوات التي تحولت إلى أفران حارقة بفعل حرارة صيف مراكش، بدون ماء ولا سكر لمدة أربعة أيام. وبعد ما يزيد عن 20 يوما داخل الكاشو نقلنا إلى ما يسمى بالمصحة داخل السجن ومكثنا هناك في شروط كارثية إلى غاية 03 غشت 1985، وهو تاريخ تنقيل جوهاري والدريدي وسقيتي إلى مستشفى ابن رشد بالدار البيضاء (موريزكو) وبالضبط إلى قسم الإنعاش الجراحي (الجناح رقم 17). وفي 05 غشت 1985 ألحق باري والبوزياني وأحراث بنفس الجناح. وقد تمت محاولات عديدة بمراكش كما بالدار البيضاء عبارة عن إغراءات ومساومات كان الهدف منها هو كسر وحدة المجموعة المضربة وبالتالي ضرب المعركة خاصة إبان انعقاد القمة العربية بالدار البيضاء في غشت 1985 ومجيء البابا إلى المغرب. لكنها محاولات باءت كلها بالفشل، وهو نفس ما حصل مع العائلات للتأثير على المضربين وحملهم على توقيف الإضراب.
وأمام عدم ثقة المضربين بالوعود وبالمقابل تشبثهم الواعي والمسؤول بشروط توقيف الإضراب المتمثلة باختصار في فتح حوار مسؤول وجاد يتم في إطاره تحقيق كافة المطالب. وأمام عدم رضوخهم لأساليب الترهيب والترغيب اقتناعا منهم بخطورة ما سيشكله أي تراجع في رهان قوة هو الأول من نوعه ببلادنا ليس فقط على المجموعة المضربة بل على كافة المعتقلين السياسيين تم اللجوء بشكل سافر وفظ، مستغلين في هذه العملية القذرة عدد المضربين (06 فقط بعد توقيف الإضراب من طرف المضرب الملتحق من الصويرة)، إلى شل حركتهم وتخديرهم بواسطة خليط من المواد المخدرة نذكر من بينها:
PHENERGAN, DOLOSAL, VALIUM, LARGACTIL… وإلى تقييدهم مع الأسرة (تقييد اليدين والرجلين) ثم تأكيلهم بالقوة بواسطة المسبار وآلات التأكيل الاصطناعي والتي تستعمل في الحالات العادية لتغذية المرضى في غيبوبة طويلة. وكان كل ذلك يمر تحت أنظار وبمساهمة عدد كبير من الأطباء* ضدا على الضمير المهني وضدا على الأخلاق وضدا على المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وخاصة ما تعلق بدور الطبيب أو طاقم التمريض في المشاركة في مثل العمل الإجرامي الذي تعرضنا له.
استمرت هذه الوضعية الجهنمية مع بعض التغيرات الطفيفة التي كانت تصب كلها في تجاه تركيع المضربين وتدميرهم واستمرت معها عذابات العائلات ومعاناتهم (التهديد بالاعتقال، الاعتقال فعليا، المضايقات...) وأدت ثمن تشبثها بأبنائها ومؤازرتهم من راحتها ومن وقتها ومن صحتها. ولا يفوتنا هنا أن نقف إجلالا وإكبارا لروح إحدى أمهاتنا الصامدات التي لم تكن تعرف للنوم أو للراحة طريقا أو طعما منذ اعتقال أول ابن لها والتي تجرعت مرارة استشهاد الثاني (بوبكر الدريدي). فقد قادت إلى جانب أمهاتنا وأمهات كل المعتقلين السياسيين على الصعيد الوطني المعارك تلو الأخرى من أجلنا ومن أجل كل المغيبين قسرا إلى أن ماتت واقفة بعد نزيف دموي في الدماغ في 17 مارس 1990.
وأمام حدة التغطية الإعلامية للمعركة ودخول معتقلين سياسيين بكل من السجن المركزي بالقنيطرة (السرفاتي وبعض رفاقه) وسجن لعلو (بنعمرو وبعض رفاقه) في إضرابات عن الطعام لمؤازرتنا بالإضافة إلى حملات التضامن الواسعة معنا من مختلف السجون المغربية، أصدرت وزارة الداخلية في أكتوبر 1985 بلاغا أذيع على أمواج الإذاعة والتلفزيون يطمئن الرأي العام على وضعنا الصحي، وتضمن مغالطات فجة قامت عائلاتنا بالرد عليها في حينها.
إلا أن كل المحاولات التي دفعت نحو إيجاد حل مقبول لوضعيتنا أقبرت سواء محاولات من داخل البلاد أو من خارجها (منظمة العفو الدولية بالخصوص). واستمرت وضعية المضربين لما يفوق ست سنوات (من 23 يونيو 1985 إلى 16 غشت 1991) مقيدين إلى الأسرة بالأصفاد بدون زيارة وبدون كتب وبدون مجلات وبدون جرائد وبدون حتى الأقلام أو الأوراق وبدون وسائل النظافة، ما عدا عمليات موسمية كانت تمر تحت إشراف البوليس السري وتتكاثف أثناءها جهود عناصر الحراسة لنتف شعر المضربين وقلع أظافرهم ولصب بعض القطرات من الماء البارد في أغلب الأحيان على أجسادهم تحت يافطة النظافة.
وبعد استشهاد المناضل عبد الحق شباضة في 19 غشت 1989 في الإضراب اللامحدود عن الطعام الذي خاضه بعض المعتقلين السياسيين بسجن لعلو بالرباط، اشتدت مرة أخرى الحملة الإعلامية حول الإضرابين وحول واقع السجون بالمغرب. مما دفع بالوزارة الأولى إلى إصدار بلاغ حول أوضاع المضربين بكل من الدار البيضاء (أحراث وجوهاري) والرباط (حسن العلمي البوطي وعبد الإله بن عبد السلام وعبد الفتاح بوقرو) أذيع بدوره على أمواج الإذاعة والتلفزيون.
ورغم ذلك استمرت حملات التضامن بالداخل من طرف الهيئات الحقوقية بالخصوص وبالخارج من طرف منظمة العفو الدولية على رأس منظمات إنسانية وحقوقية أخرى. وسدت جميع الأبواب وأغلقت الآذان في وجه كل النداءات التي دعت إلى تسوية وضعية المضربين. وهو المآل الذي لقيته توصية البرلمان الأوربي بهذا الشأن في 14 دجنبر 1989.
وفي سنة 1990 اتخذت إجراءات عديدة على المستوى الرسمي لقيام منظمة العفو الدولية بزيارة المضربين أحراث وجوهاري. إلا أن المحاولة باءت بالفشل لما تشبث المضربان بإجراء حوار تحضره الهيئات الحقوقية المغربية.
واستمرت المعركة حتى 16 غشت 1991 عندما أفرج عن أحراث وجوهاري الى جانب 40 معتقلا سياسيا من مختلف سجون البلاد، ومن بينها السجن المركزي بالقنيطرة..
كان انتصارا باهرا لمعركة الشهيدين.. وسنستمر حتى الانتصار الكبير لقضية الشعب المغربي..
كل التضامن والدعم للمعتقلين السياسيين وعائلاتهم ولكل ضحايا القمع السياسي..
المجد والعزة لشهداء شعبنا الخالدين..
* مقتطفات بتصرف من كتابي "مجموعة مراكش.. انتفاضة يناير 1984.. معركة الشهيدين بلهواري والدريدي" (دجنبر 2006) و"مجموعة مراكش.. تجربة اعتقال قاسية" (2012).
3 يوليوز 2016"