تمساحٌ في الدار


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 8294 - 2025 / 3 / 27 - 20:28
المحور: الادب والفن     

دخل "سالم"- الموظف الحديث التعيين في فرع المصرف الحكومي إياه - غرفة مدير الفرع، وسلَّم عليه، وعرَّفه بنفسه؛ فاستقبله المدير بالترحاب، وطلب منه التفضل بالجلوس، وهو يضغط على زر الجرس الذي أمامه. عندما حضر العامل، أمر له بالشاي، ثم انغمس بالتدقيق في رزمة كبيرة جداً من المستندات والجداول المفروشة أمامه. بعد فراغ سالم من شرب الشاي، نادى المدير على معاونه هاتفياً؛ ولما حضر الأخير، قال له المدير:
- سيّد أمير، أقدم لك السيَد سالم، كاتب الطابعة الجديد المعيَّن توّاً على ملاك الفرع. هل يُمكِن تفريغ وتجهيز غرفة خاصة له حفاظاً على سريّة كتبنا الرسمية، حسب التعليمات؟
- جنابكم على دراية تامّة بأن كل غرف البناية الصغيرة لفرعنا هذا مشغولة مائة بالمائة!
- والحل؟
- أللهم إلا إذا وضعنا مكتبه في غرفة موظفة المخزن: "نجاة".
- توكَّل على الله، سيّد أمير، فللضرورة أحكامها. أبلغني عند إتمام تجهيز المكتب، لطفاً، كي يباشر السيّد سالم بأداء مهام عمله فوراً.
- صار، أستاذ.
بعد خروج المعاون، خاطب المدير سالماً بالقول:
- أنت سمعت ما قاله السيّد المعاون: الغرفة الوحيدة المتوفرة حالياً في بناية مصرفنا الصغيرة هذه هي غرفة موظفة المخزن "نجاة". وأنا أطلب منك، برجاء شخصي خاص، يا سيد سالم المحترم، أن تراعي بأقصى ما تستطبع من حلم وأناة وضع هذه الموظفة المسكينة التي تعاني من حالة مرضية خاصة!
- تؤمر، أستاذ، ولكن كيف؟
- استمع لكل أقوالها بمنتهى الكياسة والتفهّم، ولا تعارضها مطلقاً في أي شيء تقوله كي لا تغلط عليك، وسايرها بالتي هي أحسن بحيث لا تثور غاضبة عليك، وذلك تجنباً لإثارة المشاكل التي نحن في غنى عنها، والتي يمكن أن تؤثِّر على سمعة المصرف ككل!
- تؤمر، أستاذ.
- تِسْلم، سيّد سالم. أتمنى لك كل الموفقية في وظيفتك الجديدة!
- جزيل الشكر، أستاذ! أتمنى أن أكون عند حسن ظنكم باستمرار!
- بارك الله بكم!
- أنتم البركة، أستاذ!
بعد قليل، دخل معاوم المدير الغرفة، وقال:
- أستاذ: لقد جهَّزنا مكتب السيّد سالم حسب الأصول: منضدة وكرسي جديدان، وآلة طابعة جديدة أيضاً، مع فايل كابينيت حصين لحفظ الكتب!
- عاشت الأيادي! تفضّل، سيّد سالم، مع السيّد المعاون لاستلام مكتب شغلك الجديد، وشايف خير!
- جزيل الشكر، أستاذ!
- ولا تنس أبداً ما قلته لك عن مسايرة الموظفة المسكينة "نجاة"، واحترامها، وعدم معارضة كلامها، بل التأمين الدائم عليه!
- تؤمر، أستاذ!
رافق سالم معاون مدير الفرع الذي أدخله غرفة نجاة وعرَّفه عليها. وبعد جلوسه إلى مكتبه، خاطب المعاون السيّد سالم بالقول:
- مبروك، سيد سالم !
- الله يبارك فيك، استاذ.
- دقائق ويجلب لك العامل مسودة أول كتاب للطبع، وسيكون كتاب مباشرتك أنت اليوم في الدوام بالفرع! هل أنت متزوج؟
- نعم، أستاذ؛ متزوج ولي طفل واحد.
- إذاً، اجلب للمحاسب بكرة عقد زواجك وشهادة ميلاد طفلك لاحتساب مخصصات الزوجية والأطفال لك.
- تؤمر، أستاذ!
- رتِّب حِفظ الكتب المنجزة حسب تسلسل انجازها في مجر هذا "الفايل كابنيت"، واقفله على الدوام وذلك لحين مجيء العامل لأخذها للتوقيع والتوزيع، وحافظ على السرية التامة للكتب التي تطبعها. سلمني مفتاح هذا الدولاب في نهاية الدوام كل يوم بعد التأكد من قفله، واستلمه مني في بداية الدوام لليوم التالي. واضح؟
- تؤمر، أستاذ؛ واضح، أستاذ.
- أودعناكم، شايف كل الخير!
- خير الذي يصيبك، ومع السلامة أستاذ.
بعد انتهاء سالم من طباعة أول كتاب له، قالت له موظفة المخزن "نجاة" الجالسة قبالته:
- أنت سريع جداً في الطباعة، ضربات أصابعك أسرع من وَقْع مشي تمساحنا!
- أأأيْ، أي تمم تمـ تمساح، سـ ست نجاة؟
- ما بك ترتجف كالمحموم؟ إنه تمساحنا: دودي الجميل!
- دد ... دودوي الجججميل؟
- هل عندك شك بجماله؟
- ممـ معاذ الله. التـ التمساح الجميل.. دددودي الجميل، بكل حقيق.
- يبدو أنك تستهزيء بي. هل أنت مسهزيء بي؟ قُل واعترف!
- أأأستغفر الله! ممعاذ، معاذ الله إن كنت أستهزيء بكلام أستاذة فاضلة ومحترمة مثلك، ولا بالتمساح دودي الجميل!
- لا بد أنه مستمتعٌ بالسباحة في مسبحه الواسع الفاخر الآن!
- من هو الذي مستمتعٌ بالسباحة الآن؟
- هل أنت حمار، أم ماذا ؟
- عععفواً، سسست، أرجوك! أنا لست حماراً، مثلما ترينني! أنا زميلك بالوظيفة.
- ألم تسمعني أتحدث عن حبيبي الغالي: التمساح دودي؟
- بلى.
- وما دمت - يا دماغ البشَّة - قد سمعتني أتحدث عن حبيبي التمساح دودي الجميل، ألا تعرف أن التماسيح تحب السباحة؟
- أأأنا ..طبعاً، طبعاً.. أنا أعرفّ العفو، نننعم، أعرف، ولكن - ولا مؤاخذة - أأأين يسبح دودي ؟
- في المسبح الكبير المخصص له على سطح بيتنا!
- للـ لديكم مسـ مسبحٌ على سطح، سطح بيتكم؟
- نعم، بالتأكيد! وعلى جانب المسبح توجد الجنائن المعلقة الخاصة بي، والمطار المخصص للطائرات المروحية!
- ما ما شاء الله! مم .. رر ... رائع!
- لكن دودو المسكين لم يتناول أفخاذ اللحم الذي قدّمها له أبي صباح البارحة!
- صصـ .. صحيح؟ ولماذا؟
- لأنه زعلان!
- مسكين! وما سبب زعله، لا سمح الله؟
- لأن اللحم كان مستورداً!
- صحيح؟
- أجل. إن دودي الجميل لا يأكل سوى اللحم البلدي الحلال!
- بارك الله به!
- نعم! إنه تمساحٌ مؤمنٌ متقٍ ومتبتل ومثقّف ويصلي ويصوم!
- عظيم! ممم..أأأممم - يصلي ويصوم، فعلاً؟
- بالتأكيد، وكيف لا! هل سمعتني جيداًعندما قلت لك أنه تمساح مؤمنٌ متقٍ ومتبتل ويصلي ويصوم ؟ أم أنك أطرش؟
- سامحيني ست؛ لقد، لقد سمعتك، ولكنني - لا مؤاخذة ست، ست - أردت فقط التأكد بسماع ذلك مرة أخرى من لسانك الجميل!
- إخرس! كيف تسمح لنفسك بمغازلتي، أيها الجحش ؟
- أستغفر الله ، إنها ، إنها- وكلام الله – ليست، ليست مغازلة أبداً؛ بل، بل، بل هي مجرد مجاملة بريئة لجنابك، بنت الأصول!
- هل أنت مغتصب بنات ؟ وهل تخطط لاغتصابي مستغلاً ضعفي واستفرادك بي في هذه الغرفة؟ هيَا، اعترف!
- استغفر الله! يا أختي المحترمة، أنا إنسان مؤمن ومتق ومتبتل مثل تمساحك الجميل دودي الذي يصوم ويصلي! وأنا متزوج ولدي طفل واحد! اقسم لك بالله العلي القدير أنني رجل مسكين ومحافظ وأخاف الله، ولم أذنب مقدار ذرة طيلة حياتي!
- سنرى ! كل الرجال كذابون !
- عفواً ست، أنا لا أكذب، لو سمحتِ!
- سنرى ! هل تعلم أن حبيبي التمساح دودي قد أتم أداء مناسك الحج قبل عامين!
- ممما شششاء الله!
- نعم، فقد تولّى أبي تأجير طائرة خاصة له لغرض ضمان أدائه لمناسك الحج كاملة بيسر قبل عامين!
- ما شاء الله! شيء، شئ جميل! حج مبروك!
- في حينها، اتصل أبي هاتفياً بالملك الجايف إبن سعود، فأخلى له الحرم المكي لأداء مراسم الحج لوحده وذلك حسب الأوامر الهاتفية التي تلقّاها من والدي!
- عظيم! وما هو شغل والدك المحترم؟
- إنه رئيس مطعم بيع الشلغم الفاخر، على سن ورمح!
- عظيم!
- طيب! وأنتَ ،هل أنتَ فعلاً أبن عائلة راقية وذات سمعة وأخلاق رفيعة مثلنا، فتربّي بدارك تمساحاً جميلاً مثل حبيبي دودو أيضاً؟
- انا، أنن؟ .. للا...أقصد ، اقصد..ننـ .. همم ..ما ذا أقول؟ ننعم، ست نجاة المحترمة!
- صحيح؟
- نننعم، سسـ .. ست نجاة المحترمة!
- وأين تضعه؟
- همم؟ في .. في .. في همم- لنقل: في غرفة الأستقبال!
- أنت تضع التمساح في غرفة الاستقبال، أيها الكذّاب؟ ألا يُخيف الضيوف؟
- ها ؟ للـ لا، لا!
- كيف ؟
- ممم.. لكونه .. ماذا أقول؟ أستغفر الله ! لكونه، لكونه تمساحاً خجولاً جداً ومؤدباً؛ نعم، وإبن أصول، فيبقى مختفياً عن الأنظارعلى الدوام! نعم!
- مختفٍ عن الأنظار؟ أين؟
- همم.. داخل .. لنقل: داخل فرو .. فرو سجّادة القاشان في الغرفة!
- وكيف يمكن أن يختفي التمساح الضخم داخل فرو السجّادة؟
- أممم ... لأن ..أستغفر الله .. لـ لأنه، لأنه، لنقل: أن فرو سجّادة غرفة الاستقبال في بيتنا عال جداً، ويصل إلى ما فوق الرُكَب. ننعم، فوق الرُكَب، فيغطيه تماماً!
هنا يدخل المدير الغرفة، ويسأل نجاة:
- مرحباً، ست نجاة المحترمة! كيف ترين زميلك كاتب الطابعة الجديد، السيّد سالم؟ أريد منكِ معاملته مثل معاملتك لأخيك بالضبط!
- يا أخ، يا بطيخ! أستاذ، الله يخلّيك، هذا فرد واحد حمار مطفّي، وملفّات دماغه كلها محترقة، وهو يرتجف في كلامه كالسعفة مثل المجاذيب، وهو أدبسز، ومسقِّط، ويهلوس شيش بيش! يجب أن تجدوا لمكتبه مكاناً آخر بعيداً عن غرفتي الخاصة هذه، فأنا أخاف على توازن قواي العقلية وحالتي النفسية من عدوى أكاذيبه الشنيعة التي ما أنزل الله بها من سلطان!
- كيف؟
- إنه يقول بأن لديه تمساح يحتفظ به في غرفة الاستقبال بدارهم، وهو تمساح خجول ومؤدب وإبن أصول ومختفٍ عن الأنظار داخل سجادة القاشان التي يصل فروها فوق الرُكَب! أساله أنت بنفسك لتتأكد من صحة كلامي!
- صحيح أنت قلت هذا الكلام، سيّد سالم؟
- لا حول ولا قوة إلا بالله! نن ننعم، أستاذ ! صصصحيح، أستاذ!
- يا الهي! من أين أجلب غرفة يجلس فيها لوحده كاتب الطابعة الجديد المخبول الآخر هذا؟