لاهوتيات- المسيرة لإله مثلث الأقانيم


كمال غبريال
الحوار المتمدن - العدد: 7670 - 2023 / 7 / 12 - 02:49
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

كيف صار تعدد الآلهة توحيداً، ثم صار الإله الواحد ثالوثاً؟
كان "يهوه" أحد الآلهة العديدة في منطقة الشرق الأدنى القديمة. ووفق التراث الديني اليهودي، قد اختار إله الأعاصير والبراكين "يهوه" القبائل العبرانية لتكون شعبه الخاص، من بين الشعوب العديدة التي تزاحمت مبكراً في أرض ما يعرف الآن باسم فلسطين.
والأصح منطقياً بالطبع أن نقول أن القبائل العبرانية هي التي اختارته إلهاً قومياً خاصاً بها. رغم أنها ظلت تخلط في عبادتها بين عدة آلهة، مثل إيل وأدوناي وبعل وغيرها.
كان إله القبائل العبرانية بداية يسير أمامهم في عامود سحاب نهاراً، وعامود نار ليلاً. ثم استقر داخل تابوت فَصَّل لهم بنفسه مواصفاته. وصاروا يحملونه معهم في ترحالهم. وكان التابوت يُسرق منهم في غزوات الشعوب لهم، ثم يستعيدونه.
وأخيراً طالبهم "يهوه" ببناء بيت له. كيلا يظل متجولاً، فيما شعبه بدأ يستقر في منازل. واختار أن يبني له هذا البيت سليمان، الملك الأسطوري في تاريخ العبرانيين المقدس المتوارث. ليستقر بعد ذلك الإله اليهودي "يهوه" في هيكله المقدس بأورشليم. وهو الآن مشتت بلا مأوى، بعد هدم القائد الروماني تيطس عام 70 م. هيكله، ولم يتح إعادة بنائه حتى الآن.
الإله المسيحي أمره مختلف. رغم الادعاءات المسيحية الرسمية، أن إله المسيحية هو ذاته "يهوه" إله العبرانيين، مع تحسن كبير في أخلاقه. التي جعلت الإله المتعطش لسفك الدماء، يصف نفسه بأنه "محبة".
فتصورات إله المسيحية تعود لمنظومة آلهة اليونان القديمة. تلك الآلهة التي لم تسكن السماء، وإنما سكنت قمة جبل الأولمب بأثينا. تحت قيادة كبيرها "زيوس". الذي أخذ في المسيحية لقب "الآب".
ولم تكن آلهة أثينا أرواحاً محضة. وإنما كانت أرواحها تتخذ أجساد بشر وحيوانات. وأجساد مزيج بين البشر والحيوان. كما كان فيها الإله الأب والإله الابن والإلهة الأم. لذا لم تكن مفاجأة أو غريباً مستهجناً، أن نجد واضع مقدمة إنجيل يوحنا يقول:
"والكلمة صار جسداً وحل بيننا" يو 1: 14
ونجد امرأة صارت تلقب بالعذراء والدة الإله. بديلاً لإيزيس المصرية وأثينا اليونانية وعشتار الفينيقية.
فآلهة اليونان عايشت وتعايشت مع البشر. ولم تكن أرواحاً منعزلة في السماء. بل تناسلت مع البشر، وأنجبت منهم أنصاف وأشباه آلهة.
اللاهوت المسيحي إذن عبارة عن منظومة فكرية يونانية. تم خلعها على "يهوه" الإله العبراني القديم. وقد حدث هذا فجأة وتعسفياً، من قبل مسيحيي الأمم. من الرومان واليونانيين والسكندريين، في القرون الأولى بعد الميلاد. دون أن يكون لهذا التغير في الهيكل اللاهوتي تدرجاً مرصوداً في أسفار العهد القديم. أو التناخ اليهودي.
لقد سار "يهوه" كواحد من آلهة منطقة الشرق الأدنى العديدة. في مسيرة تطور مع تطور المستوى الحضاري للقبائل العبرانية. ليصير في الذهنية اليهودية مع الوقت هو الإله الوحيد الأوحد للعالم كله. تماماً مثل الرؤية اللاهوتية الإسلامية للإله.
حتى جاءت المسيحية لتغير مسيرته. ولتقوم بدون مناسبة، بحشر الإله البدوي العبراني "يهوه"، في لباس يوناني روماني. ليصير الإله المسيحي مثلث الأقانيم. لذا يبدو "يهوه" غريباً في زيه هذا. كأنك أتيت ببدوي نحيل هزيل، وألبسته ثياب وتاج أباطرة الرومان. فهكذا يصبح منظره هزلياً باعثاً على السخرية، بأكثر مما يكون باعثاً على الهيبة والاحترام المفترضين لإله!!
في حين لو فصلنا إله المسيحية عن الإله البدوي البدائي "يهوه" وتراثه، سنجد لدينا الإله اليوناني مثلث الأقانيم. العظيم زيوس في موقع الآب، وعن يمينه الابن، وعن يساره الروح القدس. في مشهد مهيب يليق بمسيرة حضارية إنسانية، مؤسسة على الحضارة اليونانية فائقة الثراء.