صراع العلمانية والدين


كمال غبريال
الحوار المتمدن - العدد: 7485 - 2023 / 1 / 8 - 00:03
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

يختلف تعريف العلمانية الأساسي عن ملامح تطبيقها. وهناك بالطبع ارتباط حتمي بين التعريف وملامح التطبيق.
"العلمانية" هي "الانشغال بالعالم"، وليست بالأساس "فصل الدين عن الدولة". وإن كان هذا الفصل مطلوباً لتحقيق الهدف المنشود من العلمانية، إذا ما كان الدين انشغالاً بالعالم الآخر. أو كان فرضاً لإيديولوچية أو دوجما جامدة. فمسألة فصل الدين عن الدولة بل وعن عموم الحياة العامة والمشتركة بين أفراد المجتمع في هذه الحالة، هي من ضرورات الانشغال الصحيح والعلمي الواقعي بالعالم.
الدين، أي دين مما نعرفه في منطقة الشرق الأوسط، يحتوي كلا الأمرين: الانشغال بالعالم المادي، والانشغال بالعالم الآخر السماوي الروحي. وتختلف نسبة كل مكون من هذين في الفكر أو اللاهوت الديني بين دين وآخر، مما نسميه أدياناً إبراهيمية.
ونستطيع دون الدخول في تفصيلات دقيقة القول:
- أن اليهودية يكاد يغيب عنها الاهتمام بالعالم الآخر. بل وفي تاريخها كان هناك طائفة الصدوقيين الذين لا يعترفون بوجود عالم آخر.
لذا يمكننا اعتبار اليهودية إيديولوجية قومية للشعب أو الأمة العبرانية، لتنظيم وضبط حياة الأمة على الأرض، بأكثر مما تكون ديناً يرشد لحياة روحية مفارقة للواقع المادي.
المسيحية كما نرصد من مجمل اللاهوت المسيحي، تنحو لازدراء العالم الأرضي المادي. وتصبو لخلاص روحي في ملكوت الإله السماوي. فالمسيح ملك سماوي، وليس ملكاً أرضياً على هذا العالم. والمكون المنشغل بالعالم في اللاهوت المسيحي ضئيل، وقابل للترويض والاستئناس. هذا مالم نقر أيضاً بتضمنه لعناصر إيجابية لصالح الاهتمام بالعالم وصلاح أحواله.
المسيحية هكذا الضد من مفهوم العلمانية، الذي هو الانشغال بالعالم المادي. لكن هذا التضاد المبدئي بين المسيحية والعلمانية، جعلهما ليسا في حالة اشتباك أو صراع وجود. وجعل من السهل مع اليسير أو العسير من الضغط والتحجيم لدور رجال الدين أن يتعايشا معاً. كما نرصد في حالة المجتمع الأمريكي المتدين في قطاع معتبر منه، وفي نفس الوقت علماني.
اللاهوت أو الفكر الإسلامي يتفق مع تعريف العلمانية بأنه منشغل تماماً وبصورة مطلقة بالعالم المادي. والحياة الأخرى الموجودة بقوة في هذا اللاهوت هي عبارة عن ثواب أو عقاب على مدى الالتزام بالفروض والوصايا الواردة. والتي تهدف لصلاح الحياة وانتظامها من منظور اللاهوت الإسلامي.
من هنا يأتي الاشتباك أو التضاد والصراع بين العلمانية واللاهوت الإسلامي، رغم اتفاقهما في الاهتمام بالعالم المادي. أو فلنقل يأتي الاشتباك نتيجة صراعهما على السيطرة على العالم المادي، كل منهما بمنظوره الخاص.
الخلاصة:
- المسيحية (وياللعجب) أدى تضادها مع العلمانية في مركز الاهتمام، إلى إمكانية تعايشها مع النظم السياسية والاجتماعية العلمانية. واضعة أمام المؤمنين بها القول الشهير ليسوع: "أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله".
وبالطبع يحتاج هذا التعايش بين المسيحية والعلمانية إلى يقظة من المكون العلماني القح أو اللاديني في المجتمع. حتى لا يتوسع الكهنة دائمو السعي لتعظيم نفوذهم، فيختل ذلك التوازن العلماني الحرج.
تبقى مشكلة الصراع بين العلمانية كنظام سياسي اجتماعي مع كل من اللاهوت اليهودي والإسلامي.
فاهتمام كلا اللاهوتين بالعالم، وتضمنه منظومة كاملة شاملة ومفصلة، لتنظيم حياة الفرد والمجتمع، يضع كلا اللاهوتين في حالة صراع وجود مع النظم العلمانية الليبرالية الحديثة. "إما أو" . . إما الدين بكامل فروضه ووصايا وأحكامه. وإما ذهاب الإنسان بالعلمانية خلف أهواء عقله وشهواته!!
فنحن نرى موقف الطوائف اليهودية الملتزمة من دولة إسرائيل ونظامها العلماني الديموقراطي. والذي وصل إلى رفض مواطنين إسرائيليين يهود الانضمام للجيش الإسرائيلي. بل هناك من اليهود الملتزمين من يرفض الدولة الإسرائيلية من الأساس، ويرفض الهجرة إليها، وذلك لتكوينها غير الديني من وجهة نظرهم.
وفي الجانب الإسلامي نرى الصراع والعداء أشد للعلمانية ونظمها السياسية والاجتماعية. سواء من رجال الدين أو من عموم المؤمنين.
لكن
إذا كانت العلمانية تتفق مع كل من اللاهوت اليهودي والإسلامي في الاهتمام بنفس الأمر وهو صلاح هذه الحياة الدنيا، فما هو أساس الخلاف أو مبرر الصراع بينهم؟
الإجابة ببساطة:
العلمانية الحديثة تنتهج الليبرالية باختلاف أجنحتها. كما تعتمد على العلم في مقاربة مسائل الحياة، للتوصل إلى أفضل الحلول والحالات تحقيقاً لرفاهية الإنسان. وهي الأمور والحلول بل والمسائل المتغيرة مع الزمن. في مسيرة إنسانية لا ثابت فيها إلا قانون التغير الدائم.
فيما اللاهوت الديني عموماً لديه مجموعة من الفروض والوصايا الجاهزة والثابتة عبر المكان والزمان. والحيود عنها يعد خطيئة يرتكبها الفرد أو المجتمع في حق الإله.