أمل


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 8106 - 2024 / 9 / 20 - 09:45
المحور: الادب والفن     

في عصر ذاك اليوم، كان "داود" يتمرّن لوحده بكرة السلة في حديقة دارهم الواسعة - التي كان والده الطبيب قد حرص على نصب عمود منفرد لكرة السلة أقيم على جانب المسقّف الخاص بلعبة كرة المنضدة – عندما دقَّ جرس الباب الخارجي للبيت. خرجت شقيقته زينب مسرعة لفتح باب الدار، فسمع تبادل الحديث بينها وبين وصوت أسمهاني هادل غريب:
- مساء الخير؛ أنا جارتكم: أمل. نحن جيرانكم الجدد: ثالث باب على اليسرى. لديَّ نوعين من لفائف خبز العباس للتوزيع؛ أيهما تفضلين: بالكباب أم بالجبن؟
- يا أهلاً وسهلاَ وألف مرحب بجار السرور. اسمي زينب، تفضلي، ادخلي، ست أمل، ارتاحي عندنا قليلا، أرجوك، لطفاً! دعتها شقيقته زينب.
- أعذريني، ست زينب الوردة، يجب عليَّ اتمام توزيع صينية خبز العباس هذه كلها!
- بالخير واليمن والبركة والتمام والقبول! ما هي المناسبة؟
- بمناسبة شرائنا لبيتنا الجديد!
- ألف مبروك! هل أنت طالبة؟
- نعم. في الصف السادس العلمي.
- سبحان الله! كم هي فرصة سعيدة! أنا وشقيقي دودي مثلك في الصف السادس العلمي؛ هو في سنته الثانية وأنا في سنتي الأولى! بأي مدرسة تداومين؟
- اعدادية الزهور.
- في أي منطقة تقع هذه المدرسة؟
- بالدورة، محلة المهدية! وأنت؟
- في اعدادية الهُدى القريبة من هنا. لماذا لا تنتقلين إليها ما دمتم قد انتقلتم للسكن هنا، فنذهب للمدرسة ونعود سويّة كل يوم؟
- بصراحة، أنا مرتاحة لمدرستي في الدورة: ومنسجمة تماماً مع زميلاتي واستاذاتي. كلهن يحببني ويرعينني، ولا اطيق فراقهن. أنا الأولى على الصف دوماً!
- ما شاء الله. اسمعي، لن أسمح لك أن تفلتي مني، فأخسر أختاً ثمينة مثلك! أريد أن تشرفينا بزياراتك كل يوم كي نراجع المقرات الدراسيّة معاً ونضبطها قبل الامتحانات الوزارية. أنت رحمة نزلت عليَّ من السماء. شقيقي داود لا يقبل مراجعة الدروس معي؛ هذا اللئيم يقول لي: "أنت "درّاخة"، وأنا لا أحب الدرخ"، وانا بأمس الحاجة لمن يراجعها معي، ولن أجد من هي أكفأ منك! ما شاء الله: جمال وكمال وذكاء! أمل واسمها عليها!
- يسعدني ذلك. دعيني أنتهي من توزيع خبز العباس، ثم أعود اليكم!
- كلا، سأذهب معك قود بند، ليطمئن قلبي عليك.
- أوه، جزيل الشكر، أُخيَّتي أم الأصول! أنا وحيدة أهلي!
- سبحان الله! زيّ حالاتي! وأخيراً، فقد استجاب رب العالمين لابتهالاتي، ورزقني بالأخت التي أتمناها!
- لم تقولي أي لفّة تعجبك: بالكباب أم بالجبن؟
- دعيني أرى. أي النوعين أكثر لديك؟
- لفّة واحدة بالكباب، ولفّتان بجبن العرب.
- وهو كذلك، أعطني لفّة الجبن!
- تفضلي، ست زينب!
- دودي! يا دودي!
- نعم!
- جاءك الرزق من حيث لم تكن تحلم: لفّة خبز العباس، أم حبيبك الأثير: جبن العرب! هرول قبل أن يطير العصفور من على الشجرة!
هرول داود إلى باب الدار، وهو ممسك بكرة السلة تحت إبطه الأيسر. نظر إلى وجه جارتهم الجديدة، فغاب عن الوعي فجأة، وهوى أرضاً، وتدحرجت كرة السلة إلى الحديقة.
- بدادا! صخام! ماما! ماما! الحقي لي، لقد غابت روح دودي ووقع أرضاً!
خرجت أم داود مهرولة؛ وهي تقول:
- كل هذا بسبب لعبه كرة السلة بلا فطور ولا غداء! لماذا أولاد اليوم لا يسمعون كلام امهاتهم؟
- ماما: أعرّفك على ابنة جيراننا الجدد، أختي الجديدة: أجمل وأذكى البنات، الست أمل الوردة التي سندرس معاً سوية كل يوم!
- تشرفنا كل الشرف بك، ابنتي. لنحمله معا الى غرفة المطبخ!
وضعت أمل صينية خبز العباس على طاولة التنس، وتشاركت النساء الثلاث بحمل جسد داود من ابطيه ورجليه إلى غرفة المطبخ. أجلساه على كرسي. هرولت الأم إلى الثلاجة، فأخرجت قنينة ماء بارد ودلقتها على رأس داود وهي تربت على خدّيه بلطف.
- يبدو أنه لا فائدة من الماء البارد، يا ماما! يجب استدعاء أبي الطبيب، حالاً! الوضع خطير! قالت زينب.
- وهل هو بحالنا بعد أن تركنا نلعق جراحنا لوحدنا؟ ستجدينه غارقاً الآن بأحضان زوجته الجديدة التي طلَّقتُه بسببها! ردَّت الأم.
- تسمحين لي، أم دودي الوردة؟ - التمست أمل: لننقله أولاً إلى فراشه وندعه يستلقي عليه!
- غرفته في الطابق الثاني، لننقله إلى غرفة نومي القريبة!
حملت النساء الثلاث داود مرة ثانية، ومددنه على فراش غرفة نوم والدته المجاورة.
- تعالي معي يا زينب: لنرفع رجليه عالياً فوق مستوى القلب حتى نسمح للدم بالتدفق إلى دماغه. أوضحت أمل.
- فكرة عبقرية! علقت زينب. - مبروك عليكِ شهادة الطب مُقدماً!
- ولَكِ، أختي العزيزة!
رفعت زينب ساقاً واحدة، وأمل الساق الأخرى إلى فوق رأسيهما؛ وبقيتا على هذه الحال أكثر من خمسة دقائق، فيما انهمكت الأم بتدليك فروة رأس ابنها وجبهته بمنشفة غطّستها بالماء البارد.
بدأ داود يرمّش بعينيه قليلاً، ثم راح رأسه يتحرك بتؤدة يمنة ويسرة. ثم، فجأة، فتح عينيه وقفز صائحاً:
- أين أنا؟
- ابق مستلقياً كما كنت، ضع رأسك على الوسادة، واسترخ. لقد غبت عن الوعي. دقائق وستستعيد قواك، فتقوم مهرولاً مثل الحصان! قالت له أمل.
- مَن أنتِ، أيتها الشمعة؟
- أنا أمل، جارتكم الجديدة التي جاءتكم بخبز العباس!
- آه! تذكرت! اين هي لفّة جبن العرب؟ أكاد أموت من الجوع!
- تعالي، يا ماما، وارفعي ساقه بدلا منّي حتى أجلب صينية خبز العباس!
- جزاك الله خير الجزاء، ابنتي الوردة. نادني بـ "ماما" طول الوقت، أرجوك!
- تؤمرين، يا ماما الوردة.

عندما جلبت أمل صينية خبز العباس، وجدت داود وقد نهض وغسل رأسه ونشّفه، وجلس في غرفة المطبخ. قام، تناول منها الصينية برأس منكّس، وهو يقول:
- مبروك بيتكم الجديد العامر! ست أمّو، لفّات هذه الصينية كلها لي!
- ألف عافيات - ردّت أمل
- شوفي شلون فَشْلة، والبنت أول طبّة لها عندنا! إبني دودي، عيب! البنيّة جاءت توزّع خبز العباس على كل الجيران، وليس لحضرة جنابك وبس. بعدين، هذا حرام؛ وما يصلح! ما ذا ستقول البنت عنّا؟ ما عندنا أكل بالبيت؟ مو هذا على الطبّاخ جدر الدولمة الطابختها شمحلاها بعده على حطَّته!
- ماما، الله يخلّيك، دعيه يأخذ كل اللفّات ما دام قد اشتهاهن! هنّ ثلاث فقط! قالت أمل.
- أوف منك! فشّلتنا مع جيراننا الجدد! أين أولّي وجهي؟
قام داوود وجلب صحناً كبيراً من الكاونتر؛ وضع اللفّات الثلاث فيه، ثم أخذ الصينية فغسلها ونشّفها، وسلمها لأمل وهو منكس الرأس:
- سامحيني، ست أمّو، أنا متمسك باللفّات كلها. وأنت يا أمي، أتسمحين لي بأكلها؟ أم أغيب عن الوعي ثانية؟
- أوف منك! أمري إلى الله الواحد القهّار! انا أعتذر منك شديد الاعتذار يا ابنتي أمل الحلوة! هذه صارت بوجهك على غفلة! كم أنا خجلانة منك!
- ولا يهمك. وأنت يا دودي، ألف عافية، وإياك وأن تبقي حثروبة منها. ردت أمل.
- نعم، اسمع زين كلام أختي الجديدة وملكة الجمال أمّو، وأطع بكل خشوع وخنوع وأدب! علّقت زينب.
- حاضر! رد داود.
- كُلّك ذوق وعلم وفهم، ابنتي الوردة! الباري الكريم هو الذي أرسلك الينا! يوم السعد هذا اليوم الذي شفناك فيه! قالت الأم.
- ربَّ صُدفة خير من ألف ميعاد! علّقت زينب.
- على الميعاد إجيتك، إجيتك؛ إجيت-
- إشش! كُل واسكت! هم عندك عين تحكي وفم يغني؟ زجرت الأم داود.
- عيني ماما، أنا راح آخذ زنوبة معي حتى نروح نوزّع بقيّة خبز العباس على الجيران سويّة! اقترحت أمل.
- يُمّا، علوّاه! محصّنات بالله وبآل البيت: فدوة لإسمه العباس أبو راس الحار! هل تريدين أن أشارككما بنفسي بالتوزيع معكما، أيضاً؟
- عيني، ماما، ما يجوز تتركين دودي لوحده! كل شي يصير! أوضحت زينب.

عندما عادت زينب برفقة أمل للدار، وجدتا داود وقد حضّر القهوة المزكّاة ببرغل البندق. جلست الشابتان تتناقشان بمواد الدراسة في غرفة الضيوف. ولج داود الغرفة وسال: عيني أمّو، شنو قهوتك؟
- حلوة وبالحليب.
- وأنتِ، أم الورد زنوبة؟
- إنّوب أم الورد؟ عيني دودي، هاي شنو كل هاي الأخلاق الرفيعة؟ ها؟ منذ متى وشقيقي هو هكذا، وأنا آخر من يعلم؟ ها؟ استفسرت زينب من شقيقها بخبث.
- أرجوك يا وردة، لا تكسري بخاطري؛ وإلّا بعدين تموع روحي مرة ثانية، وتبتلشون بيّا من جديد! هل ترضين بهذا؟ سأل داود.
- لا، عيني، دودي، لا! كلها ولا هاي! محصّن بالله و بالنبي! خلّيك خيمة على راسنا، أنا وأمي! أنا قهوتي دسمة مثل قهوة أمّو، وحلوة أيضاً. أجابت زينب.
- تؤمرين، عيوني زنوبة الورد!
- الله المصلي على محمد وآل محمد! من أين طلعت الشمس علينا اليوم؟ استفسرت زينب.
- من بيت الجيران ثالث باب على اليسرى! أجاب داود مُنكّساً رأسه.
- ولك دمشي، ولك! يللا روح ولّي منّا! خلّيت البنية يحمَرّ وجهها، خطيّة! أقول، ليش ما أروح أنا فأجلب القهوة بنفسي، وأنت ترينا عرض اكتافك؟ لماذا لا تذهب وتلعب الشطرنج على الحاسوب وتدعنا ندرس لوحدنا مثل الأوادم؟ ها؟
- تؤمرين، عيني، أغاتي!
- شنو كل هاي الآداب الرفيعة؟ سألته زينب.
- ألم تعلمين؟ كلية الآداب ما تقبل خريجين القسم العلمي! رد داود.
ضحكت البنتان. ثم قالت زينب:
- دودي، دودي!
- نعم!
- ألم تردك آخر الأنباء العاجلة، بعد؟
- أي الأنباء؟
- لقد قرر مجلس كلية الآداب قبول خريجي القسم العلمي، فقط السقّوطين سنة ثانية من مثلك وأمثالك، لا غير! ردّت زينب.
- سنرى من منّا سيحصل على المعدل الذي يؤهله لدخول كلية الطب في جامعة بغداد، مثلما يريد الوالد: أنت أم أنا؟ علّق داود.
- ولماذا ليس كلاكما معاً؟ استفسرت أمل.
- قولي له، دماغ البَشّة هذا! اسمع دودي: هل ستبقى واقفاً هنا كسكّين خاصرة، أم تولّي مثل الأولاد المؤدبين الأوادم الحبّابين وتشوف شغلك فتدعنا نراجع دروسنا بسلام؟
- لا تقلقي، زنوبة الوردة، سأجلب القهوة ثم أكفيكما شرّي. ردّ داود وهو يتجه نحو باب الغرفة.
- واجلب لنا بدربك كتاب الفيزياء الخاص بك مع مجموعة أسئلة البكالوريا للسنوات السابقة كي نراجع بها، أمّو وأنا، سويّة.
- تؤمرين أنت وأمّو، يا زنوبة الوردة!
- صدقة لعيونك الزرقاء! علَّقت زينب!
- عيناي خضراوان وليسا زرقاوين. هذا يعني أنك راسبة بالفيزياء منذ الآن! قال داود هذا وهو يغادر الغرفة.

بعد مضي ساعة ونصف الساعة، دخل داود غرفة الضيوف ثانية، فوجد شقيقته تلعب الشطرنج مع أمل. وقف مراقباً على رقعة الشطرنج، ثم قال:
- كش مات بـ..
- أربعة نقلات! أكملت له أمل.
- تعال العب معها أنت، حتى أرى بعيني هاتين كيف تدمّرك أمّو الوردة تدمير الذين جابوا الصخر بالواد! ردّت زينب وهي تقوم وتتنحى له جانباً عن كرسيها.
جلس داود قبالة أمل، وتمت إعادة ترتيب الأحجار البيضاء والسوداء على الرقعة.
- بكم نقلة يعجبك الكش مات، دودي؟ استفسرت منه أمل بكل هدوء وثقة ووقار.
- بسس- س-
- سبع نقلات؟ أكملت أمل له.
- نننعم، سبع نقلات!

ولبالغ عجب زينب ودهشتها، فقد شاهدت أمل وهي تحرك الحصان مهددة ملك شقيقها بالكش مات بالنقلة السابعة.
سأل داود أمل: ولماذا لم –
- أعطك الكش مات المتاح قبل نقلة واحدة؟ أكملت له أمل.
- نعم!
- كي لا أكسر كلامك أمام شقيقتك الحلوة هذه، فتنكسف، دودي الجميل!
- واي واي! إيه دا كُلّه، إيه دا كُلّه! جاءك الموت يا تارك الصلاة! ما رأيكَ لو أحضّر لك الشاي الأخضر المر، دودي السبع؟ اقترحت زنوبة مناكدة له.
- أكون شاكراً، يا أم الأصول!
- وما الذي يُعجبك أنتِ، أمّو البطلة، يا قاهرة الأعادي ومُخرسة العذّال! سألتها زينب.
- الشاي الأخضر المُر، لطفاً.
زينب: ؟

عندما غادرت شقيقته الغرفة متعجبة، وطفقا بإعادة ترتيب أحجار الشطرنج، لبدء الدور التالي، سأل داود أمل:
- هل تعلمين سبب فقداني الوعي حالما رأيتك؟
- لا بد أنك كنتَ وقتها جائعاً جداً، أليس كذلك؟
- لا، ليس كذلك.
- إذن؟
-لأنك أصبتني بصعقة رهيبة من السحر لم أعرفها من قبل، وما زالت أمواج تلك الصعقة تمور كالعقبان في سماوات وجداني، ولن تبرح ما حييت. ومن يدري، فقد تجنّني أبداً فيصبح موئلي في مصحات المجانين! الجنون معك أبدي!
- أرجوك، دودي: هل سمحت لك أنا بمغازلتي؟
- لا، حاشاك!
- إذن، كُفَّ عن إسماعي هذا الهراء! لو سمعته من غيرك لخنقته حنقاً!
- أردت فقط .. فقط..
- قول الحقيقة - أكملت له أمل، مبتسمة، وقد اصطبغ وجهها بالأحمر الياقوتي وتراقصت غمازتاها كزمردتين متدليتين على جانبي منارة.
- وهو كذلك!
- جئتكما بالشاي الأخضر المُر! أعلنت زينب وهي تدخل الغرفة.

رفع داود قدح الشاي، وخرج به وهو يقول: من رخصتكما، سأشربه في الحديقة.
- وأنا، أيضاً. قالت أمل.
زينب: ؟
حملت زينب صينية الشاي وهي تقول لأمل:
- أؤمر يا قمر، أمرك ماشي! الى الحديقة!

في الحديقة، سألت أمل داود:
- لماذا أعَدْتَ السنة الدراسية؟
- بسبب الأخطاء المعيبة الحاصلة في صياغة الأسئلة الوزارية لامتحانات العام الماضي.
- تقصد الأخطاء في أسئلة امتحان اللغة العربية والفيزياء؟ استفسرت أمل.
- نهم هو مثل ما تفضلتِ. في اللغة العربية، جاؤوا لنا بسؤال فيه ثلاثة فروع، الفرع الأول لا يمكن حله إلا بواسطة الفرع الثالث الذي كان يجب ايراده قبله وليس بعده بفرع.
- تقصد الاستثناء بـ "سوى".
- نعم. وفي الفرع الثاني، يطلب السؤال ادخال اسم الاستفهام ب"إلا" على الحال في جملة "حَلّ" الفعلية –
- دون تزويد الممتحن بجملة "حلّ" المطلوب الاستفهام عنها- أكملت له أمل.
- عليك نور! لا يفوتك شيء! وقد اضطررت إلى اجابة الفرعين من عندياتي. وعندما سألت استاذ المادة بعد أداء الامتحان، قال لي أن جوابي خاطئ. وهذا ما يعني استحالة تحقيقي المعدل النهائي مائة بالمائة بلا نقصان ولو درجة واحدة. مع ذلك، فقد قررت تجربة حظي في ضوء أن اجاباتي على كل أسئلة بقية المواد كانت تامّة. ثم حلّت الطامة الكبرى في السؤال الثالث من أسئلة مادة الفيزياء.
- تقصد الخطأين إياهما: طلب إيجاد التيار الكلي وهو أحد معطيات السؤال نفسه؛ ومن ثم طلب ايجاد زاوية فرق الطور بين التيار الكلي والفولتية مع رسم مخطط المتجهات الطورية للتيارات دون تضمين نص السؤال الزاوية المعينة التي تتيح للطالب ايجاد الزاوية المطلوبة ، أليس كذلك؟
- صحيح! ولكن، كيف عرفتِ بكل هذا، ست أمل الوردة؟
- أنا أعدت السنة لنفس السبب!
- صحيح؟ وعليه، فقد سلّمت دفتر الامتحان بعد أن شطبت على كل أجوبتي!
- وأنا فعلت نفس الشي! وعلى الورقة الأخيرة للدفتر، كتبت للمصححين توبيخاً شديد اللهجة على هذا الاستهتار في اعداد الأسئلة الوزارية والتلاعب بمصير الطلبة المساكين من الضحايا الأبرياء لمثل هذا الاستخفاف!
- وأنا فعلت نفس الشيء، وحمّلتهم كامل مسؤولية اضطراري لإعادة السنة الدراسية.
- {بلدنا يحكمه الجهلة والسرّاق} – ردّدا معاً!
جاءت زينب، وأبلغت أمل: حبيبتي، أمّو:العشاء حضر! كباب الدجاج ومخلمة بلحم الغنم!
- لست جائعاً، زنوبة الوردة – أعلن داود.
- تعال كُلني! لقد التهمت ثلاث لفّات تشبع السبع سنة! تعالي، حبيبتي أمّو، لنتعشّى معاً.
- أرجوك، حبيبتي زنوبة، يجب عليَّ أن أعود للبيت حالاً بعد أن تأخرت كثيراً بالمكوث عندكم اليوم. أوضحت أمل.
- تعشّي عندنا أولاً، ثم أوصلك بنفسي. اقترحت زينب.
- ارجوك! لقد تأخر الوقت كثيراً! ردت أمل.
- اذن سأرافقك لأوصلك لداركم، صاغ سليم! أصرّت زينب.
- تصبح على خير، دودي.
- وأنتِ من أهل الخير، أمّو.

عندما عادت شقيقته للدار، اختلى بها وقال:
- عيني، زنوبة، تاج راسي!
- ما ذا دهاك؟
- الحقيني، دادا؛ لقد جننتني أمّو!
- هممم. أوف، أوف! تالله لا أستطيع لومك مقدار ذرّة! هذه البنت تشع سحراً وبهاء وذكاء وحياء، عسى أن يستر عليها الباري عزَّ وجل!
- ما العمل؟ على بختِكِ، دادا! سأقتل نفسي إن لم أتزوجها!
- أنا معك! ولكن الثُقْل لك زين في هذه الأيام الحرجة جداً! يجب عليك الحرص على سمعة مثل هذه الجوهرة المكنونة مثلما تحرص على سمعتي أنا!
- صار!
- ولا يجب أن يراك أحد معها قط!
- صار!
- ولأنك وإياها يجب أن تركّزا كل التركيز على الدراسة، فلا يجوز لك أبداً أن تشغلها بالغزل، ولا أن تلمسها وهي في دارنا مطلقاً، وذلك احتراما منك لمقامها ولكبريائها ولحرمة الضيف؛ على الأقل لحين الانتهاء من أداء الامتحانات الوزارية!
- صار!
- بعد انتهاء الامتحانات الوزارية، أنت شاعر لا يُبارى، وتستطيع أن تبادرها باستهلالاتك الرهيبة التي ترقص لها القلوب، وذلك بكل احترام وتبجيل، وأن تصارحها بقصدك الشريف، وتستمع إلى رد فعلها بتفهم وتقدير وبأعصاب حديدية وصدر واسع!
- صار!
- فإن وجدتَ استجابة منها، فسأقنع أنا أمي بخطبتها لك بعد ظهور نتائج القبول في الجامعات؛ أما أبي - الذي لا يرفض لك أيما طلب - فأنت الكفيل بإقناعه.
- ألا يمكن قبل ذلك، أرجوك!
- عيني، دودي، شجاك؟ إثقل قليلاً؛ بل إثقل كثيراً ولا تستعجل الأمور قبل أوانها. الزواج قسمة ونصيب، ولا تنفع فيه العجلة. دعنا نركّز كل اهتمامنا الآن على اجتياز الامتحان الوزاري بدرجة 100 بالمائة لنقري عيني الوالد بنا، ومن بعدها يحلّها ألف حلّال!
- أنا كل اعتمادي عليك!
- اسمع دودي: أنت لا تريد الدراسة معي، وأنا بحاجة لخبرة ومشاركة هذه الأخت الجديدة التي وهبها الله لي هديّة من السماء. أرجوك، قدّر موقفي. إياك إياك أن تسبب أي ازعاج لها قد يجعلها تقرر التوقف عن زيارتنا للدراسة يومياً في دارنا فأعيد السنة الدراسية مثلك؟ أريد تحقيق معدل المائة بالمائة من أول دور. اتفقنا؟
- تؤمرين، زنوبة الوردة!
- وبالرفاء والبنين، مقدماُ، دودي الورد. أراكما طيري قبج لائقين لبعضكما! الله يتمم عليكما بخير!
- يوم أفرح بزواجك أنت أيضاً!
- عسى الله أن يسمع من لسانك! يا خيبة بنات العراق: كل العرسان المؤهلين غادروا العراق بلا رجعة؛ ومن بقي منهم بات يذرع الشوارع بلا وظيفة!
- دعيني أقبّل راسكِ!
- لا يجوز!
- ولماذا؟
- ألا يجب عليك أن تأخذ موافقة حبيبتك أمّو مقدماً؛ أعني بعد انتهاءنا من أداء الامتحانات الوزارية؟
- هل يمكن أن ألتمس منك أمراً؟
- تفضل، حبيبي دودي!
- أرجوك أن تكفّي عن مشاكستي أمام أمّو!
- بشرط!
- وما هو؟
- أن لا تجترح أي حركة ولا تتفوه بأي كلمة مائلة أو باردة أو معاكسة بحضورنا.
- صار!
- دعنا ندرس معاً لوحدنا، وإياك مقاطعتنا أو اشغالنا بدخولك علينا طوال ساعات دراستنا، مفهوم!
- صار! هل أستطيع تحضير القهوة لكما؟
- همم؟ تستطيع، ولكن من سُكات!
- صار!
- أوه، دودي، لقد تقطّعت نياط قلبي عليك! طيب، قد أستطيع أن أتنازل قليلاً، فأسمح لك بالدخول علينا عندما نفرغ من الدراسة تماماً، فنلعب الشطرنج؛ ولكن ليس قبل الانتهاء من لعب الدور الأول بيني وبينها!
- صار!
- أرى الحب من النظرة الأولى قد جعلك أرقى تأدباً وأكثر شفافية. علّقت زينب، قبل أن تتحسر وتقول:
- صح من قال: الحب يخلق المعجزات! يوم المُنى! تصبح على خير!
- وأنت من أهله.

أمضى داود تلك الليلة بطولها وهو يستمني على فراشه، متفنناً بتخيل أمل معه في شتى الأوضاع.

في اليوم التالي، نظّم داود قصيدة حب نارية دسَّها خلسة بشنطة أمل عندما ذهبت مع شقيقته للمطبخ.

في اليوم الثالث، خلال لعبه الشطرنج مع أمل وخلو الجو، قالت له:
- أراك أضعف في لعب الشطرنج منك في نظم الشعر!
- في الشطرنج، لا أستطيع إلا أن ألعب مثلما تريدين! أما في الشعر، فيسيطر عليَّ شيطاني! هل أعجبتكِ القصيدة؟
- ألم أمنعك من مغازلتي؟
- بلى، يا تاج الرأس!
- فلماذا خالفت ارادتي ونظمت فيَّ قصيدة الغزل تلك؟
- ليس بإرادتي! اشعر كما لو أن روحاً غلّاباً قد استولى على عقلي وبات يقودني حيثما يشاء وأنا مستسلم بالتذاذ له كل الاستسلام!
- القصيدة ليست سيئة، البتة!
- صحيح؟
- ولكن فيها زحافات أكثر من اللزوم! كم قصيدة تستطيع أن تكتب لي كل يوم؟
- عشرة! عشرين، إن كان لا يزعجك ذلك!
- قصيدة مُحكمة واحدة تكفي. ضعها في المكان المعتاد!
- تؤمرين، تاج رأسي!
- بلا أدنى زحافات، مفهوم!
- تؤمرين، تاج رأسي!

في اليوم الخامس، حالما اختليا للعب الشطرنج، سألها داود:
- ما رأيك بقصيدتي الأخيرة؟
- اعذرني، دودي، لم أقرأها بعد، ولا تسل عن السبب!
- تؤمرين، تاج رأسي!
ومن دون أن يدري، وجد داود نفسه وهو يقوم من الكرسي، ويلتف كمن يروم الخروج من الغرفة؛ ثم، وبحركة التفاف سريعة ثانية، انحنى واختطف قبلة سنونوية من خد أمل، وجلس، منكساً رأسه.
عندما رفع داود رأسه أخيراً، ونظر خلسة إلى أمل، بعد ما خال أنه دهراً قد مضى، كانت الدموع تنهمر أمطاراً ربيعية من مآقيها! دموع فحسب، بلا تنهدات! وتعجب كيف أنه لم ينتبه من قبل أبداً للون عينيها: خضراء فيروزية كعينيه! بعضهن، جمالهن الكلي يغطّي على جمال تفصيلاتهن؛ وبعضهن بالعكس! آه كم هو محظوظ بعطيّة الرحمن أمّو! يجب عليه عمل شيء للتكفير عن حماقاته معها، والتي باتت تتفاقم يوماً بعد يوم!
ضرب داود جبهته بقوة، وهو يقول:
- أعتذر جداً لما حصل، يا تاج الراس! ما كان هذا بمحض ارادتي، ورب الكعبة!
- لقد افتضضت بكارتي بتقبيلك لي، أيها المجنون! أبلغته وهي تمسح دموعها بمنديلها الوردي.
- أنا مستعد لعمل أي شيء تأمرين به كي أكفّر عن خطيئتي التي لا تغتفر هذه!
- قرّب خدّك قليلاً، دودو!
فَعَلَ، بعينين مغمضتين.
شعر بشفتين حريريتين تلامسان خده كلمسة زهرة النار، ونفحة من جوهر الصندل!
بعد أن فتح عينيه، قالت له وهي تكفكف آخر دموعها:
- ها قد افتضضت أنا بكارتك مثلما فعلت أنت معي! إياك والعود.
- أمرك! اعتبريني خادمك ... أو أو أو –
- عبدك – أكملت له.
- نننعم، عبدك! يوم المُنى!

بقيت أمل صامته كأبي الهول طوال شهر كامل، فيما كان قلبه يطرق كالهاون كلما جلس معها. كما أحس بتبكيت الضمير، فتوقف عن دس قصائد الغزل في شنطتها.

في اليوم الخامس والثلاثين من خلوة لعب الشطرنج، قالت له:
- قصيدتك الأخيرة - قبل انقطاعك عن اتحافي بالمزيد من القصائد - كانت لا بأس بها.
- صحيح؟
- ولكن فيها "خبن" كثير!
- حقّك علي. أنا حمار كبير!
- ولكنك جميل وحالم! أنظم لي الليلة قصيدة أخرى، أكثِرْ فيها من الروحانيات، وبلا أدنى "خبن"، ثم ضعها في المكان المعتاد، بكرة!
- تؤمرين، تاج رأسي.

في الليلة السابعة الثلاثين، قالت له:
- قصيدتك عصماء!
- ماذا قلتِ، تاج رأسي؟
- لقد سمعتني جيداً، فلا تتغابى، لطفاً. لقد أعجبني وصفك لنا: وردة ببتلتين ذواتا شواظ من نار!
- اعتذر منكِ جداً. يكاد رأسي أن ينفجر! اسمحي لي أن أغادر قبل انهاء هذا الدور كي أستلقي على فراشي برهة للراحة.
- تريد الذهاب للاستمناء، دودي؟
- بصراحة، نعم.
- تعجبني صراحتك. إذهب إذن لتفريغ شحناتك، ولكن بلا إفراط. موعد الامتحانات النهائية بعد أسبوعين فقط!
- تؤمرين، تاج راسي!

في الليلة الثامنة والثلاثين، سألته: لماذا لم ترسل لي قصيدة البارحة؟
- اعذريني، تاج الرأس، فقد غلبني اليوم.
- القصيدة القادمة لا يجب أن تصلني إلا بعد الفراغ من الامتحانات النهائية كافة!
- تؤمرين، تاج الراس.

مضى أسبوع، أسبوعان، على انتهاء الامتحانات النهائية دون أن يكحّل عيناه برؤية طلعة أمل الساحرة.

اختلى بشقيقه وسألها:
- على بختُكِ، دادا: شنو الموضوع؟
- أي موضوع؟
- لا تتغابَي، أتوسل إليك! أنت تعرفين قصدي، لماذا لم تعد أمل تزورنا؟
- في آخر مرة رأيتها، شرحت لي بالدمع المدرار كيف أن وضعهم في الدار قد بلغ حافة الهاوية. والدها لديه مقاولة بعشرة مليارات دينار نفذها بالكامل عن طريق اقتراضه مبالغ طائلة بربا عال جداً جداً؛ ولكن خزينة الدولة لم تعد تسدد مستحقات المقاولين بسبب انخفاض أسعار النفط، فيما الدائنون يهددونه بالصكوك الموقعة على بياض التي سلمها لهم أمانات لقاء قروضهم. بكرة سأزورها وأحاول اقناعها لتناول طعام الغداء معنا.

في اليوم التالي، عادت زنوبة لوحدها.
- ما ذا أقول! وضعهم في الدار بات يُبكي الكافر ويفطر الأكباد! أخبرته شقيقته - أحد الدائنين أقام الدعوى القضائية على والدها واستصدر أمراً بإلقاء القبض عليه لتحريره صكاً بدون رصيد، مما أجبره على التواري عن الأنظار، وأصبحت العائلة في مهب الريح. لم أكد أميّز وجه أمّو المشرق من كثرة بكائها: لقد تحولت المسكينة إلى ليمونة معصورة.

أعلنت نتائج الامتحانات العامة، وكان معدل أمل وداود %100، ومعدل زينب 99%.

فرح والد داود وزينب أشد الفرح بنتيجتيهما المشرّفتين، وأخذهما معه في سفرة لمدة أسبوعين إلى إيطاليا كهدية لنجاحهما، فيما بقيت أمَّهما المطلقة وحدها في الدار.

في إيطاليا، لم يتسنى لا لداود ولا لزينب الاتصال بأمل. كان هاتفها مغلقاً طول الوقت.

حال عودتهما لبغداد، زارت زنوبة دار أمل، فوجدته مقفلاً. سألت الجيران، فقيل لها أن أبا أمل قد باعه، ثم هرب خارج العراق لتفادي السجن بسبب رفض خزينة الدولة تسديد فلس واحد من مستحقاته: عشرة مليارات دينار!

حال سماعه بهذه الأنباء الكارثية، توسّل داود عند شقيقته للتحري بكل السبل عن أخبار أمل.
ذهبت زينب الى المدرسة الاعدادية التي كانت تداوم فيها أمل بالدورة، حيث التقت هناك بإحدى زميلاتها التي أخبرتها بأن أمل قد تمت خطوبتها قبل يومين على عضو قيادة فرقة سابق في حزب البعث، والذي تولّى تزكيته أحد صماخات المعممين الذين جلبهم الأمريكان، فأصبح عضواً في البرلمان. وأضافت بأنها ستصبح زوجته الرابعة بعد أن اشترطت أمها على العريس شراء دار جديد باسم ابنتها في الكرادة، ووجوب استخلاصه لحقوق أبيهم كاملة من خزينة الدولة بأسرع ما يمكن كي تتسنى له العودة للعراق. كما بيّنت لها بأن موعد زواجها هو بعد أسبوع فقط.

بكي داود وزينب وأمهما للأخبار الحزينة، واستبدت الكآبة بداود.

بعد مضي يومين، زارتهم أمل فجأة عصراً.
إثر فراغ الأربعة من البكاء و النحيب الذي يقطِّع نياط القلوب، وجدوا أنفسهم وهم يرددون معاً: - {بلدنا يحكمه الجهلة والسرّاق!}

ثم رفعت أمل رأسها، وصرّحت:
- أنتم أهلي وأحبائي الوحيدين الذين رزقني الله بهم واسعدني كل السعادة بمشاركتهم حياتهم، إن لي الآن طلب صعب أخير عندكم!
- طلباتك كلها مجابة، مهما كانت، يا ابنة الأصول- أجابت الأم.
- عنديّ سر رهيب ما انفكًّ يعتصر روحي ويكتم علي أنفاسي ويدوّخ راسي من زمان، ويجب علي أن أزيحه عنّي لدودي بكل تفاصيله ومقتضياته، وذلك على انفراد ومهل، فترتاح روحي المعذبة أخيراً! أطلب الإذن من ماما ومن أخيَّتي زنوبة الوردة السماح لي للانفراد بدودي في غرفته فوق، من الآن حتى الصباح الباكر!
- تفضلي! الدار دارك ونحن أهلك! ردّدت الأم وزنوبة.
في غرفته، دفعت أمل داود على فراشه، ثم بدأت بفتح أزرار قميصها على عجل، وهي تأمر داود:
- اسمع، حبيبي دودي: اليوم هو يوم عرسنا! تعرّ تماماً وخذني بأشد ما أوتيت من قوة. يجب أن يكون إبني البكر من نسلك أنت وليس من صلب أحد غيرك. أمنحني كل روحك، وأمنحك كل روحي ، فتتحقق احلامنا الضائعة لبعض! نحن وردة ببتلتين ذواتا شواظ من نار!! اليوم حُبْ، وغداً جُبْ!