الرد على مقالة الباحث: السيد عبد الحسين سلمان/ 3-20
حسين علوان حسين
الحوار المتمدن
-
العدد: 8242 - 2025 / 2 / 3 - 21:31
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
4. من الذي أسس وبنى الحضارة الأسلامية؟
الحضارة الاسلامية أسسها العرب بفضل دين نبيهم العربي محمد بن عبد الله، ومن آمن برسالته من عرب مدينتي مكة ويثرب أولاً ومن بعدهم كل بلاد العرب في الجزيرة واليمن وعمان والعراق، وليس أحداً غيرهم؛ فنالوا بذلك ريادة التأسيس وأصبحوا مادة الإسلام الذي نشروه بحد السيف شرقاً حتى الهند والصين وغرباً حتى جبال البرانيس الفاصلة بين الأندلس وفرنسا. وقد بلغت هذه الحضارة عصرها الذهبي في زمن الدولة العباسية والأموية في الأندلس، فأصبح العالم الاسلامي بفضلها رائد البشرية جمعاء في تطور كل العلوم والآداب والمهن والصناعات والاقتصاد والتجارة والجيش والتعليم والصحة على نحو فريد شهد له القاصي والداني من علماء الغرب بعدئذ، فيما كانت أوربا تغط في سبات العصور المظلمة. هذه الحضارة بناها المسلمون بكل شعوبهم كافة في المشرق والمغرب من العرب وغير العرب، وقد شاركهم فيها أيضاً المسيحيون واليهود وغيرهم من الطوائف الدينية التي عاشت بين ظهرانيهم.
وعلى العكس من هذا، نجد أن هذه الحضارة قد أخذت بالنكوص أولاً، ومن ثم الدخول في الفترة المظلمة عندما حكمتها سلالات غير عربية من مغول وفرس وأتراك من القرن الخامس عشر وحتى العقدين الأولين من القرن العشرين. لذا، فإن محاولة السيد عبد الحسين سلمان الفاشلة والسقيمة تصوير هذه الحضارة بكونها حضارة أقامها الأعاجم ولا مساهمة لمؤسسيها العرب فيها إلا ما ندر أنما تفوح منها رائحة الشوفينية المقيتة المعادية للعلم ولحقيقة أممية الحضارة البشرية، علاوة على نفي الوقائع التاريخية لها جملة وتفصيلاً مثلما سأبيّن في هذه السلسلة. لم يعرف تاريخ البشرية قط أي حضارة متطورة يمكن أن يحكمها شعب غير متحضر متسلط على عشرات الشعوب الغريبة المتقدمة التحضر. الشعب غير المتحضر – مثل القبائل الجرمانيه ألتي أسقطت روما والمغول الذين أسقطوا بغداد – يخرّب حضارة الشعوب التي يحتلها و يتسبب باندثارها. ويكفينا دليلاً قاطعاً على بناء ورعاية العرب للحضارة في منجزاتهم الحضارية الراقية المشهودة والباقية حتى اليوم والتي يعترف علماء الغرب بها في بلاد الأندلس، مقارنة بغيرها من بلدان الفرنجة المجاورة لها والتي بقيت متخلفة حضاريا عنها حتى بعد سقوط حكم العرب في الأندلس. ومن المعلوم أن الطائفة اليهودية في الأندلس قد تبوأ منها الوزراء والسفراء والقادة العسكريون مناصب رفيعة في زمن الدولة الأموية في الأندلس وذلك على نحو حضاري مشهود وغير مسبوق .
واليوم، يشكل أتباع الدين الإسلامي ثاني أكبر وأسرع تجمع ديني رئيسي نموًا في العالم، رغم الشيخوخة والاندثار التي طرأت على بعض أحكامه الاجتماعية والعقابية القروسطية وما ابتدعه "الدينجية" من بدع التلكج والتنقب والتكفير بايعاز وتشجيع وتمويل الفاشيىة الامبريالية الداعشية المتعفنة. واعتبارًا من عام 2020، تشير توقعات مركز بيو (PEW) للأبحاث إلى أن هناك إجمالي (1.9) مليار مسلم في جميع أنحاء العالم؛ وهناك (57) بلداً يشكل المسلمون أغلبية سكانه.
وقد شهد التاريخ عدة ظواهر ثيواجتماعية تخص الشعوب المسلمة على نحو متفرد: أ) أنها بقيت متمسكة بدينها الاسلامي حتى بعد زوال حكم العرب عنها ولم تعد إلى أديانها السابقة؛ ب) أن الغزاة غير المسلمين لبلاد الاسلام – مثل المغول والبويهيين والسلاجقة والأتراك ونابليون بونابرت – قد اضطروا لإشهار اسلامهم وليس فرض دينهم على المسلمين بفضل تجذره العميق في نفوس معتنقيه، في حين اضطر المحتلون الانجليز والفرنسيين في القرن العشرين لتعميل مسلمين محليين للحكم وكالة عنهم؛ جـ) أن العديد من شعوب العالم قد اعتنقت الإسلام طوعاً بلا حروب واحتلالات، وإنما عن طريق الاحتكاك التجاري مع التجار والرحالة المسلمين لتفضيلهم الأسلام على غيره من الأديان مثل اندونيسيا وماليزيا وبروناي.
السؤال الآن هو: ما هي المميزات التي تفرد بها دين محمد فجعلته بمثل هذه الجاذبية الكونية على مدى أربعة عشر قرناً ويزيد، فيما تشير التوقعات إلى أنه سيصبح أكبر دين في العالم خلال القرن الحالي؟
أن تعاليم كل دين إنما هي نتاج الوعي الاجتماعي المحكوم بوضع المجتمع في زمكانه الخاص. وقد تميز الوضع الاجتماعي الذي عايشه محمد في مكة بتفشي جملة من الضواهر الاقتصاجتماعية السلبية والتي ولدت لديه القناعات الراسخة بوجوب اجراء الاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية الناجعة التالية لتجاوزها:
1. ضرورة نصرة المظلومين والمستضعفين من أهل مكة ضد طغمة ارستقراطية قريش التجارية.
2. ضرورة كفالة معيشة الفقراء والمعوزين.
3. ضرورة تأمين الكفاية المعاشية للمرأة.
4. ضرورة المساواة بين الناس جميعاً ونبذ التفرقة العرقية والطبقية.
5. ضرورة الغاء العصبية القبلية بابدالها بالولاء لعصبية دينية جامعة كبرى.
6. ضرورة التشاور الجماعي قبل اتخاذ القرارات المصيرية.
7. ضرورة التوكيد على مكارم الأخلاق ونبذ سيئها واثابة الملتزمين بذلك في القيامة.
8. ضرورة تشجيع التواد والتراحم والتواصل بين الجماعات والشعوب.
9. ضرورة تشجيع التعليم واكتساب العلوم.
10. وجوب فرض الضرورات الاجتماعية أعلاه من فوق، سواء بالاقناع او بحد السيف.
11. وجوب توثيق كل هذا في دستور مقدس محفوظ.
وقد عالج محمد الضرورة الأولى أعلاه بسن مبدأ "العدل أساس الحكم، والملك لله"؛ والضرورة الثانية بفريضة الزكاة لإعانة الفقراء والمساكين وابن السبيل وفي الرقاب والغارمين... وتشجيع التكافل الاجتماعي بين المسلمين ومباركة الانتاج بجعل العمل عبادة، وتحريم الربا والغش والغبن والضرر والغرر والاحتكار في العقود والتعاملات التجارية، والتشجيع على فك الرقاب لمحو الآثام والذنوب؛ والثالثة بضمان استقلال ذمة المرآة عن ذمة الرجل وحقها في العمل والميراث وحق الزوجة في الصداق والاعالة على زوجها؛ والرابعة بقاعدة "المسلمون سواسية كأسنان المشط"؛ والخامسة بقاعدة "وأمرهم شورى بينهم"؛ والسادسة بفرض العصبية والولاء للاسلام حصراً وليس للنسب أو القبيلة وذلك حسب قاعدة: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كُرَب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة" وبقاعدة: "كل المُسلمِ على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه" و "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار"؛ والسابعة واضحة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتوبة النصوح للمذنب لمحو ما قد سلف، وفق قاعدة: "الإسلام يُجِبُّ ما قبله والتوبة تُجِبُّ ما كان قبلها"؛ والثامنة في مقولة "جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم"، مع تكريس اجتماع المسلمين مع بعضهم البعض لإقامة الصلواة الخمس وصلاة الجمعة في المساجد كفريضة دينية؛ والتاسعة بجعل طلب العلم فريضة واجبة على كل مسلم ومسلمة؛ والعاشرة بفرض الجهاد في سبيل نشر الاسلام ؛والحادية عشرة في اتمام كتاب القرآن كلاماً لله مع حصر الحكم لله.
كما حرص محمد على تيسير الدخول بالسلام عبر فعل خطابي يقتصر على تلاوة الشهادتين بلا مراسيم كهنوتية ولا تعميد، وقصر الولاء السياسي للحاكم على إشهار المبايعة اللفظية له، وعلى الوسطية وتجنب التطرف ما أمكن ذلك، وعلى الزهد بالدنيا والتقشف بالمأكل والملبس والمسكن، وعلى الحرص الشديد على بيت مال المسلمين.
ولقد أحدثت كل هذه الاصلاحات وغيرها ثورة اجتماعية كبرى فرضت أفضلياتها الانسانية والحضارية بنفسها فرضاَ على المجتمع المديني في يثرب ومكة أولاً، ومن بعدها على غيرها من الحواضر العربية وغير العربية لخدمتها للمصالح الاقتصادية والاجتماعية للسواد الأعظم من الناس على نحو متقدم في زمانها. كل هذه المباديء وغيرها جعلت من محمد بن عبد الله أحد أعظم المصلحين الاجتماعيين في تاريخ البشرية طراً.
وما أن توفي محمد، حتى بدأ الصراع السياديني بين المسلمين؛ حيث تمخض اجتماع سقيفة بني ساعدة عن حصر الطبقة الحاكمة للمسلمين برجالات قريش دون غيرهم من أتباع الدين الجديد، فأعقبت ذلك حروب الردة لفرض هذا القرار بحد السيف، ليحصر بعدئذ معاوية بن أبي سفيان امتياز الحكم بالأمويين، وأبو عباس السفاح بالعباسيين، والفاطميون والعلويون بأبناء على وفاطمة ممن يختارون، حتى قفز بعدهم الفرس والمغول والأتراك والعثمانيون تباعاً إلى رأس السلطة السيادينية، حيث هيمن الأخيرون على الخلافة الاسلامية للفترة المظلمة من القرن الخامس عشر وحتى بداية القرن العشرين. وما كان بمقدور المسلمين من غير العرب حكم بلدان المسلمين لولا تجذر المبدأ المحمدي القاضي بالمساواة بين المسلمين كافة. ومنذ العهد الأموي فصاعداً، أصبح بيت مال المسلمين تحت تصرف مشيئة ونزوات الخليفة، فيما تم قمع ثورات الخوارج الداعين بحق كل مسلم ومسلمة بالخلافة وإن كان عبداَ أو أمة سوداء؛ وصير إلى وأد تطبيقات القرامطة لعدد من الاصلاحات الاشتراكية. ولقد تكفل الفاطميون بعدئذِ بابتداع جامعة الازهر كمؤسسة شبه بابوية جديدة لتخريج الكهنوت، كما قام الشيخ أبو جعفر الطوسي بتأسيس مرجعية التقليد الإمامية في النجف لنفس الغرض...
ولكن بقية اصلاحات محمد المهمة جداً بقيت نافذة المفعول بهذا الشكل أو ذاك حتى يومنا هذا.
الغرض من هذا الموجز هو التوكيد بأن دين محمد قد ساوى أولاً بين المسلمين كافة بغض النظر عن انسابهم وقبائلهم وشعوبهم، بل وقد بلغ الأمر بمحمد حد الحاق الصحابي سلمان الفارسي الموالي للإسلام بآل بيته أنفسهم :"سلمان – الفارسي – منّا أهل البيت"؛ وثانياً، بأنه قد فرض قانون كون الولاء الأساس للمسلم انما هو لتعاليم الإسلام، فحسب. أما المسلمون كافّة من العرب وغير العرب – وحتى يومنا هذا – فيسمّون بـ: "أمّة محمد". ونجد اليوم في معاجم الانجليزية توكيداً تاريخياً لغوياً على دلالة أمة محمد على المسلمين كافة بالمفردة: "المحمدي" (Muhammadan) وتعريفها القاموسي: من أتباع محمد؛ مسلمٌ.
(a follower of the religion of Islam a Muslim)
لذا، فإن المحاولة الفاشلة واللاتاريخية للسيد عبد الحسين سلمان فبركة جدار فاصل بين العرب وغير العرب من المسلمين في بناء الحضارة الاسلامية تتجاهل الحقيقة الواقعة والمتمثلة بأن تعاليم الاسلام تفرض أنه لا ولاء لكل المسلمين إلا لمباديء الإسلام، وليس لغيرها، أياً كانت. وهذا يعني أن كل المسلمين الملتزمين موالون للإسلام على الأقل بأهم اصلاحاته الاجتماقتصادية الإحدى عشر المدرجة أعلاه.
ومن البديهي أن كل انسان إنما يخلص لولائه الشخصي وليس لنَسَبِه البتة؛ لذا، نرى اليوم الملوك والأمراء العرب من الهاشميين وغير الهاشميين يخلصون لأسيادهم الامبرياليين الغربيين المتعفنين من الأمريكان والأوربيين الفاشيين والشموليين الداعشيين من تجار الحروب والمجرمين وليس للمصالح العليا لسواد شعوبهم العربية؛ ونرى الرؤساء العرب وغيرهم ممن شاكلهم ومن لف لفهم من الصهاينة العرب ينبطحون بكل استسلام وتبتل واخلاص لأسيادهم دولة القتل المبرمج لعصابات الصهاينة النازيين المجرمين المبيدين للشعوب؛ ونرى الشيخ محمود الحفيد يحارب لخلق الوطن القومي المستقل لشعبه الكردي وليس لآل محمد الذين ينتسب لهم؛ فيما اعتلي الشيوعيون العراقيون الأبطال الأماجد من المسيحيين واليهود والاكراد والتركمان والعرب أعواد المشانق جيلاً بعد جيل ولاءً منهم لبناء الوطن الحر والشعب السعيد... وليس لخدمة أنسابهم وعشائرهم وطوائفهم.
سأعود لموضوع الموالاة والموالي في الحلقة التالية.
يُتبع، لطفاً.