سيكولوچية التدين
كمال غبريال
الحوار المتمدن
-
العدد: 8167 - 2024 / 11 / 20 - 18:50
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
نحاول البحث في حالة اليقين المطلق المرصود لدى المؤمنين بالماورائيات. رغم أن سائر وقائع الحياة العينية والتجارب الإنسانية اليومية تكذبها.
والبحث في سر ذهاب الإنسان المتدين لخداع نفسه، بتخيل خوارق ومعجزات شاهدها. وما قد يقنع به نفسه من معونات إلهية تدخلت لتنقذه من مصاعب واجهها.
مايحدث أن الطفل ينشأ ويتعرف على الحياة، مع التخيلات التي تتشكل في ذهنه للهياكل الدينية. التي يراها لا تقل حقيقية عما يكتشفه في العالم، ويشاهده بعينيه ويلمسه من وقائع الحياة العينية.
وبممارسة الطقوس الدينية يحب الصبي تلك الهياكل ويعيش متماهياً فيها. وعندما يشب عن الطوق يرتاح الشاب اليافع لما تعده به العقيدة من رعاية وحماية واستجابة لأمنياته، من إله قادر على كل شيء. فهذا يهدئ من رهبته في بداية مواجهته لعالم يبدو له قاسياً مرهوباً صاخباً.
كما يرتاح ويطمئن قلبه إزاء ماقد يتبادر لذهنه من بوادر شكوك يُسكتها، بالاستناد لترسانة متخمة من الخطاب الديني. تبرر ما يصرخ به الواقع، من انتفاء أي رعاية حقيقية أو استجابة للتضرعات المرفوعة لتلك القوة العليا المحبوبة المعبودة.
وإذا ما أضفنا إلى التأثير السيكولوچي الطاغي لتلك الحالة، تأثير الانتماء للجماعة التماساً للأمان والدفء. يكون أمر تشغيل العقل النقدي في مقولات الدين أمراً غاية في الصعوبة والندرة. وغالباً مايذهب العقل النشط إلى منهج التبرير والتأويل ومحاولة الفهم المجازي، لكل ما يعترضه مما لا يستسيغه المنطق العقلي. أو ما لا تقبله وتجرمه معايير العصر وقيمه وأخلاقه.
كما أن النشأة والمعيشة في بيئة متدينه يندر فيها المروق عن الدين، يخلق حالة تجسيم وتجسيد للفكر الديني. تماماً كما لو كانت حقائق. كشروق الشمس يومياً صباحاً وغروبها مساء.
أي أن المقولات الدينية وحكاياتها ومزاعمها الخرافية، تكتسب كحقيقة، ذات قوة اليقين من حقيقية الأشياء المجسدة الملموسة كالجبال والبحار.
هكذا يغوص الفاشل المحبط مستغرقاً في حالة التدين. هروباً من الواقع. وأملاً في عون دنيوي، أو تعويض أخروي.
وبذات القدر يزداد الناجح المُنَعَّم في الالتزام بالطقوس الدينية. تكفيراً عما يرتكب من ذنوب، واسترضاء للإله ليديم عليه مايرفل فيه من نعم.
الخروج من تلك الحالة والتعامل العقلي النقدي مع النصوص المقدسة والمعتقدات الشائعة هكذا أمر غاية في الصعوبة. ولا يستطيعه إلا من نشأ في بيئة لم تتمثل فيها الحالة التي استعرضناها بصورتها الكاملة المهيمنة. كما قد يستطيعه بعض من أصحاب السيكولوچيات المتمردة والعقول النشطة غير القابلة للخنوع والاستكانة.