علم الأخلاق الماركسي ونعيم أيليا/ 5


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 8000 - 2024 / 6 / 6 - 16:48
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

يقول الأستاذ نعيم ايليا المحترم في هامشه رقم (6) عني مايلي:
" (6) قدم الصديق الدكتور حسين علوان حسين ورقة في الأخلاق الماركسية نشرها في صحيفة الحوار المتمدن. ولكي يقنع القارئ بأن الماركسية تحتوي على نظرية أخلاقية – والحق أنها لا تحتوي على نظرية أخلاقية – عمد إلى تحريف الماركسية، إذ بتر منها ثوريتها، وجعلها إصلاحية كاشتراكية برودون الذي تلقى نقداً شديداً علىى نظريته الإصلاحية من ماركس وإنجلز. ولكأن الدكتور حسين أدرك أن القيم الثورية من كراهية ونقمة وعنف وسفك دماء، لا تصلح لبناء مجتمع سعيد. ثم عمد أيضاً إلى تحريف آخر، إلى تحريف الأخلاق، فأدعى أن تحرير الإنسانية من الاستغلال هو من الأخلاق. والحق أن هذا من الحقوق وليس من الأخلاق."
انتهى اقتباسي من نص الأستاذ نعيم أيليا المحترم.
وقد كنت قد أوضحت في الحلقة السابقة العلاقة اللازبة القائمة بين الأخلاق والحقوق بحيث أن ألغاء الحقوق يعني حتماً الإلغاء التام للأخلاق، كل الأخلاق.
ناتي الآن الى زعمه "بكون الماركسية لا تحتوي على نظرية أخلاقية" المحبب لديه. وهو الزعم الذي لا يكف عن ترديده، ربما لاعتباره إياه ضمن مستلزمات مشاعر الحب والسعادة الأخلاقية لديه. فإذا كان نفي نظريات الأخلاق الراسخة هي الممارسة العملية لأخلاق الحب والسعادة، وليست الكراهية والظلم – مثلما هي عليه في الواقع – فطوبى لملكوت الرب!
ولكي يتسنى له النفي التحكمي لنظرية الأخلاق الماركسية الراسخة، نجده يتجنب التطرق مطلقاً في مقاله المنقود لأهم معيار أخلاقي على الاطلاق، ألا وهو العدالة الاجتماعية الذي يشتغل في كل العصور، عكس غيره، مثل عدم السرقة التي لم يعرفها البشر قبل أن تصبح الملكية الخاصة واقعاً اجتماعياً. الأستاذ نعيم إيليا المحترم يلغي العدالة الاجتماعية برمتها بجرة قلم كي يقمع البحث الاخلاقي فيها.
ولكن ماهو مفهوم "العدالة" نفسه؟ يقول لنا "معجم علم الأخلاق" ما يلي عنها:
"العدالة هي مفهوم للوعي الأخلاقي الذي يعبر عن الارتباط العام بين الخيرات الاجتماعية المحدده وتوزيعها بين الأفراد. إنها النظام السليم أو الحياة المشتركة التي تتوافق مع مباديء تحقيق جوهر الإنسان وحقوقه غير القابلة للمصادرة. العدالة هي أيضًا نوع من الوعي القانوني والاجتماعي والسياسي. وعلى النقيض من المفاهيم الأكثر تجريدًا - مثل الخير والشر التي تقيّم أخلاقيًا الظواهر ككل - تحدد العدالة الارتباط بين العديد من الظواهر من وجهة نظر كيفية توزيع الحقوق والواجبات بين الناس. يرتبط هذا على وجه الخصوص بالعلاقة بين الدور الذي تلعبه الطبقات في المجتمع وبين وضعها الاجتماعي، بين الفعل والجزاء (الجريمة والعقاب)، بين المزايا التي يتمتع بها الناس واعتراف المجتمع بها، وبين الحقوق والواجبات. كل نوع من عدم التوازن بين طرفي هذه الثنائيات يتم تقييمه من خلال الوعي الأخلاقي على أنه ظلم.
إن المعنى الذي يمنحه الناس لمفهوم العدالة يبدو لهم واضحاً ضمنيًا ومناسبًا تمامًا لتقييم جميع ظروف الحياة التي يرغبون في الحفاظ عليها أو تغييرها. أما في الواقع،فإن العدالة تحمل طابعًا تاريخيًا ملموسًا، يعتمد على هذه الظروف. كتب إنجلز: «عدالة اليونانيين والرومان اعتبرت العبودية عادلة؛ كما طالبت عدالة البرجوازية عام 1789 بإلغاء الإقطاع على أساس أنه غير عادل. ومع ذلك فإن مفهوم العدالة له أهمية عالمية. وعلى الرغم من أنها مشروطة بالظروف التاريخية والاجتماعية المحددة، إلا أنها في فترات معينة من التاريخ قادرة على التغلب على هذه القيود وإلهام الناس للتحولات الثورية للمجتمع بما يتوافق مع القوانين الموضوعية للتنمية الاجتماعية. كتب إنجلز: «إذا أعلن الوعي الأخلاقي للجماهير أن حقيقة اقتصادية ما هي غير عادلة، فهذا دليل على أن تلك الحقيقة قد تجاوزت عمرها»." (1)

ولكن ماهي اسس نظرية الأخلاق الماركسية التي تحبب له نفس الاستاذ نعيم أيليا المحترم الغاؤها ظلماً بجرة قلم، مثلما سولت له نفسه شطب كون الغاء ظلم الانسان للإنسان هو من ضمن الأخلاق!

موجز بالملامح الرئيسية للنظرية الماركسية للعدالة
1. إن معايير الحق والعدالة هي معايير داخلية تنبثق من أنماط الإنتاج السائدة حيث "لا يمكن للحق أن يكون أعلى من البنية الاقتصادية للمجتمع ولتطوره الثقافي المشروط بذلك".
(2) وهذا يعني وجود شكل "للعدالة الرأسمالية" والذي يخدم مصالح مالكي وسائل الانتاج بالدرجة الأولى على حساب استلاب المنتجين الحقيقيين. وهناك عدالة توزيعية اشتراكية مختلفة نوعياً تصب في خدمة كل أفراد المجتمع بلا تمييز وفق قاعدة: من كل حسب قابلياته ولكل حسب انتاجه. ولمحدودية هذا المعيار وصعوبة احتسابه بدقة، تظهر العدالة التوزيعية الأرقى في النظام الشيوعي وفق قاعدة: من كل حسب عمله ولكل حسب حاجاته. الجملة الأخيرة لها أهمية قصوى لأنها تعني أن مكافأة حصة الرجل في ثروة المجتمع الشيوعي لن تكون متوافقة مع مساهمته في توليد تلك الثروة وإنما مع الاحتياجات الخاصة التي يحتاجها كل فرد من أجل الحفاظ على وجوده الجسدي وتطوير قابلياته العقلية.. "إن تحرير العمل يتطلب ترقية أدوات العمل إلى ملكية مشتركة للمجتمع والتنظيم التعاوني لإجمالي العمل مع التوزيع العادل لعائدات العمل." (3) التوزيع العادل للعائدات يشكل الأساس لنظرية العدالة الماركسية والتي هي ذات طبيعة توزيعية. التوزيع العادل هو حق مشروع للمنتجين لكون العائدات هي من نتاج عملهم.
3. العدالة التوزيعية تعني ضمناً أن جميع الخيرات المادية والحقوق والأعباء داخل المجتمع يجب أن يتم توزيعها بشكل صحيح بين جميع أفراد المجتمع بلا أي تمييز. ولكون عائدات العمل تنتمي إلى جميع أفراد المجتمع، لذا فإن التوزيع العادل لها هو حق يمكن لجميع العمال المطالبة به. وعندما يتم تجاهل هذا الحق أو عدم إعماله، فهذا يعني غياب العدالة في هذا المجتمع.
4. نمط الانتاج الرأسمالي نظام غير عادل لأنه قائم على استغلال الانسان لأخيه الإنسان. ولا يمكن للنظام أو الاقتصاد القائم على الاستغلال وسرقة قوة عمل المنتجين أن يكون دارًا للعدالة في ضوء حقيقة حرمانه للطبقة العاملة من حصتها المشروعة من الربح وغيرها من المنافع الاجتماعية. النظام الرأسمالي هو الرمز للظلم الاجتماعي، والجانب الأكثر مأساوية في الرأسمالية هو أن الرأسماليين والمنظرين البرجوازيين يسوقونها كمعقل للحرية وللديمقراطية الكاملة.
5. لا يمكن إصلاح النظام الرأسمالي الذي يحرم المنتجين من حصتهم المشروعة في الثروة والدخل والسلع وغيرها من أشكال الخدمات بقوة أذرع الدولة الثلاثة: الذراع التنفيذي، والذراع التشريعي، والذراع العسكري والشرطي، بل يجب إلغاؤه بالكامل لكي يكون بالامكان تحقق العدالة الاجتماعية.

المباديء أعلاه تضع الأسس المكينة لأرقى نظرية في الأخلاق عرفها التاريخ لحد الآن. لماذا؟ لأن كل النظريات الأخلاقية السابقة تكتفي في النظر إلى الوراء للأنبياء و"المخلّصين" ووعاظ السلاطين، أو تصر على تجميد الوضع الراهن الرهيب بدناءاته الأخلاقية التي تلغي انسانية الأنسان، بدلا من دفع الأنسان للتفكير بالمستقبل عبر العمل على خلق واقع جديد يحقق له الفرق بين ما هو كائن من ظلم استغلال الأنسان للانسان وما يجب أن يكون من تحرر البشرية من كل أنواع الظلم.
ثم يزعم الأستاذ نعيم إيليا المحترم: " ولكأن الدكتور حسين أدرك أن القيم الثورية من كراهية ونقمة وعنف وسفك دماء، لا تصلح لبناء مجتمع سعيد."
وقد كان الأجدر به أن لا يفتري جزافاً على الماركسية بهذا الافتراء الظالم بلصقه تحكماً للكراهية والنقمة والعنف وسفك الدماء بالقيم الثورية في ضوء كون القيم الثورية إنما تحارب بالضبط الكراهية والنقمة والعنف وسفك الدماء المميز للامبريالية العالمية ولمحاكم التفتيش وللحروب الصليبية وللاستعمار الكولونيالي باسم التبشير المنافق بالمسيحية وبالحروب الامبريالية.
سأعود للتفصيل في هذا الافتراء الظالم بحق الحركة الثورية والتي تثبت الوثائع التاريخية عكسه تماماً.

ولكن ثمة بصيص للأمل للشيوعيين هنا ممن يتفقون كل الاتفاق مع الإستاذ نعيم ايليا المحترم على النضال ضد الكراهية والنقمة والعنف وسفك الدماء لكونها الرذائل المميزة بالضبط لدكتاتورية رأس المال الخانقة للبشرية منذ خمسة قرون. كل ما على الأستاذ نعيم ايليا المحترم عمله هو أن يقنع الغرب بالوعظ والارشاد أن يحولوا ملكية كل مرافقهم الانتاجية الى العمال المنتجين أنفسهم، وأن يلغوا شركات التصنيع العسكري من كل نوع، وبس! وكان الله يحب المحسنين!
يللا، استاذنا الفاضل نعيم ايليا الورد الهمام، توكل على الله وشد حيلك وشمّر عن ذراعيك وجادل الامبرياليين بالتي هي أحسن من فضائل الأخلاق السامية المخلدة للبشر، وكان الله في عون الانسان ما دام الانسان في عون أخيه! ولا تنسى أن تقول لهم بوجوب عدم قيام الغوغل بالتجسس على بيانات مستخدمية وبيعها، وعدم جواز احتكار بيل غيتس لمايكروسوفت كل حواسيب البشرية، ومثلها عدم جواز تمتع الدول الفاشية بامتياز الفيتو في مجلس الأمن.
أخوي، أخوي، أستاذنا نعيم ايليا المحترم، شمّر عن ساعديك وقل لأساطين دكتاتورية رأس المال مايلي: لقد فشل الوعظ والارشاد طوال 7000 سنة في تحسين وضع البشرية الذي بات يتدهور من السيء للأسوأ باستمرار، وأنتم أخلاقكم أسمى من أخلاق الأولين. لذا، سارعوا بتسليم ملكية مرافقكم الانتاجية للمنتجين فيها أنفسهم، والغوا مصانع تصنيع الأسلحة كافة؛ وقل للصيارفة ان يلغوا اقراض أموال غيرهم بالفائدة لمنفعتهم وذلك تيمنا بتطويح سيدنا المسيح (عجل الله مبعثه) لمناضد المرابين في القدس. أخوي، أخوي، شد حيلك، وأجرك على عبد الله الحسين. فإذا ما حققت هذه المعجزات بالمواعظ والارشاد، فأنا ضامن لك أن كل الشيوعيين في العالم سيصبحون نعيميين طوب شلع من الباب للمحراب وبكل حق وحقيق، وسيقيمون لك التماثيل التكريمية في كل بيت وحارة وشارع. ولكنني لا أستطيع أن أضمن لك – لشديد أسفي وحزني - أنك لن تصلب مثلما تم صلب المسيح وفهد وفرج الله الحلو وجيفارا. ولكن لا بأس بالمحاولة، فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة. ومن يدري، فلعلك ستستطيع أن تثبت لنا بمعجزاتك القادمة الفذة خطأ المثل المصري القائل: "كلمة ياريت عمرها ما كانت تعمّر بيت". رحم الله موسيقار العرب الفذ فريد الأطرش!
**
(1) معجم علم الأخلاق. (1990). دار التقدم، موسكو.
(2) و (3) كارل ماركس (1975) نقد برنامج غوتا.
يتبع، لطفاً.