خطبة الأسقف نعنول بن نمنم


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 8343 - 2025 / 5 / 15 - 18:09
المحور: الادب والفن     

في يوم الرب، خاطب الأسقف نعنول بن نمنم المؤمنين في كنيسته بالقول:
"البارحة قرأت القصة الشهيرة عن راعي الكنيسة المنافسة ذاك الذي قدَّم في عشاء الرب للمؤمنين الخمر رمزاً لدم مخلصنا المسيح دون تقديم خبز القربان المقدس الذي هو المسيح القائم من بين الأموات، وهو يقول:
- لقد اكتفى الخبَّاز بإعداد الطحين، في حين أن المطلوب هو عجنه وتمليحه وتقطيعه وشويه.

لفهم قصة ذاك الراعي الشهير لا بدَّ من فهم معنى "إعداد الطحين" وكذلك معنى "العجن والتمليح والشوي" وما بينهما من نسبة؛ لأن هذين اللفظين بما يدلان عليه، هما اللذان تتقوّم بهما أطروحة ذاك الراعي. فمن دون فهم دلالات هذه الالفاظ، لا سبيل للمرء إلى فهم قصة ذلك كما ينبغي للمرء أن يفهمه.
فما هو المعنى المستفاد من كلا اللفظين؟ وما هي نسبة أحدهما إلى الآخر؟
ظاهرٌ على السطح، أنهما في أطروحة ذلك الراعي يستبطنان معنيين متعارضين، أو متقابلين تقابلاً يكاد يكون شبيهاً بتقابل النقيضين. فإعداد الطحين الذي هو إحداث أثر في الحنطة، يعترض العجن والتمليح والشوي الذي هو جلاء حقيقة الخبز. وهو لا يكتفي بذلك، بل إنه ليزيغ التفسيرَ قليلاً أو كثيراً عن طريقه، ممّا يمهّد لحصول النتيجة التالية: ما في الطحن غَناءٌ وفير، وإنما الغناء كل الغناء في التغيير عبر العجن والتمليح والشوي.
ولكنْ، كيف ذلك؟!
كيف للطحن ألا يكون معادلاً للعجن والتمليح والشوي في الغَناء والجدوى، وفي الطحن جلاءُ الحقيقةِ؛ حقيقةِ الطحين بشتى ظواهره وأبعاده وصوره؟ أوَليس معنى (طحن) الشيء، هو أبان حقيقةَ الطحن؟ فإذن كيف لا تكون الإبانة معادلة للتغيير في الغَناء والجدوى؟!
إن تغيير شيء من أشياء العالم، لا يتحقق للإنسان إلا بعد أن يكون الإنسان تمكَّن من طحن هذا الشيء طحناً صحيحاً. فظاهرة الفقر - مثلاً - إن لم يتمكن الإنسان من أن يفسرها تفسيراً صحيحاً، فأنى له أن يغيّر ظاهرة الفقر؟ فإنه إن اعتقد أن الفقر مقدَّر عليه، فماذا عساه أن يفعل حينئذ؟ أتُراه يثور على القدر - وهو مؤمن به، وهو يخشاه - فيرغمه على أن يخلع عنه رداء الفقر، أم تراه يتبلَّد إزاءه فيستكين له في صغار وخنوع؟
فيترجّح مما سبق أنَّ (الطحن) صِنوُ (إعداد خبز المناولة) في الجدوى والغناء والفضل. وإذ قد ترجَّح ذلك، فلا بد من السؤال: بأي منطق جاز لذلك الراعي أن يقدّم مهمة العجن والتمليح والشوي على مهمة الطحن في الفضل والغناء؟!
فإن مهمة الخبّاز في رأي الراعي، ليست هي أن يعد الطحين فقط. مهمَّتُه الأجلّ أن يعجنه ويملحه ويشويه. وهو بهذا الرأي إنما يجعل النسبة بين فعل الطحن و فعل العجن والتمليح والشوي قائمةً على التعارض. ولأن التعارض بين شيئين يستلزم التفاضل؛ فقد فاضل الراعي بين فعل الطحن وفعل العجن والتمليح والشوي، وخلص إلى أن فعل العجن والتمليح والشوي أفضل وأجدى من فعل الطحن.
بيد أنه قد تبين أن فعل الطحن و فعل العجن والتمليح والشوي صنوان في الفضل والجدوى؛ ولأنهما كذلك فمن الطبيعي ألا يكون بينهما تعارض، بل يكون بينهما ترابط مبرم. أفلا يقتضي اعداد الطحين عجنه وتمليحه وشويه ؟ بلى! وهل يحدث العجن والتمليح والشوي إلا إذا حدث الطحن؟
فإذا ما تُحُقّق بعد ذلك من أمر الدلالة في لفظ (العجن والتمليح والشوي) على وجه آخر، ظهر أن لهذا اللفظ عند الراعي دلالة سياسية بحتة. فتغيير الطحين (المجتمع) مهمة السياسيين الأولى. فإذا أراد ذاك الراعي من الخبّازين على أن ينخرطوا انخراط السياسيين في تأدية هذه المهمة، أسقط الحدَّ الفاصل بين الدين والسياسة. ولعل ذاك الراعي إنما أراد بأطروحته هذه أن يرغم الدين على أن يتحوَّل إلى نشاط سياسي ليست له من غاية سوى خدمة مصالح فئة من المجتمع تدعى أصحاب تلك الكنيسة.
أجل، إن للراعي أن يعالج كل قضايا المجتمع البشري، ولكن من حيث هو رجل دين، يرى هذه القضايا تنطوي على حقائق عامة، ثابتة أو متحركة، موضوعيةٍ مجردة عن الهوى والمنفعة الفئوية، منزَّهةٍ عن الزيف والشَّوَه.
فراعي الكنيسة إذ يرى - على سبيل المثال - قضية الاستبداد (الدِّكتاتورية) أنها نتيجة لغياب العدالة الاجتماعية... إذ يراها نتيجةً لانقسام المجتمع إلى طبقتين أو فئتين: فئة حاكمة مستبدة، وفئة محكومة يقع عليها استبداد الفئة الحاكمة المستبِدَّة؛ فإنه إنما يرى الدكتاتورية شراً في كل الأحوال، وفي كل الأزمان.
فإذا استطاعت الفئة المحكومة التي كان يقع عليها الاستبداد، أن تتحرَّر من قهر الفئة التي كانت تستبد بها، وإذا شرعت هذه الفئة بعد انتصارها تستخدم الاستبداد منهجاً لها في حكم المجتمع مثلما كانت تستخدمه الفئة الحاكمة السابقة، فهل من الحكمة أن يعضد الراعي بفكره استبداد هذه الفئة، حتى لو كانت حجة السياسي المؤازر لهذه الفئة أنها إنما غايتها أن تضع نهاية للاستبداد بالاستبداد؟
أتمنى أن أكون قد أوضحت تماماً العلاقة الجدلية القائمة بين فعل الطحن فعل العجن والتمليح والشوي!"

وهنا خاطب أحد الحضور زوجته بالقول: هل صدَّقتي الآن ما قلته لك عن هرطقة الكنيسة المنافسة؟ إن غضبي عليها لا يوصف!