علم الأخلاق الماركسي ونعيم أيليا/ 3


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 7992 - 2024 / 5 / 29 - 14:21
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

في مزيج غريب متلاطم التلطيش من المفاهيم المتناثرة المتنافرة، يواصل الأستاذ نعيم ايليا المحترم عرض ما يتصور أنه "المركز الفسلجي" للإخلاق عند الإنسان، ليخلطه بعدئذٍ مع رأي "ارسطو" في الأخلاق، فيقول:
"وعلى هذا فلا غرو ولا نشوز في أن يقال إن الأخلاق لولا وجودها في النفس، في القلب - ويصح أيضاً في العقل لأن كلّ شيء من أشياء النفس لا مفر له من العبور إلى العقل، إلى الدماغ - وتمثُّلُها في الأفعال والسلوك، ما كان المجتمع الإنساني. ولا غرو كذلك في أن يقال إنه لولا الأخلاق، ما كان للدين أن يكون على ما هو عليه كائن. فتكون الأخلاق بهذا التقدير هي الأوّل، ويكون المجتمع والدين تاليين لاحقين بالأول.
وإذا كان لا مفرّ من التدليل على هذا بمثال، ذُكرت الأمُّ التي تكاد تكون الخلية الأولى لكل المجتمعات الحيوانية. فلوما الطبيعة زوَّدت الأمَّ بعاطفة التحنان، الحب، العطف... لأهملت كل أم وليدها، فقضى.
وذُكر أيضاً ميلُ الإنسان الطبيعي الفطريّ إلى المحبة والتراحم والشفقة... إن هذه المشاعر ذات الطابع الأخلاقي، لولاها ما كان للإنسان أن يجد في نفسه حافزاً على أن يكوِّن الأسرة، فالقبيلة، فالمجتمع، فالأمة، فالدولة.
وذكر أيضاً الحبُّ الجنسي – وإن لم يكن الجنس بذاته، علاقةً وممارسةً وميلاً، خلقاً - الذي إليه يرجع الفضل في استمرار النسل.
فهذه إذن غاية الطبيعة البعيدة – إن جاز التعبير - من الأخلاق. إنها تعزيز مبدأ البقاء على قيد الحياة.
على أن الفلاسفة منذ افلاطون وأرسطو إلى لودفيج فويرباخ - وإن كانوا اعتقدوا بخلاف اللاهوتيين بأن الأخلاق مصدرها النفس أو القلب، أو الدماغ - لم يتبينوا غاية الطبيعة من الأخلاق أنها لحفظ النوع، فزعموا أن الغاية منها هي الخير الذي يورّث السعادةَ واللذة.
وأشهر الآراء التي تعضد هذا الزعم، رأي أرسطوطاليس الذي قد بسطه بتفصيل ووضوح في نيقوماخيا (1). ولا زال أكثر الفلاسفة من بعده يتبعون رأيه هذا، ويمتحون منه. من هؤلاء الفيلسوف الألماني لودفيغ فويرباخ:
„ إنَّ كلَّ صناعة وكلَّ مذهب - يقول أرسطو في نيقوماخيا - وكذلك كل فعل واختيار فقد يعلم أنه إنما نتشوق به خيراً ما. ولذلك أجاد من حكم على الخير أنه الشيء الذي يتشوَّقه الكل… فنقول: إذا كانت كل معرفة وكل اختيار إنما يتشوق خيراً ما، فما الخير الذي نقول إن تدبير المدن يتشوّقه ويقصد قصده ، وهذا الخير الذي هو أعلى وأرفع من جميع الأشياء التي تفعل؟ فنقول إنه يكاد أن يكون أكثر الناس قد أجمعوا عليه بالاسم، وذلك أن الكثير من الناس والحذاق منهم يسمونه السعادة، ويرون أن حسن العيش، وحسن السيرة هي السعادة واختلفوا في حد السعادة: ما هو؟ ...“
فواضح من قوله أن السعادة هي الغاية من الأخلاق. وهي كذلك حتى في السياسة وتدبير المدن. فإذا طرح عليه السؤال: ولكن لماذا السعادة هي الغاية؟ أجاب أرسطو: إن السعادة تامة تكفي نفسها بنفسها؛ أي لا تُطلب إلا لذاتها، إذ لا غاية من بعدها. وبتعبير آخر: إن أكثر الغايات تكون وسيلة لبلوغ السعادة، ولا تكون السعادة وسيلة لبلوغ غاية أخرى.
يقول:
„ إنه إذا كان يظهر أن الغايات كثيرة، وكنا إنما نؤثر بعضها على بعض بسبب شيء آخر (مثل الثروة والمزمار وبالجملة الآلات كلها)، فبَيّنٌ أن ليس جميع الغايات كاملة. وقد يظهر أن الأفضل هو شيء كامل. فيجب من ذلك إن كان ها هنا شيء واحد فقط كاملاً فهو الشيء المطلوب، وإن كانت الأشياء الكاملة كثيرة فهو أكملها وأتمُّها. ونحن نقول إن الشيء المطلوب لذاته ولكنه ليس المطلوب لغيره، والذي لا يؤْثَر في وقت من الأوقات من أجل غيره، أكمل من التي تؤثر لغيرها، لا لنفسها. فالكامل بالجملة هو الذي يُؤثر لذاته أبداً، ولا يؤثر في وقت من الأوقات لغيره. وأَولى الأشياء بهذه الصفة: السعادة. وذلك أن السعادة هي التي نؤثرها لنفسها، ولا نطلبها في وقت من الأوقات لغيرها… فقد ظهر أن السعادة شيء كامل مكتفٍ بنفسه غايةً للأشياء التي تفعل“,
وفي هذا الموضع، ينبغي التنبيه إلى أن أرسطو يضع حداً فاصلاً بين السعادة واللذة. إنه يفرق بينهما لا من حيث طبيعتهما بما هما شعوران صرفان وحسب، بل من حيث طابعهما الاجتماعي: فالسعادة سيرة السادة الأشراف، واللذة سيرة العوام الجفاة العبيد:
„ فنقول: يشبه أن يكون الناس في ظنهم بأن الخير والسعادة إنما هما من السّيَر، لم يخرجوا عن الصواب. أما العامة منهم والجفاة فقالوا إن الخير والسعادة هما اللذة، ولذلك يؤثرون سيرة المتمتع باللذات…“."
انتهى النص المقتبس من مقال الأستاذ نعيم ايليا المحترم.

إذاً، فمركز الأخلاق عند ال‘نسان إنما هو: "النفس، العقل (أو الدماغ)، القلب" حسب رأي الأستاذ نعيم إيليا المحترم. ومثل عدم تعريفه للقاريء الكريم بما يقصده بمصطلح "الأخلاق" في سياق مقالة ناقش فيها الأخلاق كموضوع مركزي، فإنه لا يتفضل علينا بتعريف ما هو المقصود بـ "النفس" التي لم يقدم حتى القرآن الكريم تعريفاً لها، مكتفياً بالقول بأنها "من عند الله". وما دامت النفس هي من عند الله، فيجب عندئذ أن تكون الأخلاق هي الأخرى من عند الله. ولكن الأستاذ الفاضل نعيم إيليا يرفض الرأي القائل بكون الأخلاق هي من عند الله لإيمانه أن منشأها إنما يأتي من "قانون حفظ النوع" لـما يسمية بـ "علم الحياة". وقد اتضح لنا أن نظرية التطور تقول بأن الإنسان ليس هو مصدر الأخلاق، بل هي جيناته؛ والجينات عبارة عن أجسام مادية باعتبارها حمض جامد لا حياة فيه. ولكن الأستاذ نعيم إيليا يقول لنا الآن أن مركز الاخلاق إنما هو في "النفس" التي هي مفهوم غير مادي يرتبط أساساً بالحياة وليس بالجين المادي الجماد الفاقد للحياة، فكيف نستطيع إذاً حل أحجية تولي الجينات المادية خلق النفس التي هي مفهوم غير مادي ؟ وما دامت الأخلاق عنده إنما لا يفسرها سوى "علم الحياة" حسبما يقول، فليدلنا على التعريف الذي يقدمه "علم الحياة" هذا لـ "النفس" في ضوءأن علم الأحياء يختص بدراسة الكائنات الحية وعملياتها الحيوية التي تتناول جميع جوانب الحياة الفيزيائية والكيميائية وليس الجوانب الأخلاقية والروحية والنفسية. لا يستطيع "علم الحياة" مطلقا البحث في النفس ولا الأخلاق لانهما كائنان خارج نطاق ميدان اشتغاله تماماً، ولأجنبية طرق البحث فيهما عن طرقه.
ليس هذا فحسب، بل إننا نجد أن "العقل والدماغ والقلب" كلها تتساوى عند الأستاذ نعيم إيليا مع "النفس". ومن المعلوم أن القلب والدماغ هما جسمان ماديان ملموسان، في حين أن النفس والعقل مفهومان نظريان مجردان، فكيف يمكن مساواة المفاهيم النظرية المجردة بالأجسام المادية الملموسة؟ وكيف يتسنى اكتشاف المفهوم النظري للأخلاق في القلب الذي هو مضخة للدم، وفي الدماغ الذي هو العضو الذي يسيطر على كل وضائف الانسان؟ وهل أن البشر الذين لا أخلاق لهم – وهم كثر - هم بدون أدمغة ولا قلوب ولا نفوس؟ في الآونة الأخيرة، رأينا عمليات لزرع قلوب الخنازير في أجساد البشر، ولكن أحداً لم يلاحظ أن هؤلاء البشر قد اكتسبوا "أخلاق الخنازير" من قلوبهم الخنزيرية الجديدة، لسوء حظ الأستاذ نعيم إيليا المحترم.
ثم نرى الأستاذ نعيم إيليا وهو يلجأ للتلفيق عندما يفصّل لنا في مفهوم الأخلاق عند أرسطو على اعتبار أنها ترتبط بالسعادة والخير والفضيلة (ولكنه يستبعد منها أهمها: "العدالة الاجتماعية") - وهذا صحيح بالتأكيد - دون أن ينتبه إلى أن هذه المفاهيم الأخلاقية الأرسطية تقع بالضد تماماً من مفاهيم نظرية الاخلاق التطورية التي ينادي هو بها والتي تقول بأن البقاء إنما هو للأقدر على التكيف البيئي في الانتخاب الطبيعي وليس للإنسان الفاضل والسعيد "والعادل" قطعاً. كما أن نظرية الأخلاق التطورية تنفي امكانية ادراك البشر لأخلاقهم نفياً قاطعاً مثلما تم ايضاحه في الحلقة السابقة من هذه السلسلة. كل الذي تقوله لنا نظرية الاخلاق التطورية التلفيقية هو أن "الغرض التطوري (س) هو الذي يفسر المنحى الأخلاقي (ص)" وليس نشدان البشر للعدالة والسعادة والفضيلة طبقاً لأرسطو.
وحسناً فعل الأستاذ نعبم ايليا في تطرقه لأرسطو، فرب ضارة لنظرية الأخلاق التطورية الناكرة كلياً للأخلاق هي نافعة لعلم الأخلاق الماركسي الراسخ في نفوس كل أحرار العالم عبر كل العصور. إن تطرقه هذا ييسر التوضيح الجلي لكيف أن علم الاخلاق الماركسي هو التجلى لنظرية الأخلاق العلمية في التحرر والحرية وتحقيق الذات البشرية لعصر بربرية دكتاتورية رأس المال الرهيبة، وهي النظرية التي تمتد جذورها التاريخية إلى أرسطو.
يرى أرسطو أن "العدالة" هي الفضيلة الأرأس في الدولة المثالية، لأنها تهدف إلى تحقيق المصلحة المشتركة للمجتمع. و العدالة (justice) هي واحدة من أهم المفاهيم الأخلاقية والسياسية في كل العصور. هذه المفردة مشتقة في اللغات اللاتينية الأوربية من الجذر اللاتيني (jus)، ويعني "الحق" أو "القانون" (سأعود لموضوع عدم تمييز الأستاذ نعيم إيليا المحترم بين الغرائز والعادات والأعراف، وإلى فصله الاعتباطي بين الحقوق والمسؤوليات والقانون والأخلاق). يُعرّف الشخص "العادل" بأنه الشخص الذي يفعل ما هو صحيح أخلاقياً ويميل إلى إعطاء كل ذي حقِ حقه. ويميز أرسطو بين فضيلتين متميزتين للعدالة: العدالة العامة والخاصة. تهتم العدالة العامة بمصلحة الآخرين، وتحديدًا الصالح العام للمجتمع السياسي؛ وتهتم العدالة الخاصة بالمساواة والإنصاف، وتَجَنّب التعدّي الجشِع على السلع المخصصة للآخرين بشكل عادل. على سبيل المثال، لا يستطيع صانع الأحذية والمزارع استبدال حذاء واحد بمحصول واحد، لأن الأحذية والحصاد ليسا متساويين في القيمة. وبدلا من ذلك، يجب على صانع الأحذية أن يعطي عدداً من الأحذية يتناسب في القيمة مع المحاصيل التي يوفرها المزارع.
أين هي تلفيقات نظرية الأخلاق التطورية الناكرة لمعرفة الإنسان بالأخلاق ذاتها من كلام أرسطو عن مركزية العدالة الاجتماعية هذا؟
ولكن أي نظرية علمية في الأخلاق تستطيع أن تقول بأنها الوريث الشرعي لنظرية الأخلاق الأرسطية أعلاه؟ الجواب: وحده علم الأخلاق الماركسي هو الذي يقدم مثل هذا الانجاز لكونه ينطلق من التصور العالمي للطبيعة البشرية بشكلها العام (أي: جوهر الإنسان)، والتي تصنع من نوع البشر بشرًا في الأساس. في علم الأخلاق الماركسية تتخذ فكرة "الجوهر الإنساني الواجب التحقق بشكله الكامل في الوجود الاجتماعي" أهمية مركزية. ولهذه الفكرة روابط قوية مع فلسفة أرسطو التي تعتبر أن الإنسان مخلوق عقلاني في الأساس، وأن تحقيق السعادة هي هدف الأفراد العقلانيين الذين يتصرفون بشكل فاضل؛ لذا، فإن من واجب رجل الدولة أن يخلق الظروف العادلة التي يمكن من خلالها تحقيق هذه السعادة. ومثل هذا، فإن الماركسية تذهب إلى أن الجوهر البشري يكمن بالضبط في قدرة الإنسان على الإبداع الاجتماعي وتمكينه من تحقيق ذاته بكل حرية مع توفير كل متطلباته لترقية انجازته. ولا يمكن تحقيق هذا الابداع الاجتماعي الجوهري المحقق للذات البشرية إلا من خلال التغلب على الاغتراب الاجتماعي المتأصل في عقابيل الملكية الخاصة لوسائل الإنتاح الاجتماعي للنظام الرأسمالي الذي يقف لوحده عقبة كأداء أمام تحقق حرية الإنسان وتحرره. وعليه، يجب استبدال النظام الراسمالي بمجتمع شيوعي تُلغى فيه الملكية الخاصة لوسائل الإنتاح بما يحقق أن يكون فيه جميع البشر أحراراً ومتساويين ومتمكنين من تحقيق ذواتهم بتطوير قدراتهم في الإبداع الجماعي. لذا، فإن علم الأخلاق الماركسي هو – جوهرياً – علم تحرر الأنسان وحريته في تحقيق ذاته كي يتسنى للبشرية جمعاءأن تدخل عصور التاريخ فعلاً. كل عصور العبودية والقنانة والرأسمالية من استغلال الانسان لأخيه الأنسان هي عصور ما قبل تاريخ البشرية لانها تلغي جوهر الأنسان ككائن اجتماعي حر ومحقق لذاته. ولأن علم الأخلاق الماركسي كوني شامل لكل بني البشر بلا استثناء، لذا فإن تدمير الرأسمالية التام والمشهود للأخلاق بقلبها إلى كذبة فاضحة (مثلما حصل في حروب وإبادات الراسمالية التي لا تنهي وفي ضرب هيروشيما وناغازاكي، وفي احتلال الأمريكي لفيتنام ولاوس وكمبوديا والصومال وأفغانستان والعراق واليمن .....، ومثما يحصل الآن من الابادات الجماعية اليومية وبالجملة لنساء وأطفال غزة الأعزل والمحاصر والمجوّع) تجعل المناقشات المجردة حول كيف ولماذا يجب على الأفراد التصرف تجاه بعضهم البعض بطريقة يمكن الدفاع عنها أخلاقياً غير منتجة قط في ظل نظام تسود فيه شريعة الغاب على طول الخط.
علم الأخلاق الماركسي يرتبط بالمفهوم اليوناني القديم لـ "العدالة" الموضح أعلاه باعتبارها "فضيلة المجتمع ككل"، وليس التركيز الليبرالي المتذري والانتقائي على تصرفات الأفراد المستقلين دون الرجوع إلى المنظومات الاجتماعية التي يعملون ضمنها وبمعزل تام عنها. إنه "يوجهنا إلى النظر إلى ما هو أبعد من مقاربات الفلسفة الأخلاقية التي جسدها هيوم وكانط والتي انتقدها ماكنتاير باعتبارها "مشروع التنوير الفاشل لتبرير الأخلاق". تأخذ الماركسية الأخلاقية على محمل الجد مسألة كيفية التغلب على الاغتراب بحيث يمكن لجميع المواطنين الاستمتاع بالجوهر الإنساني للنشاط الاجتماعي الإبداعي. فقط عندما تكتسب الأغلبية الساحقة من البشر السيطرة على العمليات الاجتماعية التي واجهتها حتى الآن كقوى لا يمكن مقاومتها ولا مفر منها، فإن "ما قبل التاريخ" للمجتمع البشري سوف يفسح المجال لتاريخ إنساني حقيقي". (1)
علم الأخلاق الماركسي هو العلم الوحيد الذي يكشف الضرورات الأخلاقية لتغيير الحاضر البربري وبناء المستقبل المتحرر والحر المُفجر للقابليات اللانهائية للإنسان. كل النظريات الاخلاقية البرجوازية الأخرى – وأولها تلفيقات نظرية الأخلاق التطورية - لا تأخذ على عاتقها سوى "تجميد" و"تبرير" بربرية الحاضر. كل تلفيقات هذه النظريات ليست لها أي علاقة بما يمكن أن تكون عليه حياة الإنسان خارج الستار الحيدي لشريعة الغاب السائدة الآن، وما ينبغي أن تكون عليه في المستقبل. إنها لا تقدم شيئًا تجاه الأفكار المتعلقة بطبيعة التقدم البشري. وبدون تحديد الأجوبة على هذه المعضلات، لا يمكن أن يكون لدينا نظرية أخلاقية تستحق هذا الاسم.
تقطع كتابات ماركس وانجلز عن مرحلتهما الهيغلية أنهما كانا، مثل هيغل، قد اعتبرا حرية الإنسان هي الهدف النهائي لفكرهما. كما رأيا، مثلما فعل هيجل، أن الحرية لا يمكن تحقيقها إلا في مجتمع يختفى فيه التعارض القائم بين المصلحة الخاصة للفرد والمصلحة العامة للمجتمع. بعد اعتناقهما للاشتراكية، أدركا أن مجرد معرفة ما هو الخطأ في العالم لن يحقق أي شيء من التغير الاجتماعي الضروري والمطلوب. وحده إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج هو الذي يمكن أن يؤدي إلى تغير وتحول الطبيعة اليشرية، وبالتالي تحقيق المصالحة بين الفرد والمجتمع. وقد خلص ماركس وإنجلز إلى القناعة بأن نظرية الأخلاق السابقة قد ذهبت إلى أبعد ما يمكنها بلوغه؛ وحتى المشاكل النظرية للأخلاق - كما هو موضح في تمييز كانط بين العقل والشعور - ستبقى مستعصية على الحل الناجع ما لم ينتقل المرء من النظرية إلى الممارسة الثورية. هذا ما قصده ماركس في أطروحته الشهيرة عن كل الفلاسفة قبله والمنقوشة على شاهد قبره: "لقد فسر الفلاسفة العالم بطرق مختلفة؛ القضية المهمة هي تغييره". وهذا يعني أن هدف تغيير العالم ينبع من محاولة ماركس وانجلز التغلب على واحدة من المشاكل المركزية للأخلاق عبر جعلهما الممارسة الثورية تتجاوز الفلسفة لتحرير الانسان بذاته ولذاته كضرورة أخلاقية أسمى. يقول ماركس في معرض المقارنة بين النتيجة النهائية التي بلغها فيورباخ وبين الهدف الذي تريده الماركسية: "ينتهي نقد الدين إلى العقيدة القائلة بأن الإنسان هو الكائن الأسمى بالنسبة للإنسان؛ وهكذا ينتهي الأمر إلى الضرورة المطلقة لإسقاط كل الظروف التي يعيشها فيها الإنسان كائناً منحطاً، مستعبداً، مهملاً، وحقيراً".
وباعتبارهما عالِمين ماديين تاريخيين، فلم يكن ماركس وانجلز واعضين أخلاقيين، بل كاشفين للقانون الاجتماعي الذي يفسر كيف أن جميع الأفكار، سواء كانت سياسية أو دينية أو أخلاقية، هي النتاج للمرحلة الاقتصادية الخاصة التي وصل إليها المجتمع - إلى لنمط الانتاج الاجتماعي السائد فيها. لذا نجد أن ولاء وطاعة العبد لسيده وملازمته لخدمته طيلة حياته في المجتمعات العبودية كانت من الفضائل الأخلاقية الأساسية التي بررها أرسطو باعتباره أن العبودية إنما تصب في مصلحة العبد نفسه ومعه كل المجتمع. كل صاحب عقل حر عندما يتفكر في التبرير الأرسطي هذا للعبودية لن يجد أي تفسير علمي له خارج نطاق القانون الذي اكتشفته وثبتته الماركسية من أن الوضع الأجتماعي لمجتمع العبودية الذي عاش فيه أرسطو هو الذي حدد وعيه الاجتماعي ذاك بتبريره لتلك العبودية. هكذا يكون الفرق بين العلم الحقيقي في قوته التفسيرية وبين اللاعلم في ترهاته التلفيقية. نفس الشيء حصل بصدد تبرير العلاقة بين القن والسيد في المجتمع الاقطاعي، وبين المنتج الأجير والرأسمالي في المجتمع الرأسمالي. ولكون الأخلاق تنبع من الأساس الاقتصادي للمجتمع، لذا نجد أن أفكار الطبقة الحاكمة في كل عصر هي الأفكار السائدة فيه ةالتي يجري تسويقها على كونها تصب في صالح المجتمع ككل. الأخلاق والقانون والدين في المجتمع الراسمالي منبنية على شبكة من التحيزات الاخلاقية البرجوازية المنافية للحق والعدالة الاجتماعية للبشر، والتي تكمن وراءها الكمائن، تمامًا مثل العديد من المصالح البرجوازية. وأوضح تَجَلٍ لهذه الكمائن يتمثل بعقد العمل المأجور الذي يبدو في ظاهره كما لو كان منعقداً بين طرفين من الأشخاص الأحرار المتساوين اللذين يتبادلان قوة العمل مقابل الأجر حسب سعر التبادل السائد في سوق العمل، ولكنه ينطوي حتماً على سرقة الرأسمالي لحسابه عائد نسبة فائض قيمة انتاج قوة العمل والناجم من عدم تسديده لكامل قيمة قوة العمل بفعل حرمانه القسري للعامل المنتج من وسائل انتاجه الاجتماعي التي يموت من الجوع بدون العمل عليها. ولو أن صيغة عقد العمل المأجور هذا كانت لا تسمح للراسمالي بسرقة نسباً متفاوتة من نتاج قوة العمل المأجور، لما انعقد ذلك العقد أصلاً وذلك لانتفاء ربح الرأسمالي منه، ولانهار النظام الراسمالي ككل. هكذا تصبح سرقة قوة العمل هي المبدأ الأخلاقي الذي يحميه القانون السائد في كل المجتمعات الرأسمالية، والتي يتم فيه تصوير هذه السرقات المتواصلة كونيّا وليل نهار على مدار الساعة بكونها إنما تصب في صالح المجتمع والانسانية ككل؛ مثلما سبق لأرسطو وأن اعتبر العبودية إنما تصب في صالح العبد أساساً، وبالتالي لصالح المجتمع ككل. وعلاوة على شرعنته للسرقة كمبدأ أخلاقي مكتسب، فإن النظام الراسمالي يشرعن منذ خمسة قرون الابادات الجماعية للشعوب المستضعفة بالعدوانات المتكررة عليها واحتلال أوطانها ونهب خيراتها المادية، مثلما يشرعن الحروب الحارة والتجارية والباردة المهلكة المباشرة أو بالوكالة، وتسليع النساء والاطفال، والتدمير الجائر للبيئة أرضاً وبحراً وجواً ومناخاً وفضاء، واستنفاذ الثروات الطبيعية الناضبة مثل الغاز والنفط، بل وحتى التهديد بتدمير الحياة كلها على وجه الكرة الارضية مثلما يحصل الآن في الحروب التصعيدية لإدارة بايدن الفاشية في اوكرانيا وغزة والسودان وسوريا واليمن - وما يتم تبييته اليوم ضد الصين غداً - والتي لا يستطيع أحد التكهن بمديات شرور عقابيلها. كل جرائم الشر الرأسمالي هذه وغيرها يتم تسويغها أخلاقياً اليوم وكل يوم عبر أبواق الشبكات الأخطبوطية الجبارة للقنوات التابعة للامبراطورية الاعلامية المكينة للنظام الراسمالي العالمي على نحو رهيب والتي تخنق البشرية كلها تحت قبة حديدة شمولية من منظومة التلفيقات والأكاذيب المفبركة مثلما رأينا من تلفيقات الحرب على الارهاب ونزع أسلحة الدمار الشامل في العراق وحق الكيان الصهيوني النازي الداعشي العنصري في الدفاع نفسه عبر الإبادات الجماعية للأطفال والنساء. كما نرى كل يوم كيف أن النظام الراسمالي يصبح فيه الاستغلال والثراء الفاحش للقلة الأقل من أصحاب الامتياز على حساب غالبية سكان الأرض المُفقرين هي الفضائل الأساس التي تستحق الاعجاب والتمجيد عبر كل وسائل الأعلام يوميا (تصفّح الآن أي بوق اعلامي أمبريالي شهير لتجد حتماً خبراً مدسوساً دساً عن البليونير ايلون ماسك أو جيف بيزوز أو بِل غيتس أو مارك زوكبيرغ ومن لف لفهم – ولن أتطرق لأخبار فرق كناريات السي آي أي)؛ ومثلها الحروب المتوالية والابادات الجماعية وتدمير الحياة والثروات الطبيعية؛ ويصبح فيه كل الشرور المنتجة لربح الرأسمالي هي المثال للخير العميم، وهو المبدأ الأخلاقي الراسمالي المقدس السائد والمفروض فرضاً بقوة القانون، مهما تعاظمت درجة فظاعة وبشاعة وبربرية هذا الشر. ويوماً بعد يوم، تصبح الحقيقة التي نطقت بها روزا لوكسمبيرغ: "إما الاشتراكية، أو البربرية" أشد سطوعاً أمام أنظار البشرية جمعاء.
كما أوضح ماركس وانجلز في مؤلفاتهما على أسس نظرية علمية كيف أن المجتمع الخالي من الطبقات يقوم على الأخلاقيات الإنسانية الحقيقية – أخلاق الحرية وترقية قابليات ومنجزات كل البشر بلا استغلال ولا تمييز ولا تغريب وبلا اضطهاد وقمع، وبلا سرقات ولا حروب ولا مجاعات ولا أسلحة تقليدية واسلحة الدمار شامل - الأخلاق التي تخدم مصالح جميع البشر بدون استثناءوتأمين مستقبلهم. وهذا يعني أن نداء ماركس للبشر كلهم لبناء الشيوعية ينبع من مبدأ وعي الضرورة الأخلاقية في العمل على تحرير وإسعاد وترقية كل البشرية بتجاوز الشرور المستطيرة للأخلاق الرأسمالية البربرية المكتسبة ورفض كل استمرار وتسويق لها كأخلاق سوية، طبيعية، فاضلة، نهائية، وأبدية.
***
(1) لورنس وايلد: "الماركسية الأخلاقية ونقادها الراديكاليون"، ماكملان، 1998.
https://academic.oup.com/book/27027/chapter-abstract/196307434?re-dir-ectedFrom=fulltext
يتبع، لطفاً.