تاريخ الخرافة ح 34 والاخير


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 8002 - 2024 / 6 / 8 - 14:24
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

كان البابليون الأوائل سادة العالم في التنجيم لأنهم برعوا أولا في الحساب العددي وأنشأوا نظاما حسابيا مزدوج يتعلق الأول بالعد والثاني بالحساب الفلكي، وهم أول الشعوب التي أقامت صرح الديانة الكونية على قاعدة العلم من خلال هذا الحساب وبذلك سبقوا البشرية في البرهنة العلمية على الواجد والموجود، تلك القاعدة التي ربطت النشاط الإنساني والعلاقات الإنسانية بآلهة النجوم ضمن تناغم عام للطبيعة، ومنها وضعت أول خطة ذات صلة ومنهجا للعلاقات المتبادلة بين ظواهر السماء والحوادث الجارية على الأرض عبر تقسيم السماء لبروج ومنازل ومواقع ومسارات كونية ثابتة، وأصبح أهل بابل بمثابة "الأم التنجيمية العظيمة السيادة في العالم القديم"، والتي انتشرت عبر العالم لتؤثر في ثقافة مصر القديمة وفي الوثنية القديمة للإغريق والرومان كذلك لتتطور بعدهم مفاهيم الفلك في أكثر من ـنجاه ومسار.
فقد أنفرد علم التنجيم وقراءة مؤثرات الأبراج بمنزلة مهمة عند الإنسان القديم بشكل جاد وحقيقي وما زال الكثير من البشر لليوم يؤمنون بنفس المقولات السابقة ولو بدرجات متفاوتة، لقد رصد المنجمون اقتران القمر والكواكب بعضها ببعض وموضعها في منازل الأبراج ووضعوا جداول وتنبؤات وتوقعات ظنية بدرجة عالية من صحية التوقع بناء على ذلك، ونسبوا تأثيراً قوياً خاصاً بالنجوم التي رصدوها والمتحركة باستمرار من دون انقطاع فوق القبة السماوية، فلاحظوا مثلا تخيل أو تصورا لأشكال وحوش سماوية متعددة وشاذة وأشكالاً لحيوانات وأشخاصاً وهميين وأجساماً غريبة بعضها يعيش في ظاهر كرتنا الشمسية الحالية فأعطوا لكل تشكيل أو صورة متخيلة تسميه منها مثلا برج الحمل والميزان والدلو الخ، ولأن الإنسان في سعيه إلى محاولة استقراء المستقبل واكتشاف آفاق المجهول، فهو يغذي غريزة كامنة في أعماق النفس الإنسانية أساسها الخوف من القادم المجهول، فكان التنجيم وقراءة المستقبل يعززان هذه الغريزة المتحفزة دوما بسبب ضيق القدرة على الحركة خارج الممكن والمكتوب كما يظن دينيا اولا، وهما ما يجعلان الإنسان يحلق بعيدا واحيانا خارج المنطق في آفاق الكون المتناهية عبر الزمان والمكان، من دون النظر إلى حقيقة ما يثبته الطالع من أغلاط وأوهام يرسمها له المنجمون أو حركة الأفلاك.
بالأتجاه المعاكس للظن العلمي الغالب نجد هناك نظريات تؤكد بشكل ما على صحة الربط بين الأبراج وحركة النجوم والأفلاك مع مصائر البشر، يقول عالم النفس الأمريكي مارك هاملتون من جامعة ولاية كونيتيكت، إن هذا الارتباط الاحصائي بين رموز الأبراج والصفات الشخصية يسمح بتقييم الشخص، ويضيف "يحاول علماء النفس تبديد الأوهام التي يطرحها علماء الفلك عن وجود علاقة طبيعية بين صفات الشخص ووقت وموسم ولادته، ولكن يبدو كما يقول هاملتون (أن هذه العلاقة موجودة فعلا، أنا لا اقول إنها مرتبطة بالأجرام السماوية، بل اعتقد أن رموز الأبراج ملائمة لتذكر هذه العلاقة الطبيعية من قبل البسطاء من الناس")، وبالرغم من أن هذه النظرية لاقت الكثير من النقد والمعارضة لكن مطلقه يثر وبشكل علمي ومنهجي إثبات حقيقة أن تاريخ ولادة العلماء ورجال السياسة والفنانين موزعة بصورة غير عفوية في التقويم، بل كانت على شكل تجمع حول أشهر معينة ورموز برجية من السنة.
ويربط هاملتون هذه الظاهرة الشاذة بكون رموز الأبراج والعلامات الفلكية الأخرى لم تظهر من فراغ أو هي مجرد خرافات ظنية ربما، بل يؤكد وبشكل إحصائي وتقييمي من أنها أي الملاحظات المدونة والمستنبطة من الجداول الإحصائية تشير علي أنها مرتبطة بصورة وثيقة بمواسم السنة ومختلف التغيرات المناخية، وقد ساعدت أجدادنا على تذكر مواعيد التغييرات التي تحصل خلال السنة والبناء على المدونات الشفاهية أو المكتوبة لتحديد الكثير من التوقعات المستقبلية والتي كان من أشهرها توقعات ميشيل نوسترادام التي دون فيها نبوءاته حتى نهاية العالم عام 3797 ميلادي، وقد حاول الكثير ممن يؤمنون بها تفسير بعض الأحداث وفقا لقراءاتهم عنها ومحاولة لصق هذا بهذه دون أن يكون هناك أمر قاطع ومؤكد.
يقول الدكتور حميد مجول النعيمي وهو احد ابرز الفلكيين العراقيين المعاصرين في بحوث علمية نشرت له، من أن للقمر دور مؤثر وحقيقي على حياة الإنسان، وأورد تأييدا لكلامه دراسة علمية طبية موقفة تشيلا لتأثر حياة الإنسان بإيقاع وجاذبية القمر، وقد بيَّنت الدراسات العلمية بأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين القمر والولادة مثلا، وقد ثبتت هذه النتائج على إثر إحصائيات أجريت في بعض المستشفيات في نيويورك لعدد من السنوات، إذ أكدت هذه الإحصائيات زيادة عدد المواليد مع القمر المتناقص عنها مع القمر المتزايد، وأن على معدَّل لها بعد اكتمال القمر مباشرة، وأقل معدل مع مولد القمر الجديد. كذلك ثبت وجود علاقة بين الولادة وظاهرة المدِّ والجزر، ففي المجتمعات التي تعيش على سواحل البحر ترتفع نسبة المواليد عادة مع المد العالي، وهذا يؤكد أن الذي يتحكَّم في تقبُّضات الرحم ليس المدُّ والجزر بحدِّ ذاته بل القمر الذي يؤثر على الظاهرتين معاً.
وقد أورد الدكتور النعيمي عشرات الدراسات العلمية التي تؤكد على أرتباط القمر بالكثير من الحالات المسجلة إحصائيا والتي تشير بدورها إلى أرتباط من نوع ما بينها وما بين القمر، وهناك الكثير من التقارير العالمية التي تشير إلى تأثير القمر على السلوك الإنساني، وتشير إلى أن الجرائم التي تتم بتأثير المرض العقلي الشديد، مثل الحريق المتعمد pyromania وجرائم جنون السرقة cleptomania التي تتم تحت الدوافع التخريبية القسرية، بالإضافة إلى القتل تحت تأثير الإدمان على الكحول، إلخ – كل هذه الجرائم تصل إلى ذروتها عند اكتمال القمر، ويظل تأثير هذه الظاهرة قائماً حتى في الأيام الغائمة التي يختفي فيها البدر وراء السحب الكثيرة.
وأنقل هنا نصا كاملا عن دراسة الدكتور النعيمي التي اجد فيها مجهودا علميا مميز نظرا الى أعتماده على دراسات علمية أكاديمية قد يكون فيها جانب كثير من العقلانية والمنطق الذي يساند مضمون علم التنجيم ومحتواه العملي (فتشير بعض الدراسات إلى وجود علاقة بين مهنة الوليد وظهور بعض الكواكب السيارة في الأفق، فقد وُجِد أن نسبة عالية من الأطباء ولدوا عندما كان المريخ وزحل قد ظهرا عند الأفق، أو كانا قد بلغا أعلى ارتفاع لهما في السماء. كذلك بيَّنت الدراسات أن مشاهير الأطباء والعلماء يولدون عندما يظهر المريخ أو زحل فوق الأفق، وأن القادة العسكريين وأبطال الرياضة ورجال السياسة يولدون في ظل شروق المشتري عند الأفق، بينما تندر ولادة الفنانين والموسيقيين في هذين الوضعين، أما أصحاب المهارات الفردية، كالأدباء وعدَّائي المسافات الطويلة، فهم يميلون إلى الارتباط بالقمر أكثر من ارتباطهم بأي كوكب من الكواكب، كما أثبتت نفس الدراسات وجود علاقة بين أوضاع الكواكب عند ولادة الأبوين ووليدهما، أي أن الآباء والأمهات الذين يولدون عند ظهور كوكب معيَّن غالباً ما يولد أطفالهم في ظل نفس الكوكب، وقد وُجِد أن هذه الحالة تظل ثابتة في وجه العوامل المتغيرة المختلفة، مثل جنس الوالدين، ذكراً كان أم أنثى، وجنس المولود، وطول مدة الحمل، وعدد مرات الحمل السابقة، إلخ. ويكون الارتباط أكثر ثباتاً عندما تتفق ولادة الأبوين عند طلوع نفس الكوكب، لذلك يُعتقَد أن مستقبل حياة الطفل يعتمد إلى حدٍّ كبير على جيناته أو خلاياه الوراثية، وإن هذه الجينات تحدِّد، بالإضافة إلى وظائفها الأخرى، لحظة الميلاد، نستنتج من هذا كله أن دراسة أوضاع الكواكب في لحظة الولادة تتيح الوصول إلى نوع من التنبؤ حول مستقبل الوليد وخصائص طبعه وأنماط سلوكه الاجتماعي) .
الملخص من هذا العنوان البحثي وكما يقول الدكتور النعيمي إذا حاولنا اختبار تفسيرات المنجِّمين وتطبيقاتهم وجدنا أنفسنا أمام مهمة مستحيلة، فأغلب استنتاجاتهم غير منطقي ولا يبدو أن لها أيَّ أساس علمي يحتمل المناقشة، إلا أن بعض (ربما القليل من) تقاليد التنجيم لا يمكن أن يكون مجرد خرافات، بل قد يكون أداة حقيقية يمكن استخدامها لاستخلاص قدر من المعلومات اعتماداً على خارطة فلكية بسيطة والمعلومات التي نحصل عليها لا يمكن الوصول إليها بأية أداة أخرى من الأدوات التي بين أيدينا هذه الأيام، و بناءً على ما تقدَّم نجد أن الكائنات الحية ومنها الإنسان، تتأثر بالأجرام السماوية القريبة منها والبعيدة تأثراً غير قليل، ولابد من دراسته بشكل مستفيض لنؤكد أو ننفي بشكل جازم وحاسم من إن التأثيرات الكونية لا تتوقف عند هذا الحد، بل إن هناك تأثيرات مباشرة واضحة على الإنسان نتيجة لتغيرات الغلاف الجوي والطقس وتغيرات البيئة المحيطة بالإنسان والتغيرات الاجتماعية وحتى السياسية، ويبقى البتُّ فيها مرهوناً بالتطورات المقبلة للعلم.