نَفَرَين بيّاع


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 8102 - 2024 / 9 / 16 - 10:30
المحور: الادب والفن     

قبل أكثر من عشرة أعوام، كنت قد سألت ابني عمار عن مدلول عبارة: "نفر بيّاع" التي تطرق لسمعي تداولها بين أوساط الشباب الشاربين، فروى لي هذه القصة عمّا حصل مساء ذات يوم قبل خمسة عشرة سنة في جلسة شرب مع أصدقائه الأربعة داخل شقتهم والتي كانوا يسكنون بها معاً كطلاب كلية في بغداد، وذلك قبل أن يقلع عن الشرب تماماً.
النص:
"كان الجميع متحفزاً ومتوجساً لما ستؤول إليه الأمور في جلسة الشرب لتلك الليلة؛ والتربص والترقب يُطبق سحابة من الصمت المقيت غيّمت على الغرفة، حتى بدأ سلسال الحديث أخيراً.
- يا شباب، قنينتا الويسكي هاتين يجب أن نبطحهما الليلة.
فرحان: والله أعتقد أنهما هما اللتان ستوقعان بنا؛ ما رأيك؟
عطشان: عيني، يا أخوة هدلة، لم نبدأ الشرب بعد، فلا تتفاءلوا لنا بما نَكْره!
شبعان: اليوم يومنا؛ إما نبطحهن أو يبطحننا!
زعلان: على العموم، ما زلنا في أولها.
أنا: صب لي من يدك الكريمة ماء الورد!
فتح عطشان إحدى الزجاجتين بسرعة، وسكب في الأقداح الأربعة المتوزعة على أطراف الطاولة المتهرئة التي تتزاحم بين صحون أصناف المزة المختلفة والتي اعتادت على مرآها عيوننا وهي تترقب ذوبان الثلج وسط الوجوه الضاحكة والمحتقنة بدخان السكائر المتهادي في جو الغرفة العبق برائحة البخور وآثام الليلة الماضية.
كالعادة، الكأس الاول كان من نصيبي، والذي احتسيه على عجل، عندما قاطعني فرحان قائلا : ﭼـعـــــب .. ﭼـعـــــب!
شبعان : بدأت رحمة الله.
رفع عطشان كأسه وتكلم بصوت خفيض لا يكاد يفهم من سرعة نبرته: ﭼـعـــــب ﭼـعـــــب، يا ولد!
- عافيات، شباب.
تجهّم وجه زعلان واحتقن بحمرة لا تبارح أن تتلاشى: شبيكم مستعجلين؟ بعدها الليلة بأولها. البارحة بدأنا بعد هذا الوقت بساعة من الزمان. الشراب كثير، ولكل واحد منا نصف بطل ويسكي. يعني، مهما شربنا ما راح يخلص المشروب.
وبدأ يحتسي كأسه بتأن وتقزز. ثم، وبحركة سريعة، خطف قطعة خيار مملحة تماماً من صحن باهت اللون على منتصف الطاولة. تمعّن في مضغها بتؤدة كي ينسى طعم الكاس.
أنا: كُل نومي حامض؛ إنه أضبط من الخيار مع الويسكي!
زعلان: ألف زقّوم، ولا أول كأس ويسكي!
قلت: يا شباب، أرى هذا المشروب اليوم خفيفاً، وطعمة مراً زيادة، ما القصة؟ بكم اشتريت بُطل الويسكي، ومن أين؟
عطشان: لقد اشتريته من الوزيرية. بُطل "بي جي" بعشرين ألف دينار. باعه لي واحد تابع لعصابة المنافقين الجدد ممن يوفرون له الحماية والبضاعة معاً!
زعلان: بس! هذا أكيد مليون بالمية ويسكي مغشوش! ما كو بطل ويسكي أحمر محترم بعشرة آلاف دينار. لو نصف بطل، بيها مجال يكون هكذا سعره.
عطشان: ما بقي شيء ما استولوا عليه ونجّسوه! وكلهم بعثيون وأولاد بعثية حقراء! استولوا على تجارة القمار والدعارة والكحول والمخدرات وتهريب كل شيء، ثم قالوا: هذا اقتصاد اسلامي، والاسلام منهم ومن كل هذا براء!
زعلان: ما علينا! ما دام مُزوّراً حسب الأصول، فسندخل به الجنة من غير حساب!
فرحان : حبيِّب، شبعان.. قُم، لطفاً، وسَخّن لنا الباقلاء؛ ألف رحمة على روح والديك!
شبعان: ولوالديك الجنة!
زعلان: إي، والله شبعان، أبوسه لـخدّك.
شبعان: وما رأيكم أن أشوي لكم التكة أيضاً؟
زعلان: كفو والله، حياتي .. ما تقصّر .. خير البرّ عاجله. والله لو كنتَ تشرب مثلنا، لصرت أضبط سمكة. مبيّن عليك شرّيب أقشر مع وقف التنفيذ!
عطشان: لا يا معوِّد، ستراه يخرطها ويفلت الموجود من أول حسوة! هذا بزر نستلة؛ من جماعة: "ماما غطّيني، وبالوحدة الظهر قعديني".
ابتسم شبعان ابتسامه ما لبث أن تلاشت على أطراف شفاهه القاتمة التي أتعبتها شفرات الحلاقة التي لا تنفك تجز جوانبها كل يوم، وقال: ولك أبو گـصيصة، شوف گصتك كم هي طويلة، كأنها دَكّة مغتسل الموتى!
عطشان: أنا؟ .. أم أنت أبو المجاعة الأفريقية: أسود، ونحيف كالخيط المهلوس المشارف على الانقطاع. كل هذا و شايف روحك شوفه؛ إبن المداس!
زعلان: رجاءً، شباب، كافي .. خلينا مرتاحين ولا تحوّلوا الشرب إلى زقّوم!
أنا: لمن أصب؟ راح أصب لي كأساً.
عطشان: لي.
فرحان: لي، أيضاً.
صببت الشراب في قعور الكؤوس التي ما زالت تحتوي الثلج الناشف الذي اعتدنا على شكله المكعب. ومن ثم تولّى الشباب تكحيله بشراب السفن أب لتخفيف طعمه الحاد. ولكن فرحاناً اضاف جرعة ويسكي أخرى للقدح وهو يبتسم.
زعلان: لا تشربوا بسرعة؛ دعوني أكمل سيجارتي.
ومن ثم سكب جرعة أخرى من الويسكي في كأسه.
قال فرحان هو يؤشر على أحد زجاجتي الويسكي ويبتسم: الأمر هو مثل ما قال عمّو نزار: "أرى الاشياء ثابتة، ومتحركة؛ وحاضرة، وغائبة!
رفع عطشان كأسه وقال : بصحة أخونا ـــ الحاضر الغائب: تعبان!
رفع كل واحد كأسه. وضربنا الكؤوس سوية ونحن نبتسم.
عطشان : ﭼـعبــــ . ﭼـعــــا ـ ـ ـب!
ما لبث الشباب أن تجرعوا كؤوسهم بسرعة وحذر، ثم ضربوا كعوب الأقداح على الطاولة وثبتوها.
أخذ زعلان النفس الأخير من سيجارته القصيرة ودعكها بالمنفضة، ثم سكب لنفسه قدحاً آخر.
تمعَّنتُ بوجوه الأصحاب كي أتبيّن من قد طفق عنكبوت الثمالة ينسج خيوطه على معالمه؛ ومن ما زال يحاول بلوغ حد الانتشاء. كان عطشاناً قد بدأ بتوليع سيجارته وهو يمسكها بأصابعه المعقوفة الى الخارج كما لو كانت مكسورة، وقد ارتسمت على شفاهه ابتسامه وديعة، وتنزّل حاجباه المعقودان على عينيه بارتياح، واحمر وجهه. أما زعلان، فقد بدا كظيم الوجه وهو يتفكر ويسرح بنظره إلى الزاوية البعيدة من الغرفة، كمن يحدّق في معالم مدينة وهمية بعيدة كل البعد عنا. توجه فرحان الى أحد أركان الغرفة بخطوات متعثرة تارة، ووازنة تارة اخرى، كأنها تحركات رجل نصف آلي وهو يشمر عن ساعديه ويركّز في تلمس طريقه، حتى استطاع فتح حاسوبه المحمول، ونقر على احدى الأغاني التي اعتدنا سماعها في مثل هذا الوقت.
بدأت أنا أشعر بالضغط والخدر وهو ينوش فروه شعري، ثم راح يزحف باتجاه مركز راسي وذراعي وساقي. تناولت ملعقة من الجاجيك وبدأت أتلذذ بطعم الملح والثوم والخيار الممزوج بمهارة.
قلت: الجلسة حلوة، يا شباب!
أجاب الجميع وهم يبتسمون: حلوة بك.
وانتبهنا جميعاً الى الأغنية التي قد بدأ الجزء المفضَّل منها. وبدأنا نغني معها .ونحن نتضاحك، ما عدا زعلان الذي واصل التحديق والسرحان بعيداً ..
- شلون أوصفك .. وانت كهرب .. وانا ﮔمرة عيني دمعة ليل .. ليـــــــــــــل .. ظلمة.
كان الشباب ما زالوا ينشدون وهم غير منتبهين لكلام زعلان عندما قال: أين ولـّــــى شبعان؟ ثم يصيح: شبــعـــــــان! شبــعان! أين صرت؟ مو راح نخلص البُطل الأول وأنت بعدك.
جاء شبعان وهو يحمل صحنين أحدهما كبير مملوء بجوزات اللحم المشوي، والأخر فيه باقلاء منقوعة بماء لا يزال ينفث بخاراً أبيض متماوج وقال: ها قد جئتكم .. جئت.
وبدأنا نندمج بالأغنية وكل واحد منّا منطوٍ ومكرمش على نفسه؛ وكأننا لسنا أصدقاء حميمين نسكن شقة واحدة ونجلس متجاورين على طاولة واحدة. كان عطشان قد فرغ من عبّ كأسه وبدأ يولع سيجارته؛ وقد تهجم وجهه واحمر، وقفز حاجباه نحو الأمام وتقوسا كجناحي صقر محلق. أما زعلان، فقد ملأ قدحه بالويسكي أكثر من اللازم وبدون ثلج، كأنه يريد مضاعفة تعمير ثمالته بسرعة. أما شبعان، فكان يتفقد الوجوه، تعلو ابتسامته وجهه الابيض المستدير وهو يتفحص متبحراً بوجوهنا الواحد تلو الاخر. فيما كان فرحاناً يهز رأسه مع أنغام الأغنية الجديدة التي لم ننتبه اليها،، كنا تائهين في عوالم أخَر .. وتبادرت إلى ذهني فكرة كي أزيد المرح والسرور.
- يا شباب، الجلسة حلوة!
رد الجميع وهو ينظر الي مبتسماً: حلوة بك، أغاتي ، حبي ، حياتي!
تنبّه شبعان الى زعلان والى صحن اللحم المشوي الذي بدأ لحمه بالتناقص كثيراً. ثم قال شبعان: كافي، يا شباب، انا ما تعشيت بعد .. سأضع ماعون التكة جانباً لنتعشى به معاً لاحقاً.
اكفهر وجه زعلان وبدت عليه علامات الاشمئزاز. وقال : أدري يا شبعان .. هل يجوز لك لأنك شويت التكة أن تتدلل علينا؟
شبعان: آني ما متدلل عليك. أنا جالس بالمطبخ وحدي بالحر أشوي لكم اللحم وأحضر لكم المزة. وتاليها أنحرم من العشاء؟
زعلان: أكو واحد جابرك تسويلنا أكل ومزة؟
شبعان: موصوﭼـك. الصوﭺ صوﭼـي أنا الذي دائما أقوم بالواجب! زين لا تسوي، شر ما تلقى!
أنا- كافي، شباب! الـﮔـعدة حلوة!
اكفهر وجه عطشان وبدت علامات السكر واضحة عليه، وتشرّب وجهه بالحمرة وقفز حاجباه بما يوحي بالتوتر الشديد. وصاح بصوت عالي : كــــــــافي! شباب، عيب تتعاركون بيناتكم!
أنا: هدّي أعصابك، عطشان: وأنت زعلان: سدّ الموضوع .
وقف فرحان فجأة وهو ينفخ فمه ويغلق به بصورة لا ارادية، وهرع مسرعاً الى الحمام. أغلق الباب ورائه بسرعة وتوارى عن الأنظار. حلّ السكون العجيب في الغرفة. حتى الأغنية الأخيرة توقفت فجأة وكأن الحاسوب قد صمت لصمتنا. ثم سمعنا صوت فرحان : باااااااااااااع .... بوووع ... باااااااع!
- عظيم! هذا أول نفر صعد للبياع؛ خلّي نشوف من هو النفر الثاني حتى يقبّط الباص!
عطشان: يا شباب، واحد منكم يساعده ويقف وإياه، هذا أخوكم.
شبعان: رح ويّاه، شوفه شنو محتاج، أرجوك!
تناهى الينا صوت فرحان من وراء الباب: لحد يأتي .. ما محتاج لأي مساعدة! بااااااع .... بيييييع . بووووووع ... باااع !
قفز الجميع وذهبنا اليه. فتحنا باب الحمام، غسلنا له وجهه، ثم حملناه ووضعناه على فراشه.
عندئذ قال عطشان: جيب خبزة بسرعة وحطها بحلـﮔـه . خلي يأكلها بسرعة حتى تمتص العرق من معدته.
شبعان: يوجد خلف المنضدة الخبز محطوط بعلاقة .. جيب ربع خبزه ولقّمها له.
أخذ شبعان قرص الخبز وثناه وسطياً. ثم قسمه نصفين. ذهب الى فراش فرحان، ولقمه عدة لقم وهو يقول: كُل، كُل! دع الخبز يمتص العرق من معدتك.
كان وجه فرحان قد اصفر وانكمش، وهو يرتجف. كسوته بأحد الشراشف المتوفرة، ثم سالته:
- شلون صرت؟
رد فرحان وهو يرتجف كالسعفة: زين – زين!
رجع بقية الشباب الى الطاولة المستديرة، وجلسنا. التقطت زيتونة خضراء من الصحن الأصفر. ووضعتها في فمي. وقلت: لقد استعجل فرحان بالشرب.
قال عطشان: نعم، لقد عبّ نصف البطل بسرعه فائقة.
زعلان : كأسه ثقيل .. يحط هواي مشروب وشوية مكاسر .. حسبالك أكو فرد واحد دا يركض وراه!
أنا: عاد أنت مقصر .. خلّصتَ ثلث البطل بثلاث كاسات!
زعلان: لعد انت المقصر؟ أصلاً أنت بالوعة مال شرب .. حاطلك جنّي بمعدتك .. مدري وين تحط العرق!
ضحك الجميع - حتى فرحان الذي استرجع عافيته وقال: خو مو مثلي؛ كل ما أشرب، أزوّع .
قلت: بعد ما نخليك تشرب معنا .. كلَّما تشرب، تروح للبياع .. أحسن لك أن تؤجر شقة لك هناك ما طول كل يوم تصعد باص البياع!
ضحك الجميع، وابتسم فرحان، وعلامات الرضا بادية عليه.
دق الهاتف المحمول لزعلان. أخذ به وذهب الى المطبخ وغاب هناك. ثم سمعنا صوته وهو يتحدث. بدأنا مرّة أخرى بتناول المزة واحتساء بقية اقداحنا.
سأل عطشان: أين هو زعلان ؟
- لقد رنَّ هاتفه فراح يخابر.
عطشان: لعد ليش صوته ما مسموع؟
تعبان: لازم دا يبسبس على كيفه ويّا الحب مالته.
قلت: ما أدري، يمكن خلّص المكالمة وطب للحمام.
زعلان وصوته يتناهى من وراء باب الحمام: باااااااع ، بييييع بيعبااااااااااااااااااااااااااااع .
عطشان: الحق لأخيك!
هرع عطشان مسرعاً وأنا معه. قال عطشان وهو يركض بصورة مضحكة: شبعان جيب ربع قرصة خبز لزعلان.
غسلنا وجه زعلان سوية، أنا وعطشان. كان وجه عطشان مشمئزاً من عقابيل الشرب. حملناه للفراش سوية، وبدأت أدس الخبز في فمه وأقول له : اعلس، بسرعة!
نظرت الى عطشان الذي ما لبث أن تبسم وهو يقول: كَمُلتْ.. ها قد قبّطنا نفرين بيّاع بفضل هذا الويسكي المغشوش!"