مرض اليأس اليساري: فاروفاكيس أنموذجاً


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 8099 - 2024 / 9 / 13 - 15:59
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

في كتابه الأخير، الموسوم " الإقطاع التقني: قاتل الرأسمالية" (2023)، يعلن الدكتور في الاقتصاد ووزير المالية اليوناني الأسبق: يانيس فاروفاكيس - بكل رهاوة وأريحية - عن "زوال" الرأسمالية، و يعزو هذا "الزوال" للرأسمالية ساخرًا إلى زوال القوة ذاتها التي منحتها الحياة – إلى رأس المال نفسه!
إنه يعلمنا بتوصله إلى الاستنتاج الذي مفاده بأن الرأسمالية قد تم استبدالها بشيء أخر أسوأ منها - ليست الطفرات الجديدة في الرأسمالية مثل تلك التي فصلتها عالمة الاقتصاد "شوشانا زوبوف" في كتابها الأكثر مبيعًا لعام 2019 "عصر رأسمالية المراقبة" – وإنما بـ "الاقطاع التقني" (Technofeaudalism). الدكتور يانيس فاروفاكيس يقول لنا بأننا نعيش الآن في عصر: "عبودية لإقطاعيات أسيادنا العالميين الجدد: اللورد زوكربيرج من فيسلانديا والسير ماسك من منطقة إكس الفاسدة" (الغارديان، عدد يوم 24 أيلول، 2023). ولا يمانع فاروفاكيس من اقناع نفسه بنسج روايته الخرافية عن زوال الرأسمالية وهي مرصّعة بالحكايات المستلة من الثقافة الشعبية والحداثات الشخصية، ليقدم للقراء نموذجه الجديد المتخيل لـ "الإقطاع التقني"، مؤكدًا بأننا قد انتقلنا من أعماق الرأسمالية إلى نظام أكثر غدرًا واستغلالًا يذكرنا بالمجتمعات الإقطاعية التاريخية. في هذا النظام الاقتصادي الجديد، يجري استبدال "ملكية رأس المال" بـ "مدفوعات بدلات الإيجار" للوصول إلى أنظمة الحوسبة السحابية ومنصات التداول والإنترنت. ويزعم فاروفاكيس أن الهيمنة تتركز اليوم بقوة بأيدي أولئك الذين يسيطرون على شبكات المعلومات والبيانات - أمثال المليارديرين: ايلون موسك (منصة أكس) ومارك زوكربيرغ (فيسبوك) وجيف بيزوس (أمازون) ولاري بيج (غوغل) وسيرغي برن (غوغل) وتشانك يِمِنغ (تكتوك) ... إلخ - مما يغير بشكل أساسي ديناميات القوة الاجتماعية والاقتصادية. كما يقترح أن الرأسماليين التقليديين قد تحولوا اليوم إلى "رأسماليين تابعين". إنهم تابعون ومعتمدون على جيل جديد من "الأسياد" ــ شركات التكنولوجيا الكبرى ــ ممّن يولدون ثروات هائلة عبر منصات رقمية جديدة. ويخلص أخيراً إلى القول بتطور شكل جديد من رأس المال الخوارزمي ــ ما يسميه فاروفاكيس "رأس المال السحابي" ــ الذي أزاح "ركيزتي الرأسمالية: الأسواق والأرباح".
هكذا، وبجرة قلم تحكمية قاصمة، يلغي الدكتور يانيس فاروفاكيس "الرأسمالية" و "راس المال" و "الأسواق" و "الارباح"!
لا يستطيع أي عارف بأبجديات الاقتصاد السياسي أن يمنع نفسه – وهو يقرأ كل هذا – عن التساؤل: كيف يسمح أي مفكر اقتصادي لنفسه أن يلغي تحكماً وجود نمط الانتاج الرأسمالي ووجود الاسواق وتحقق الارباح بمجرد استبداله مصطلح "النظام الرأسمالي" بالمصطلح المضحك المبكي "الاقطاع التقني" و "راس المال" بـ "راس المال السحابي" و "الارباح" بـ "الثروات الهائلة" و "ريع الايجار"؟
لنبدأ بـالمصطلح الاقتصادي المركزي لـ "راس المال" . من يعرف التعريف العلمي لراس المال (قيمة قوة عمل فائضة مستلبة من جانب الرأسمالي يتم تشغيلها دوماً في دورة الانتاج لتعظيم الأرباح) لا يسمح لنفسه بإلغاء كينونة رأس المال هذا المهيمن على كل مرفق من مرافق البشر اليوم بمجرد اعادة تسميته بـ "راس المال السحابي". من يفعل هذا لا يعي جوهر التعريف العلمي لرأس المال الذي هو مفهوم نظري خالص: قيمة قوة العمل المستلب. والذي يقول بوجود "راس المال السحابي" (وهو موجود بالفعل كشكل جديد من أشكال رأس المال تشكل اثر الثورة الرقمية) إنما يعترف رغماً عنه – بوعي أو دون وعي – بوجود الطبقة الرأسمالية المالكة لراس المال السحابي هذا، مثل وجود الطبقة الرأسمالية المالكة لرأس المال الصناعي ورأس المال التجاري ورأس المال المالي ورأس المال الريعي وراس المال الاحتكاري وراس المال الاستثماري (المهيمن على المنصات الرقمية).. الخ.، وليس تخليق "طبقة الاقطاع التقني". لماذا؟ لأن تنوع مصادر خلق ومراكمة رأس المال يستحيل أن يحوّله إلى جوهر آخر لتبلور القيمة غير جوهر رأس المال نفسه. كما أن من يعترف بوجود اي نوع من أنواع رأس المال، لا يستطيع إلا أن يعترف حتماً بوجود النظام الرأسمالي نفسه الذي يدور ويتعاظم ويتوزع في أسواقه رأس المال هذا، وليس النظام "الاقطاع التقني"، مثلما يخرف الدكتور في الاقتصاد فاروفاكيس بجهل معيب. كيف يمكن أن يؤدي خلق نوع جديد من أنواع رأس المال، على نحو ينفي نفسه بنفسه، إلى نهاية رأس المال والرأسمالية، مثلما يخرف فاروفاكيس؟ العكس هو الصحيح: كل خلق لنوع جديد من أنواع رأس المال لا بد يؤدي بالضبط وبالضرورة إلى تزايد حجوم راس المال هذا ومعه كذلك تزايد حجم رأس المال العام ككل، وبعكسه يضمحل، مثل اضمحلال حجوم راس المال الصناعي في بلدان أوربا الغربية (مثلا: اغلاق شركة السيارات الألمانية فولكس فاغن لأخر مصنعين لها في المانيا مؤخراً بسبب قرار رئيس وزرائها الخادم لأمريكا وقف استيراد ألمانيا للنفط الروسي الرخيص للغاية مما ألغى الميزة التنافسية لكلفة انتاج سياراتها في الاسواق؛ وقبلها افلاس شركة ليلاند البريطانية).
انتقل الآن إلى اعتراف فاروفاكيس بعظمة لسانه بكون "شركات التكنولوجيا الكبرى تولد ثروات هائلة عبر منصاتها الرقمية الجديدة". أذن هذه الشركات "الاقطاعية" (كذا) إنما "تولد ثروات هائلة". ومن يتكلم في "الثروات الهائلة" لا بد أن يعرف التعريف العلمي لماهية "الثروة" في النظام الرأسمالي، أليس كذلك؟
الجملة الأولى لماركس في المجلد الأول من "رأس المال" تقرأ: "إن ثروة تلك المجتمعات التي يسود فيها نمط الإنتاج الرأسمالي، تقدم نفسها على أنها “تراكم هائل للسلع”، ووحدتها عبارة عن سلعة واحدة". وبعبارة أخرى، فإن أي مفكر اقتصادي عندما يتكلم عن "الثروة" يجب عليه أن يدرك أنها لا تعني سوى تراكم المنتجات والأنشطة التي تلبي احتياجات الإنسان؛ أي التراكم لقيم الاستعمال الاجتماعي والتي يتم تقييمها نقدًا في السوق. ماذا يعني هذا؟ أنه يعني ببساطة أن الشركات الرقمية عندما تحقق "الثروات الهائلة" التي يعترف بها فاروفاكيس فلا بد لها أنها تنتج وتسوق وتشتري وتبيع منتجات أو انشطة خدمية تلبي احتياجات الإنسان. ومن الطبيعي أن كل منتج في النظام الرأسمالي يجب أن تنتجه قوة العمل البشري الخالقة الوحيدة للقيمة، وأن يكون له سوقه الخاص للتداول ولتحقيق (تنقيد) فائض قيمته، وإلا لما حقق فلساً واحدا من تلك الثروات الهائلة التي يعترف بها قط.
هل سأل فاروفاكيس نفسه: هل تقدم المنصات الرقمية خدمات اقتصاجتماعية مفيدة ما للمستهلكين تفسر تحقيقها لـ "الثروات الهائلة" هذه التي يتكلم عنها؟ لماذا يستطيع هؤلاء "الأسياد" (كذا) "توليد ثروة هائلة" تمامًا مثل الرأسماليين ما داموا اقطاعيين؟ في نمط الانتاج الإقطاعي، كان الاقطاعيون أسيادًا على أتباعهم الأقنان بحد السيف، ولم يخلقوا الثروة بالطريقة التي يفعلها الرأسمالي من خلال توجيه تطبيق رأس المال لتوليد المزيد من الثروة مثلما تفعل المنصات الرقمية. هل تجبر شركة التوصيل (امازون) الباعة على عرض بضائعهم لديها، أم أن غوغل تجبر المؤلفين والباحثين والادباء والفنانين على التنازل عن الملكية الفكرية لمنتجاتهم عبر استخدامها العنف مثلما كان يفعل الاقطاعي؟ في عام 2021، تجاوز عدد العاملين في محطات الشحن لشركة أمازون العاملة في كل قارة من قارات العالم 1.600.000 شخصاً، فهل هؤلاء هم الأقنان في "اقطاعية أمازون" ؟ ومن المعلوم أن القن كان يتملك أدوات انتاجه، فهل أن ملكية منصات أمازون وخوادم غوغل مملوكة للعاملين فيها؟ إن كان واقع الحال هو هذا، فستمسي هذه الشركات الاحتكارية العملاقة أكبر التعاونيات الاشتراكية في العالم، وليست اقطاعاً تقنيا البتة مثلما يزعم فاروفاكيس. من الواضح أن من يتكلم هكذا جزافا عن نظام "الإقطاع التقني" لا يبدو أنه يولي أي اهتمام حقيقي للكشف عن ماهية الإقطاع ولا الرأسمالية مثلما هما عليه في واقع الحال.
ما هي النقطة الاقتصادية الحاسمة الأخرى التي يقفز فوقها فاروفاكيس؟ انها نقطة العمل البشري النافع الخالق الوحيد للقيمة، وأهمها رأس المال باعتباره فقط وبالضبط فائض قيمة عمل بشري غير مسدد: قوة عمل مسروقة. وهذا هو بالضبط ما يحصل في السوق الرقمي. عندما تنشر منصات "ميتا" أو "أكس" أو "ريدت" او "سبوتيفاي" أو "فيسبوك" وغيرها من محطات المحتوى الرقمي للمعلومات وللمعرفة وللتسلية والتواصل، فإن هذا المحتوى انما هو أساساً العمل المنتج الخالق للقيم الاستعمالية من طرف المنتِجين والذي تجني هذه المنصات الالكترونية الربح منهم لحسابها. فحالما يتولى أي شخص انشاء واخراج ونشر التغريدات والمنشورات والمدونات والمقاطع الصوتية والصورية على اليوتيوب أو التكتوك أو غيرها من المنصات الرقمية فانه بنشره لهذا المحتوى المعرفي انما يوفر قيمة العمل المجانية التي تجني منها انظمة التواصل الاجتماعي كل هذه الثروات. العارف بالاقتصاد الرأسمالي يستطيع أن يميز مباشرة من هذا واقع خلق الشركات الرقمية سلعاً جديدة بفضل متاجرتها بالبضاعة المنتجة من طرف الغير، بالضبط مثلما تتاجر المصارف التجارية بأموال زبائنها من الدائنين المودعين لحسابها بإقراضها بالفائدة لزبائنها المقترضين المدينين. المصارف التجارية هنا تخلق بضاعة النقود من رؤوس أموال غيرها من المودعين وتعيد توزيع الائتمان، والمنصات الرقمية تبوب المعارف والفنون المنتجة من طرف الغير وتوسع مجال اتاحتها جماهيرياً كقيم استعمالية جديدة. في المصارف التجارية المالك لحسابه الدائن فيها يتوفر دائما على محتويات حسابه، ومثله يفعل صاحب أي حساب رقمي بمحتويات حسابه الخاص. الدائن في المصارف التجارية لا يستطيع ان يمنع مصرفه من استثمار امواله المودعة لإقراض الغير – وإلا لما وجدت تلك المصارف أصلا - وصاحب الحساب الرقمي المنتج للتغريدات والمنشورات والمدونات والمقاطع الصوتية والصورية ليس فقط لا يمانع من توفيرها للمستهلكين بل ويحبذ ذلك لأغراض الشهرة والانتشار، رغم أن منصة "اليوتيوب" مثلاً تدفع مستحقات لليوتيوبرية وفق عدد المشاركين لهم (بمعدل 10-30 دولار لكل ألف مشاهد) ، وبالتالي فإن لها سوقها الرقمي للعرض والطلب المميز الذي يتم فيه تبادل خدماتها. وعندما يكون لصاحب المنتج الرقمي – مثل المطربين والفنانين والنوادي الرياضية وغيرها - حقوق التأليف والنشر فإنه يستوفي أجوره مقدما من الشركة الرقمية المستخدمة لها مثلما هي الحال مع شركة "سبوتيفاي" و "بي أن". وفي معظم الحالات، يحصل المستخدم على خدمة مجانية مفيدة له مقابل مشاهدته للإعلانات، إلخ. وإذا ما علمنا حقيقة أن عدد مستخدمي الشبكة العنكبية قد بلغ اليوم 5.35 بليون أنسان (أي 66% من كل البشر) ندرك مدى اتساع سوق الشركات الرقمية؛ أنه بلا منازع أوسع سوق للتبادل في العالم، وندرك ايضاً مدى سخافة زعم وجود نظام "الاقطاع التقني" الموهوم هذا في ضوء حقيقة أن النجاح الهائل الذي حققه نموذج أعمال غوغل – مثلاً - يشير إلى أن البيئة التي تعمل فيها لا تحددها "إقطاعية المعلومات"، وانما "مشاعية المعلومات" في سوق تبادل متاحة لجميع رواد الشبكة العنكبية.
كيف، والحالة هذه، يزعم فاروفاكيس عدم وجود الاسواق للمنصات الرقمية؟ وكيف يجوز لأي مفكر اقتصادي تصور امكانية "تحقيق ثروات هائلة" بدون وجود الأسواق؟ الفباء الاقتصاد تقول أن تحقيق واكتساب أي شخص وكل شخص لأي ثروة مشروعة جديدة مستحيل بدون حصول عملية تبادل المحل لتحقيق تلك الثروة الهائلة، أي انتقال ملكية تلك الثروة من يد ليد، من الدائن للمدين، وهو ما يستوجب وجود سوق للتبادل حتماً، وإلا لما تحقق اكتساب تلك الثروة، البتة.
نأتي الآن إلى مفهوم "ريع الايجار" المستخدم ضمن مسعى فاروفاكيس الاعتباطي إلى استبدال مصطلح "ملكية رأس المال" بـ "مدفوعات بدلات الإيجار" في اقطاعه الجديد لقاء الوصول إلى أنظمة الحوسبة السحابية ومنصات التداول والإنترنت.
ما هو منشأ قيمة "مدفوعات بدلات الايجار" هذه التي يريد لها فاروفاكيس أن تنقلب إلى تنين رهيب "يبتلع "ملكية رأس المال"؟ الجواب الاقتصادي العلمي الذي يعلمنا به ماركس هو أن الإيجار إنما هو ليس إلا شكلاً من أشكال فائض القيمة، مثل صافي دخل الفوائد وصافي ضرائب الإنتاج والأرباح الصناعية. ولا يستطيع لا فاروفاكيس ولا غيره من الاقتصاديين تبديل او تزوير هذا التعريف لماهيته إن كانوا مهتمين فعلاً بتثبيت الحقائق الاقتصادية العلمية وليس باجتراح الفذلكات اللغوية.

العرض الموجز جداً اعلاه يوضح أن دكتور الاقتصاد يانيس فاروفاكيس جاهل أو متجاهل لأبجديات المفاهيم المفتاحية لعلم الاقتصاد السياسي. ولكنه يعمد إلى تلبيس شعوذاته لبوس الفكر الاقتصاد السياسي بتحويلها الى طلاسم غارقة في جبب الخرافات التي يزعم أنها عصية على فهم غيره لكون مفاتيحها محصورة عليه، عبر التحذلق بخلط الأوراق والمفاهيم ليبعث لنا هيكل "الاقطاع التقني" من مزبلة التاريخ.. ولهذا نرى مثله من المصابين بداء اليأس اليساري يفشلون دوماً منذ ثورة اكتوبر الاشتراكية حتى اليوم في اقناع الناخبين بإخلاصهم في منح كل السلطة والحقوق لسواد شعوبهم من المستغَلين وليس لأسيادهم الاوليغارشيين. هؤلاء يفشلون في ادراك حقيقة الهيمنة المطلقة للرأسمالية التي استجابت وتستجيب بهذا الشكل المخادع أو ذاك لمتطلبات التحول والتسلك والتراجع والتكيف داخل شرانقها على حساب تعظيم نهب وتدمير واستغلال كل شيء على وجه الكرة الأرضية. كل هذه الوقائع لم يستطع أساطين الياس اليساري فهمها أبدًا، لرفضهم المبيَّت وعي جوهر حقيقة نمط الانتاج الرأسمالي أصلاً. لا يجوز ولا يمكن مناهضة الرأسمالية عبر الترجمة بتحويلها إلى اقطاعية. هذا هو ملاذ اليائسين الخائبين. الاستنتاج الصحيح الوحيد في هذا الكتاب هو أن النظام الرأسمالي يسير من سيء لأسوأ. وهذا هو بالفعل ما يشهده العالم كله بأوضح مايكون من تفجير الحروب المتتالية المهلكة بالنيابة، و تعفن طبقة الأوليغارشية الحاكمة عبر فرضها شروط حكم "ديمقراطية اللاديمقراطية" كأمر واقع لا فكاك له، الى تغير المناخ وتدمير البيئة، وتفشي عدم المساواة عبر إعادة توزيع الثروة إلى الأعلى لمصالح سياسية، ووحشية الشرطة، وانفلات سلطة الأجهزة السرية لدول الغرب، وتردي الخدمات الاجتماعية والرعاية الصحية، والركود المطول، والاستهلاك المتباهي من قِبَل النخب، إلى جانب إفقار الجماهير على نحو متزايد ومصادرة حقها في الحكم وتقرير المصير والتغيير. ولكن كل هذ الكوكتيل الرهيب وغيره الكثير من مظاهر التغول والتعفن الرأسمالي الحالي إنما هي خصائص متأصلة في سلالة خبيثة بشكل خاص من الرأسمالية أصبحت هي المهيمنة على مستوى العالم ــ السلالة الليبرالية الجديدة في الاقتصاد، الجالسة بارتياح تام على الكراسي الوثيرة لسلطة الدولة العميقة لعصابة المحافظين الجدد (نيو كونز) - وليس إلى الخوارزميات. ولا يجوز مطلقاً تناسي الجوانب المنيرة للثورة الرقمية، ولعل من أهمها وأخطرها نشوء المنصات الاعلامية الجديدة الحريصة على قول الحقيقة لمتلقيها، والتي كسرت مرة وللأبد الهيمنة الطاغية للماكنة الاعلامية للغرب الامبريالي على ما يجب وما لا يجب أن يعرفه الناس؛ على ماهية وكيفية صياغة السرديات التضليلية والتلفيقية التي تزق للناس لخلق الوعي العام المزيف والمؤات المطلوب. لقد احتاج الرأي العام الأمريكي ست عشرة سنة كاملة كي يعي تماماً كذبة السردية الغربية الرسمية لحرب الفيتنام، ولكنها تقلصت اليوم إلى سنتين فقط للكشف غن تلفيق السردية الغربية لمشروع المحافظين الجدد في تدمير روسيا عبر أوكرانيا، والى ثلاثة شهور فقط في حرب الإبادات الجماعية لبايدن-نتنياهو في غزة والضفة الغربية.