مغادرة وادي المقدس
كمال غبريال
الحوار المتمدن
-
العدد: 7734 - 2023 / 9 / 14 - 20:52
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بعد أن تجاوز الإنسان الأول مرحلة التجوال الفردي الحر، والتغذي على الالتقاط من ثمار الأشجار الساقطة. وبدأ في التعرف على الزراعة وتدجين الحيوان، والعيش المستقر في مجتمعات بدأت صغيرة، وتوسعت وتضخمت مع الوقت، احتاج لتنظيم التعاملات المجتمعية. والتي تضاد بعضها مع النزعة الأنانية الفردية للإنسان. . ولتحفيز الفرد على الالتزام بهذه القواعد الضرورية، ارتأت الجماعة وكبارها نسبة تلك القواعد لإله. يعاقب ويكافئ الفرد على مدى التزامه، لتكتسب لدى عامة الناس هيبة ورهبة من كسرها.
كانت هذه هي الوظيفة النفعية أو الشق النفعي الإيجابي للآلهة. والتي التحقت بالفكرة الأولية السلبية عن الآلهة، وهي السعي لاتقاء شرورها. وقد تصور الإنسان الأول الآلهة في قوى الطبيعة المدمرة. والتي سعى لاسترضائها بطقوس بدأت بسيطة وتطورت مع الوقت.
وكانت مشيئة الآلهة الإيجابية تجاه البشر تتطور. بالتوازي مع تطور وعي وظروف حياة المجتمعات الإنسانية. في البداية كانت مشيئة الإله وكلامه يتطور بالمزيد مما يتداوله الناس والكبار الأتقياء من مقولات ووصايا إلهية جديدة ترد للناس، كما كان يشاع بين الحين والآخر. وأيضاً كانت عمليات الحذف بالنسيان أو التناسي وعمليات الإضافة لكلام الآلهة، تتم بسهولة وسلاسة في ثقافة شفاهية. فتتطور الروايات حسب الحاجة على ألسنة الرواة. وينسى منها الناس تلقائياً ما يميلون لنسيانه، ويتذكرون ما أحبوا تذكره، مضيفين إليه ما يرتأون إضافته. وظل الأمر كذلك حتى بعد معرفة الكتابة، التي لم تكن تلعب في البداية دوراً يكاد يذكر في نشر التعاليم والوصايا الإلهية، في بيئات اعتمدت الحكي الشفاهي. ولا يقوم فيها بالتدوين غير الصفوة التي اختار كثيرون منها مهنة الكهانة.
لكن تدريجياً مع انتشار استخدام المدونات في تداول الأفكار في المجتمعات، وتقلص الاعتماد على الحكي الشفاهي، كانت عملية تطور تعاليم ومشيئة الآلهة مع تطور حياة البشر تصير أكثر صعوبة. فقد كانت تعاليم الإله تكتسب ثباتاً بحفظها في مدونات. بينما كان تطور الحياة المجتمعية الإنسانية يتم بصورة متسارعة.
ومع الوقت بدأت تظهر الفجوات بين مشيئة الإله أو الآلهة المثبتة في المدونات، وبين واقع حياة الناس، والنظم الأنسب لضبط متغيرات حياتهم.
مع الوقت ومع تفاقم تلك الفجوات التي بدأ يتبلور تعريف لها. بأنها فجوات بين النصوص المقدسة وواقع الحياة ومتطلباتها. بدأت تظهر آليات جديدة لحل تلك الإشكالية.
منها اللجوء للاختيار بالتركيز والإهمال من بين متون النصوص حسب ظروف الواقع.
ومنها محاولات إعادة التفسير والتأويل للنصوص، لتناسب واقع الحال.
ثم كان هناك ما نسميه اليوم بالعلمانية. التي تعتمد على سن قوانين تنظم علاقات المجتمع، لا يتم نسبتها للآلهة. وإنما تنسب للجماعة. سواء القبيلة أو الدولة.
لكن من الواضح في استعراضنا هذا أن ثبات النصوص المنسوبة للآلهة، مقابل التغير المستمر في شكل حياة الناس، يؤدي بصفة مستمرة لزيادة الفجوة بين المقدس والواقع.
وهذا يقود البشرية بالحتم لمصير واحد.
هو مغادرة الإنسان لأودية المقدس. إلى فضاء إنساني، بلا خطوط أو صخور قداسة.