علم الأخلاق الماركسي ونعيم أيليا/ 4


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 7994 - 2024 / 5 / 31 - 02:54
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

الخلط الممنهج بين المفاهيم المختلفة والمتناقضة
من الملاحظ أن الاستاذ نعيم إيليا المحترم يتعمد الخلط في مقالته المنقودة هنا بين مفهومي "الغرائز" و"الأخلاق" على طول الخط. قبل أن أوضح العلة في هذا الخلط الممنهج، أجد أن من المفيد في هذا الصدد عرض مساهمتين مهمتين ضمن التعليقات على الحلقة الأولى من هذه السلسلة لأنهما تلقيان المزيد من الأضواء الكاشفة على الموضوع.
1. مساهمة الأستاذ الفاضل حميد فكري المحترم
في نقض تصور السيد نعيم إيليا للأخلاق
أول شيئ يثير الإنتباه هذه الملاحظة (فتكون الأخلاق بهذا الترجيح، عند البحث فيها، قضيةً من قضايا علم الحياة ودليل ذلك أن النظر ... على ضوء نظرية التطور الداروينية المعروفة بتناولها بالتفسير العلمي مشكلاتِ الحياة البيولوجية للحيوان عامة ... وجد لها مناطاً بقانون حفظ النوع. وقد يُعبَّر عن هذا القانون بكلمة(حبّ الحياة).
إذن فالاخلاق تفسر بقانون حفظ النوع.
لكن حفظ النوع هذا، كما نقرأ في النص النعيمي (حبّ ليس بإرادة البشر أنفسهم، بل بإرادة الحياة. وهي إرادة يجهلها البشر. فلا يعلمون لماذا يجب عليهم أن يحيوا).
غير أن السيد نعيم لم يذهب في منطقه هذا الى منتهاه، إذ يبدو أن علم البيولوجيا عنده قاصر على الإنسان وحده دون غيره من الكائنات الآخرى. لذلك هو لم يسأل نفسه: إذا كانت الاخلاق ليست بإرادة البشر بل بإرادة الحياة، فأليس من الطبيعي أن تكون عند الحياوانات والنباتات والكاءنات المجهرية لضرورةها في حفظ نوعها؟
كانت هذه إذن هي القاعدة التي بنى عليها السيد نعيم تصوره للأخلاق ويبدو أنها قاعدة هشة.
إذا كانت الاخلاق موجودة عند البشر ليست بإرادتهم بل بإرادة الحياة مثلما قال السيد نعيم إيليا؛ وكانت، كما يعلم الجميع، غير موجودة عند الحيوانات والنباتات وغيرها رغم أن هذه كلها محكومة بقانون حفظ النوع بقوة الحياة.فالسؤال هو بأي شيئ تحفظ هذه الكائنان نوعها؟
الجواب إنها الغرائز وليس الأخلاق.
لكن السيد نعيم يخلط بين الإثنين. وعلى هذا الأساس يكون تحليله واستنتاجاته خاطئة تماما.
الغرائز نوعان: غريزة الأكل والشرب وغريزة التناسل. وكلاهما طبيعيتان وتتمحوران حول ضرورة الحفاظ على النوع. فبدونهما يستحيل استمرار الحياة، وقد تستمر الحياة بدون أشياء آخرى، ودليلنا في هذا هو استمرار مملكة الحيوانات والنباتات وغيرها من الكائنان الآخرى.
فهذه الكائنات الحية تستمر بحفظ نوعها ليس بإرادتها أو بالأخلاق - لأنها تفتقدها - بل بإرادة الحياة (قوانين طبيعية) عن طريق غريزَتَي التغذية والجنس فقط .
علم البيولوجيا، علم يدرس الكائنات الحية باختلاف أنواعها باعتبارها كائنات حية بما فيها الإنسان لكونه كائنا حيا، ولذلك كانت قوانينه تسري عليها برمتها وليس على أحدها وإلا لما كان علما بيولوجيا. حينها سيكون علما أنثروبولوجيا.
علم البيولوجيا بريئ مما ينسبه إليه السيد نعيم إيليا، إلا إن كان هذا العلم مخطأ في تفسيره منشأ الأخلاق.
إذ لو كان مصدر الأخلاق النفس والقلب، وكان هدفها حفظ النوع، لوجدناها أيضا بضرورة الطبيعة عند الكائنات الحية الآخرى.
وسبب هذا الخطأ هو الخلط القائم عند السيد نعيم بين الغرائز والأخلاق.
يقول (وإذا كان لا مفرّ من التدليل على هذا بمثال، ذُكرت الأمُّ التي تكاد تكون الخلية الأولى لكل المجتمعات الحيوانية. فلوما الطبيعة زوَّدت الأمَّ بعاطفة التحنان، الحب، العطف... لأهملت كل أم وليدها، فقضى.)
الحنان الحب ...لا تنتمي الى دائرة الأخلاق، بل الى دائرة غريزة النسل الفطرية سيما عند الكائنات الأكثر تطورا، كالحيوانات والإنسان.
لذلك لانجدها عند النباتات والكائنات المجهرية.
الحيوانات مدعوة للعطف على صغارها ليس بدافع أخلاقي قيمي لأنها لاتعطف لإدراكها بقيمة هذه العاطفة، بل بدافع طبيعي مرتبط بغرائزها فقط.
كما أن ميلَ الإنسان إلى المحبة والتراحم والشفقة وإن كان (ميلا طبيعيا فطريا) لايعد حافزا لتكوين الأسرة، فالقبيلة، فالمجتمع، فالدولة.
وإلا كيف نفسر لماذا لم تكون الحيوانات مثلا هذه الأشكال من التجمعات!

2. مساهمة العزيز الاستاذ الفاضل الدكتور طلال الربيعي الورد
آراء الأستاذ ايليا تخالف العلم والمنطق
- الاستاذ ايليا يتكلم عن وصية السيد المسيح
-لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ-
ويعتقد انها صحيحة عبر التاريخ وبالإطلاق! بغض النظر عن صحتها من عدمها, فاني أتسائل اذا كانت الأخلاق فطرية لماذا يقوم السيد المسيح بتوجيه الوصايا؟
والسؤال الأهم ما الغرض من إرسال الأنبياء والمرسلين ووجود المصلحين اذا كانت الأخلاق فطرية-غرائزية؟
وإرسال انبياء او مرسلين (من قبل الله؟) الى البشر يدلل على إن الأخلاق وسلوكياتها تتغير دينيًا حسب الظروف الاجتماعية والتاريخية وان الله يقوم بنوع من التجديد
updating
للأديان والأخلاق وإلا لكانت الأديان مجرد
recycling
او تدوير لبعضها البعض!
اني اعتقد إن المؤمن بأي دين لن يقبل بموضوعة
recycling
وإلا ما هو سبب الخلافات والحروب الدينية اذا كانت كلها تعبر فقط عن غريزة فطرية واحدة؟ وهذا أمر لا اعتقد الاستاذ ايليا نفسه سيقبله!
اقتبس:
-269: قال السيد المسيح: -لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ- (مت 5: 39)، فلماذا عندما لطمه خادم رئيس الكهنة اعترض عليه (يو 18: 22)؟ ولماذا عندما لُطِم بولس الرسول بأمر رئيس الكهنة ثار وشتم رئيس الكهنة؟ وهل وصية يسوع هذه تعتبر حبر على ورق لأنها ضد كرامة الإنسان وضد الطبيعة البشرية؟ وهل لو كان السيد المسيح في موقع المسئولية كرئيس دولة أو رئيس حكومة، كان يقبل أن الإنسان يُلطم ويُهان ولا يدافع عنه؟
يقول -دكتور محمد توفيق صدقي-: -ومن منهم أدار خده الآخر للضاربين (مت 5: 39) وأحب أعداءه؟ أليست هذه التعاليم كلها حبر على ورق، وهيَ في ذلك غلو مزعوم مخالف للعقل والعدل والطبيعة البشرية، وإيجابها في جميع الأحوال نوع إلى المذلة وإلى الفساد بطغيان الأشرار - (625).
-مكتبة الكتب المسيحية-
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/269.html
2- الاستاذ ايليا يذكر أن موضع الأخلاق في القلب أو العقل أو الدماغ أو النفس (النفس من وجهة نظر علم النفس ام نفيضه التحليل النفسي أم ماذا؟)
القلب فسيولوجيا هو مضخة دم ولا يحتوي على غرائز او اخلاق. و لا ادري هل يساوي الأستاذ ايليا العقل بالدماغ لان فلاسفة العقل لا يعتقدون هذا. ولكن اذا اتفقنا مع الأستاذ ايليا في ان الأخلاق موضعها الدماغ (ونحن لا نتفق), نرجو من الاستاذ ايليا تحديد موقعها في الدماغ! واي دماغ سيكون: الأمامي، الوسطي، الخلفي، بالنسبة الى ثلاثية الدماغ حسب عالم الاعصاب
Paul D. MacLean
في 1960s
علما ان العلم قد تجاوز هذه النظرية أيضا. اي بمفهوم العلم الحالي.
Your three brains
.https://bigthink.com/neuropsych/triune-brain/
العلم وخصوصا علوم الدماغ والأعصاب لا تتفق مع الاستاذ ايليا. ولا ادري ابن استقى معلوماته هذه! انها قد تكون وجهة نظر وهي محترمة ولكنها مخالفة للعلم.ئ
الاعتراض بان العلم قد يتطور وبفشي أسرارا جديدة صحيح عموما, ولكنها مسألة عقيدة (العلم يصبح دينا!) وليست علما. والخطأ هو خطأ منطقي أيضا. ولا يمكن اثبات الفرضية علميا بسبب كثرة المتغيرات وتعقيدها واختلاف الظروف وامور عديدة اخرى .
3- اذا كانت الأخلاق غرائز كالجوع والجنس فينبغي أن يكون لها وسائل عملها الفسيولوجية وتركيباتها التشريحية. الإنسان يشعر بالجوع عندما ينخفض مستوى هورمون الأنسولين فيرسل الدَّم، ببعض التبسيط، إشارات كيمياوية عبر ناقلات عصبية الى الدماغ تحفز الشخص على تناول الطام لرفع مستوى السكر المنخفض في الدَّم.
الجنس له أيضا هورموناته الذكرية والأنثوية ونافلاته العصبية وتركيبته التشريحية المعروفة علميا.
إذن نسأل السيد ايليا: ما هي فسيولوجية الأخلاق وتركيبها العصبي او التشريحي؟ ونرجو من الاستاذ ايليا دوما ذكر المصادر العلمية وإلا اصبح النقاش عبثيا وهذا ما لا نرجوه.
اذا كانت الأخلاق فطرية او بيولوجية, فمَا الغاية من وجود فلسفة الأخلاق وعلوم التربية؟
ولماذا يدخل المدرسون والمعلمون كليات التربية اذا كانت الأخلاق فطرية. ولماذا يربي الآباء أطفالهم؟
5. العبودية، كمثال، كانت مقبولة أخلاقيا في عصر العبودية ولكنها غير مقبولة الآن. مما يدلل على إن استعباد الإنسان للإنسان ليس غريزة.
6- التركيب ألجيني للإنسان
Human Genome Project
تم كشفه الكامل في عام 2003
First complete sequence of a human genome
https://www.nih.gov/news-events/nih-research-matters/first-complete-sequence-human-genome
فهل هنالك جين خاص بأي نوع من أنواع الأخلاق؟
7- علما إن الجينات ليست ثابتة بل في تفاعل مع البيئة المتغيرة. وهذا موضوع يدرسه علم
Epigenetics
وهو علم التغير.
Epigenetics: The Science of Change
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC1392256/
8- بالنسبة الى التحليل النفسي (المناقض للديكارتية= وحدة العقل او النفس) فهو يعتبر الأخلاق وسلوكياتها تعبيرًا عن الأيديولوجية التي يحددها بشكل اكبر العقل الباطن. ومن المحللين النفسيين الماركسيين الذين عالجوا الأيديولوجيا فاسلاي جيجيك وآخرون أيضا.
مع كل المودة والاحترام.

انتهى نص المساهمتين المهمتين والمشكورتين بصدد موضوع هذا المقال.
لكن لماذا يتعمد الأستاذ نعيم إيليا المحترم الخلط بين الغرائز والأخلاق؟
الجواب واضح: خلط الاوراق بين الغرائز المتوارثة (التغذية والجنس ..الخ.) من جهة، وبين الاخلاق المكتسبة من البيئة الاجتماعية من جهة أخرى يمكن أن يفيد في تسويق فكرة كون الأخلاق موروثة، وهو ما تذهب اليه تلفيقات نظرية الأخلاق التطورية التي تفشل كليا في تفسير سبب عدم وجود مفهوم الاخلاق عند أنواع الحياة الأخرى (الحيوان والنبات، مثلا) ووجودها عند الانسان فقط، رغم أن قانون حفظ النوع ينطبق عليها جميعاً! ما السبب في هذا الفشل؟ لكون الأخلاق يتم اكتسابها على ارض الواقع اجتماعياً وليس وراثياً، وبالتالي فهي أجنبية على علم الأحياء الذي يرفض تلطيش ماهو ليس منه به. ليس هذا فحسب، بل أن هذا الخلط بين الغرائز والأخلاق يريد به الأستاذ نعيم إيليا المحترم اثبات كون الأخلاق ثابتة لا تتغير، وهذا زعم لا يستحق الرد عليه في ضوء كون الامثلة الموثقة التي تثبت تواتر تغير الاخلاق الاجتماعية من عصر لآخر وبين مجتمع ومجتمع معاصر آخر هي أكثر وأسطع من أن ينكرها عاقل. رحم الله هيغل الذي قال ما معناه: ما أن تدخل فكرة الحرية عقول البشر فليس هناك من شيء في العالم يستطيع اخراجها منهم.

منشأ الاخلاق
منشأ الأخلاق كاحد أشكال لتجلي العلاقات الاقتصاجتماعية القائمة يفرضه وعي البشر للأفكار بصدد امكانية خلقهم لحياة مستقبلية أفضل؛ عندها لا شيء سيوقفهم من التحرك بهذا الاتجاه مهما كانت الصعاب. في كل مجتمع طبقي توجد الطبقة الرجعية المستفيدة من نمط الانتاج الاجتماعي القائم والمهيمنة على نظامه السياسي-الاقتصادي والتي تعمل كل شيء من أجل تسويقه كما لو كان يصب في صالح كل طبقات المجتمع، وتسن القوانين التي من شأنها ادامته وتنتج التوجيهات الاخلاقية والاديولوجية الأخرى الخادمة له. كما توجد في المقابل الطبقة الاجتماعية المستغَلة المتضررة من دوام الوضع القادم، والتي ما أن ينشأ عندها الوعي المطلوب لتصور امكانية وجود وضع اجتماعي مختلف يضمن لها مستقبلاً متقدماً اجتماعياً أفضل و أكثر عدالة من الوضع القائم حتى تبدأ بالنضال السياسي باتجاه جعل هذا الوضع واقعا ملموساً، وتخلق من اجل هذا ايديولوجيتها الخاصة بضمنها منظوماتها الاخلاقية الجديدة الخادمة لتحقيق أهداف هذا النضال، وخصوصاً التضامن الطبقي. يتواصل هذا الصراع حتى بلوغ نقطة التحول أو الانقلاب الاجتماعي لنمط الانتاج القديم الى نمط انتاج جديد، فتحل أخلاق التقدم الرائدة محل اخلاق الرجعية البائدة.
هذا يعني أن تطور المجتمعات البشرية من مرحلة انتاجية إلى مرحلة أعلى حاصل في خضم صراعها المتواصل للسيطرة على قوى الطبيعة وتوظيفها لصالح تقدم الانسان وتحسين ظروف معيشته، وأن لكل مرحلة من تلك المراحل لها منظوماتها الاخلاقية الخاصة بها. الانسان في المجتمعات التي انتقلت من مرحلة العبودية الى القنانة كان هو نفسه الانسان في المرحلتين، ولم تحصل هذه الطفرة في نمط الانتاج الاجتماعي بفعل طفرة تطورية مزعومة.
ولكن ما الذي يميّز الأنسان عن غيره من المخلوقات فيجعله يطور الانتاج المادي لمستلزمات حياته كلما توفرت له الظروف الملائمة باستمرار؟ الجواب هو قدرة الأنسان على أن يتصور ومن ثم أن يناضل لتحقيق وضع مستقبلي أفضل مما هو عليه في الزمكان عبر وعيه للتناقض المدرك في العلاقة القائمة بين ما هو كائن وبين ما هو الأفضل الذي يجب أن يكون. ظروف الحياة البشرية الاجتماعية هي التي تدفع الناس إلى تكوين المثال الاخلاقي لحياة أكثر وفرة والسعي لتحقيقها. لذا فإن وعي البشر لما هو أفضل وأسوأ وما هو صح وخطأ يتحدد على المدى الطويل بظروف حياتهم الاجتماعية. هذا التطلع البشري الواعي لضرورة "ما يجب أن يكون" في الوضع الاقتصاجتماعي المعيّن هو المثال التي اشتقت منه المجتمعات البشرية معاييرها للصح والخطأ في الأخلاق. لذا نجد أن نظرية الأخلاق برمتها تحاول ان تشرح الكيفية والسبب في نشوء فكرة وجوبية حصول تصرف ما وليس عكسه.
غير أنه بدون توفر الظروف الاجتماعية المؤاتية للبشر قد لا يعود بامكان البشر الحياة أو قد يتجمد الصراع للغد الأفضل أو ينتكس، ولكن تطلعهم وصراعهم للغد الأفضل لن يتوقف على مر الأجيال ما بقي البشر على وجه البسيطة.بدون الصراع لا يوجد التقدم. وكلما بلغوا مستوى جديداً في الحياة، ظهرت المصاعب الجديدة ويتفاقم الصراع بين قوى التقدم والقوى الرجعية المستفيدة من استمرار الأوضاع القائمة لتظهر من خلال احتدام هذا الصراع الامكانيات الجديدة والتطلعات الجديدة في حلقات جدلية متصاعدة لا يتوقف خلال النضال البشري أبداً لصناعة التاريخ الذي نرويه الآن. "التاريخ لا يفعل أي شيء. ولا يمتلك الثروات هائلة، ولا يخوض المعارك. إن البشر، الحقيقيين، الأحياء، هم الذين يفعلون كل هذا" يقول ماركس. الاتجاه التاريخي العام في هذا النضال الشاق لا تحدده على المدى الطويل الأهواء أو الأوهام ولا الاستحواذ والجشع والاستغلال؛ بل تتحدده طبيعة الإنسان، والظروف التي يعيش فيها، والقوى المادية والاجتماعية التي تؤثر على آماله وتطلعاته. (1)

الأخلاق والحقوق هما صفحتان لورقة واحدة
يقول الأستاذ نعيم أيليا المحترم في مقاله المنقود ما هو آت عني أنا: حسين علوان حسين:
" ثم عمد أيضاً إلى تحريف آخر، إلى تحريف الأخلاق، فأدعى أن تحرير الإنسانية من الاستغلال هو من الأخلاق. والحق أن هذا من الحقوق وليس من الأخلاق."
انتهى اقتباسي من نص الاستاذ نعيم إيليا المحترم.

هل صحيح أن الحقوق ليست من الأخلاق مثلما يذهب الأستاذ نعيم إيليا المحترم في معرض رده التلفيقي علي؟ أين إذن كل كلامه ذاك عن نظرية الاخلاق عند أرسطو الذي يعتبر أن العدالة الاجتماعية (وهي أحدى معايير الأخلاق قطعاً) هي حق للمواطن برقبة الحاكم؟
تحدد الأخلاق العناصر الأساسية لرفاهية الإنسان وذلك بتقديمها المبادئ الفاعلة كأدلة عمل لتوليد وتجذير الثقافة الأخلاقية الموائمة لخلق الظروف الاجتماعية اللازمة لتطور الإنسان. وهي تشير أيضًا إلى القيم والمعايير والقواعد والاتفاقيات المحددة التي يتبناها الناس لممارسة حياتهم. الأخلاق هي ذلك الجزء الأساسي من الأعراف الاجتماعية التي لا تحدد فقط احتياجات البشر فحسب، بل وتعترف بهم كأشخاص فاعلين وأصحاب حقوق، وبالتالي فهي تحدد واجبات والتزامات المسؤولين عن ضمان تلبية تلك الاحتياجات والحقوق.
لنأخذ مثلا المبدأ الأخلاقي القاضي بحسن الجوار. هذا المبدأ – مثل كل المباديء الأخلاقية الأخرى - يستحيل أن يتحقق إلا من خلال ممارسته عملياً بالطبع على أرض الواقع بين الأشخاص المتجاورين. كما يستحيل أن تتم ممارسته عملياً بغية تحقيقه دون وفاء الجار لـ "مسؤوليته" في حسن الجوار التي هي "حق" جاره عليه. نفس الشيء ينطبق على مبدأ مساعدة المحتاجين. الالتزام بهذا المبداُ يرتب المسؤلية على من يقدم المساعدة ويرتب في نفس الوقت حقاً لمستلم تلك المساعدة. وهذا ما توضحه الآيتان القرآنيتان: "وفي أموالهم حق معلوم / للسائل والمحروم (المعارج: 24-25). هذا يعني أنه يستحيل تحقق أي معيار أخلاقي للقيام بفعل ما أو بالامتناع عنه إلا بتحمل الإنسان الملتزم مسؤولية الأداء لما يرتبه هذا الالتزام من حقوق للغير. وفي التحليل النهائي تصبح الحقوق هي الوجه الآخر لصفحة الأخلاق، بحيث أن الغاء أحدهما يفضي حتماً الى الغاء لازمها الثاني.
**
(1)
كارل ماركس (1846) العائلة المقدسة، الفصل السادس.
هاورد سلسام (1965) الأخلاق والتقدم. نيو يورك: الناشرون العالميون.