قراءة دستورية وقانونية لتنازع الأختصاص بين المحكمة الأتحادية ومحكمة التمييز الأتحادية.


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7994 - 2024 / 5 / 31 - 16:47
المحور: دراسات وابحاث قانونية     

أثار قرار محكمة التمييز الأتحادية المرقم 4/ الهيئة العامة/2024 الصادر في 29 / 5 /2024 بخصوص الدعوى المقامة من أحد أعضاء السك القضائي وطلبه الإحالة على التقاعد وفق قانون التقاعد الموحد المعدل بقرار المحكمة الأتحادية 102/أتحادية/2024 في 15 / 4 /2024، وما تضمنه القرار من لغة مأزومة وشديدة تكشف نوعا من الصراع الخفي بين المحكمتين على قضيتين أساسيتين وهما:.
1. إدعاء مجلس القضاء الأعلى بأن محكمة التمييز الأتحادية هي أعلى سلطة قضائية في البلد، والدليل أن أعضاء المحكمة الأتحادية لا يمكن تعينهم والموافقة عليهم من مجلس النواب إلا عن طريقها وأن يكونوا ضمن أختيارها حصرا، بذلك يكون المنطق القانوني أن محكمة التمييز هنا هي صاحبة الحق في تكوين المحكمة، وفي حالة عدم ترشيحها للقضاة من قبلها لا يمكن لأي جهة أو سلطة تشكيل المحكمة ولا حتى تعديل الدستور لأجل ذلك.
في حين ترى المحكمة الأتحادية أن حدود ووصف مهمتها والصلاحيات الموكلة إليها من اختصاصات محددة على سبيل النص والتحديد الدقيق في المواد (52 و 93) من دستور جمهورية العراق لعام 2005 والمادة (4) من قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم (30) لسنة 2005 المعدل بالقانون رقم (25) لسنة 2021 بأعتبارها أعلى محكمة قضائية في العراق، هذا ما ورد في القرارين 24/ أتحادية/ 2023، والقرار 80/ اتحادية / 2023، وحيث أن المحكمة الاتحادية العليا هي أعلى محكمة في العراق، تختص في الفصل في النزاعات الدستورية وأُنشأت بالقانون رقم (30) لعام 2005 وفق المادة (93) من الدستور قراراتها باتّة وملزمة للسلطات كافة، بما فيها السلطة القضائية وهي مستقلة بشكل كامل عن القضاء العادي ولا يوجد أي ارتباط بينهما إلا فيما يخص الترشيح لعضويتها حسب قانون التأسيس والتعديل اللاحق له.
وعند العودة لما أشارت له القرارات أنفة الذكر من مواد، نجد أن المادة 52/ثانيا قد منحت المحكمة صلاحية الرقابة المطلقة من ناحية المطابقة الدستورية لقراراتها بدون تقييد أو شرط (يجوز الطعن في قرار المجلس امام المحكمة الاتحادية العليا، خلال ثلاثين يوما من تاريخ صدوره)، هذا الحق الدستوري وجوبي ملزم للمحكمة وللسلطة التشريعية أن تتبع ما تقضي به المحكمة من دستورية أو عدم دستورية، وبالتالي حينما يصدر الحكم منها بعدم الدستورية بسقط النص تلقائيا دون الاحتياج لتعديل أو موافقة السلطة التشريعية أو أي سلطة أخرى، وعلى السلطات المختلفة ممارسة حقها الدستوري في هذا الشأن دون التدخل في القرار الأتحادي لأنه بات وملزم وغير قابل للطعن ولا سلطة لأي جهة على المحكمة الأتحادية وقرارتها.
أما نص المادة (93) الذي أشارت له المحكمة فقد ورد أيضا على سبيل الحصر والتقصير (تختص المحكمة الاتحادية العليا بما يا تي :
اولا : الرقابة على دستورية القوانين والانظمة النافذة .
ثانيا : - تفسير نصوص الدستور
ثالثا : - الفصل في القضايا التي تنشا عن تطبيق القوانين الاتحادية، والقرارات والانظمة والتعليمات والاجراءات الصادرة عن السلطة الاتحادية، ويكفل القانون حق كل من مجلس الوزراء وذوي الشأن من الافراد وغيرهم حق الطعن المباشر لدى المحكمة).
هذا التنافس والصراع ليس ناشئا من طبيعة قانونية أو دستورية، فكلا المحكمتين التمييز والاتحادية لهما وظيفة محددة لا يجوز لهما تعديها أو حتى مناقشة وجود صلاحيات مشتركة فالمادة 92 الدستورية أعطت وصفا كاملا لسلطة واستقلالية المحكمة الاتحادية بأعتبارها سلطة حيادية خارج منظومة السلطات الثلاث (المحكمة الاتحادية العليا هيئة قضائية مستقلة ماليا واداريا)، في حين حددت المادة (91) مهام السلطة القضائية المتمثلة بمجلس القضاء الأعلى وتشكيلات مهمة الأشراف على القضاء الأتحادي الأعتيادي مستثنية منه ما تختص به المحكمة الأتحادية في المادة 93 الواردة في أعلاه، وتطبيقا لحكم المادة 92 فيكون أستقلال المحكمة الأتحادية إخراج المحكمة من مهمة الإشراف على القضاء الأتحادي وفق المادة 91.
2. النقطة الأخرى التي سببت هذا الصراع والنزاع يعود أساسا لعوامل سياسية وتدخلات من خارج العمل القضائي يستهدف مهمات وعمل المحكمة الأتحادية، وهي صمن الصراعات السياسية والمصالح داخل منظومة الحكم، والتي يفترض من خلال أستقلالية القضاء والمحكمة الأتحادية أن لا يؤثر هذا الموضوع على عملهما وعبى حيادتيهما تجاه الوضع العام في البلد.
من أهم صفات النظم القانونية والسياسية التي تؤمن بمبدأ الفصل بين السلطات هي الإيمان بقوة الدستور وما فصل فيه من توزيع مهام أو اختصاصات على فروع السلطة، وبما أن دستور العراق لعام 2005 قد جاء صريحا في نصه بالمادة 91 بان جعل المحكمة الأتحادية جهة فوقية مستقلة لا تتبع أي سلطة ولا تخضع إلا للدستور وقانونها الخاص والنظام الداخلي الذي تضعه لنفسها، فإن تدخل محكمة التمييز في عمل المحكمة الأتحادية يمنح الأخيرة الحق برفض القرار وأعتباره أنتهاكا دستوريا خطيرا، وبالتالي من حقها أن تصدر قرارا ضد المحكمة الأتحادية ومجلس القضاء الأعلى وفقا للفقرة ثالثا من المادة 93 (الفصل في القضايا التي تنشا عن تطبيق القوانين الاتحادية، والقرارات والانظمة والتعليمات والاجراءات الصادرة عن السلطة الاتحادية)، وفي حال عدم الأمتثال يكون من حق المحكمة الأتحادية أن تتخذ خطوة أخرى وتتمثل في إصدار قرارا ملزما لكل السلطات بما فيه السلكة القضائية بتنفيذ أحكام المحكمة طلقا لنص المادة (94) التي تنص على (قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتة وملزمة للسلطات كافة)، وأعتبار أي قرار يتعارض مع قرارات المحكمة الأتحادية قرارا ميتا لا قينة قانونية له ولا دستورية تتيح له التنفيذ.
وبالعودة لأصل الخلاف الناشئ بين المحكمة الأتحادية ومجلس القضاء الأعلى ممثله بمحكمة التمييز الأتحادية، هو مفهوم المصلحة التي يجب أن يراعيها القانون والقضاء، ولدى العودة الى المادة 6 من قانون المرافعات المدنية نرى ان وجود أي قانون لا بد أن يمس مصالح المواطنين بشكل ما، كونهم الفئة المستهدفة من القانون ومحل تنظيم شؤونهم، وان مخالفة ذلك القانون للدستور بوصفه القانون الأسمى يعني تضرر تلك المصالح، وبالتالي فإن مطالبة المحكمة الاتحادية بعدم دستورية أي نص القانوني يعني:.
أولا وجود مصلحة أو على الأقل وجود مصلحة محتملة تكفي لتدخل المحكمة في ذلك حسب صلاحياتها الدستورية في المادة 93 من الدستور.
ثانيا تطبيق مبدأ عدم الدستورية في النص أو جزء منه يعني حكما عمليا بموت مضمون النص أو هذا الجزء منه وأعتباره لم يكن أبدا، وهذا ليس تدخلا في صلاحيات المؤسسة التشريعية ولا انتهاكا لقضية الفصل بين السلطات، لا سيما أن الدستور أعطى مهمة المراقبة والنقض والتأييد للمحكمة الأتحادية ليس لكونها جزء من السلطة القضائية، بل لأنها جهة الرقابة الوحيدة على مشروعية العمل التشريعي برمته ومنحه حق مطلق لا نقاش فيه.