قراءة أسطورة عبرانية
كمال غبريال
الحوار المتمدن
-
العدد: 7664 - 2023 / 7 / 6 - 07:53
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هذه محاولة قراءة لإحدى روايات سفر التكوين، أول أسفار "الكتاب المقدس". تلك الروايات التي تبدو لنا ساذجة وطفولية الصياغة. لكننا إذا تأملنا ما بين سطورها من معان رمزية، مستقلين عن الفهم الشائع لها، نستطيع إلقاء نظرة على تطور تصورات الإنسان للآلهة، عبر حقبة زمنية تمتد لحوالي أربعين قرناً مضت.
يبدأ "الكتاب المقدس" وسفر التكوين بقصة خلق الكون، منذ لحظة بداية تقول أن الظلمة والمياه كانتا تغمران الأرض. وروح الإله التي تصورها كاتب السفر على شكل حمامة أو طائر نورس، يرف على وجه المياه.
يحكي لنا السفر مراحل خلق الإله الطائر هذا للكون وكائناته. ثم يدخل بنا في قصة مواجهة بين الإله الخالق (يهوه عند العبرانيين) والإنسان المخلوق (آدم).
حيث غرس الإله بين أشجار جنته التي أطلق فيها آدم وشريكته حواء، شجرة لمعرفة الخير والشر. وشجرة أخرى للحياة. وحَرَّم على الإنسان الأكل من شجرة معرفة الخير والشر. مهدداً له بعقوبة، "أنه يوم يأكل منها موتاً يموت".
وتمضي القصة الطريفة في الرواية، بأن الحية تحدثت لحواء وكذبت يهوه في تهديداته. وحرضتها على عصيان الإله والأكل من الشجرة المحرمة.
هنا يجدر بنا أن نتوقف لنتساءل:
من الكذاب ومن الصادق في الرواية هذه؟
يهوه في كلامه مع آدم؟
أم الحية في كلامها لحواء؟
نلاحظ أنه:
- قال يهوه لآدم أنه يوم يأكل من شجرة المعرفة موتاً يموت.
- قالت الحية لحواء لن تموتا، بل تصيران مثله عارفين الخير والشر.
- بعدما أكلا، قال يهوه مخاطباً نفسه: هوذا الإنسان صار كواحد منا عارفاً الخير والشر. وأسرع بإرسال ملاك لحراسة شجرة الحياة، خوفاً من أن يأكل منها آدم فيعيش للأبد. على حد قول يهوه لنفسه.
نستطيع بسهولة هنا، أن نكتشف كذب يهوه وصدق الحية.
ليس فقط في كون آدم لم يمت وفق تهديد يهوه له. لكن أيضاً في اعتراف يهوه أن آدم قد صار مثله، عارفاً الخير والشر، تماماً كما كما قالت الحية لحواء.
كما يتضح كذب يهوه بأن الموت سيكون مصير آدم يوم يأكل من الشجرة، في خشية يهوه من أكل آدم من شجرة الحياة فيحيا إلى الأبد.
الأخطر مما سبق هو أن القراءة المتمعنة لهذه القصة، لا تُظْهِر الإله البدائي القديم يهوه بمظهر القداسة المطلقة، كما ننظر إليه نحن الآن، بل بالعكس. تصور القصة نوازع الشر والأنانية لدى يهوه. حين أراد أن يحرم آدم وحواء من المعرفة والوعي بعالمهما، ممثلاً رمزياً بحرمانهما من الأكل من ثمرة شجرة معرفة الخير والشر.
ليس هذا فقط.
لكن تسند الرواية موت الإنسان وكل أنواع الشقاء الذي يلقاه كل من الرجل والمرأة في الحياة، إلى هذا الإله الناقم على الإنسان.
فهو الذي حرم الإنسان من الأكل من شجرة الحياة، التي لو أكل منها لصار خالداً كالآلهة. وذلك بتسخير يهوه لملاك بسيف نار. يمنع آدم وحواء من الاقتراب من الشجرة. وتعدد القصة أنواع الشقاء الإنساني في الحياة، في صيغة عقوبات قررها الإله الغاضب على الإنسان. ومنها شقاء الرجل في كسب العيش. وآلام المرأة في المخاض والولادة. بل وأيضاً شهوتها للرجل، تم اعتبارها عقوبة من يهوه للمرأة.
تخبرنا القصة أيضاً أن الإله الجبار المستبد، قد صب غضبه على الحية الحكيمة. وحكم عليها بالزحف على بطنها، وبأن تأكل التراب. وبأن يطاردها الإنسان ويسحق رأسها، وهي تسحق عقبه.
يسرد لنا سفر التكوين بعد ذلك عدة قصص، تصور جبروت هذا الإله الناقم الغاضب دوماً على الإنسان. فيغرقه بطوفان تارة. ويحرقه بالنار والكبريت تارة. ويضربه بالأوبئة وبالحيات والعقارب، وغيرها من الضربات.
كل ذلك لكي يروض الإله الإنسان ويخضعه لسلطانه.
كانت التصورات الأولى للإله هكذا لا تشمل صفات كثيرة مما ينسبها اللاهوت المتأخر للإله.
كانت الآلهة البدائية مجرد قوى جبارة غاضبة، بما يجعل كل هم الإنسان استرضائها واتقاء غضبها. بتقديم الذبائح، سواء البشرية أو الحيوانية.
لم تكن صفات كالرحمة والرعاية والمحبة الإلهية للبشر قد دخلت بعد في المفاهيم اللاهوتية. وهي المفاهيم التي عرفها الإنسان متأخراً.
ونلاحظ أن تلك الصفات الخيرة التي منحها اللاهوت المتأخر للآلهة، تتعارض أو تواجه الصفات القديمة الأصيلة للآلهة. فغضب الإله يتعارض مع حلمه. . أو حتى مع تنزيه الإله عن المشاعر العاطفية التي للإنسان. كذلك صفات مثل المحبة والرعاية الإلهية. لا تبدو منسجمة مع الصفات الغضبية للآلهة البدائية التي صورها لنا سفر التكوين.
يساعدنا فهم تطور فكر الألوهية لدى الإنسان عبر الزمن، على إدراك سر العديد من التناقضات واللامنطقية في مختلف التصورات اللاهوتية المعاصرة.