الدين والإنسان وحقيقة تأريخ الإيمان 2


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 8007 - 2024 / 6 / 13 - 14:29
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

من خلال ما تم أستعراضه في البحث وما ثبت من التحقيقات التاريخية التي أشرنا الى الكثير منها، ومن النصوص المنقولة من مصادرها الأولى يتضح لنا جملة من المرتكزات فيما يخص الدين العراقي القديم، يمكن إجمالها بما يلي".
1. الجوانب الشكلية
في الجانب الشكلي والذي وصلنا عن طريق المكتشف من المدونات والمقرؤات الطينية والفخارية وما كتب على الأختام والألواح، لم ينقل لنا بأمانة وبذات الصورة والمضمون الأصل، هذا جعل تلك القراءات والتفسيرات والترجمات مجرد أستنساخ لما فهم الناقل أو أراد بالفعل أن يصل لنا عبر ما يكتب، لذا نؤشر هذه الإشكالية وفق النقاط التالية:.
1. غالبية المعتقدات التي ذكرها المؤرخون ونقلتها كتبهم وأباحثهم جاءت مشوهة وغير حقيقية، وبنيت على أفتراضات وأفكار أيديولوجية ترى في معتقداتها الخاصة السمو والكمال وأن كل معتقد خارج ما يؤمنون به هو وثنية وشركيه ولا علاقة له بالدين المنظم ولا بالتوحيد ولا بصحيح الإيمان المبني على منطق عقلي ديني فيه الكثير من أسس المعرفة السليمة.
2. الخلط المستمر بين التسميات والمفاهيم والأوصاف وربما تنسيب مكونات الدين إلى غير مناسبها، وذلك يعود لسوء الترجمة وأعتماد النقل الحرفي للنصوص من لغة إلى لغة، دون فهم ما تعني الكلمة السومرية أو الأكادية أو البابلية والأشورية من دلالات ومعاني محلية، كما أن الكثير من المفاهيم الدينية التي نظر لها الباحثون والمنقبون تغيرت وفهمت على أساس ما في عقائدهم، مقطوعة من جذرها وسياقها الثقافي واللغوي، مما أربك الكثير من النصوص أن تفصح عن محمولها الديني الحقيقي، ولم ينجح حتى الباحثون العراقيون والعرب في فهم النصوص لأنهم لم يعتمدوا اللفظ العراقي الأصيل، وإنما نقلوه من لغات شوهت اللفظ أصلا، فنقلوا المشوه للغلة العربية فزادوا في تشويه المعنى مرة أخرى.
3. صور المؤرخون والباحثون شكل العلاقة بين الأرباب أو الله مع الإنسان على أنها أي جوهر فكرة الدين، تقوم على مبدأ أن الآلهة عندما خلقت الإنسان إنما خلقته لخدمتها حصرا ولا يوجد هدف أخر، هذه الفكرة تتردد كثيرا في الكتابات التفسيرية أو محاولة تسويق الفكرة بتشويه مفهوم الدين عند الإنسان العراقي، وعند العودة للنصوص الدينية المكتشفة والمنقولة ومع التشويش والتحريف لا نجد لهذه الفكرة من أثر ولا حتى بالأحتمال.
4. كما أجمع هؤلاء الباحثون والآثاريون على أن صورة الآلهة والأرباب في الذهن الديني العراقي هي ذات صورة الإنسان نفسه، وهذا دليل على أن الدين العراقي دين بالنهاية هو تجسيد لـ طوطمية العقل الديني، بمعنى أن الدين كله بمختلف مراحله وتطوراته في العراق القديم ليس له صلة حقيقية بالسماء، وما هو بالنتيجة إلا أبتكار الواقع وتجسيد للوثنية المزمنة فيه، حتى ظهرت الديانة العبرية التي أعادت الأعتبار لرب السماء والأرض.
2. الجوانب الموضوعية
في الجانب الموضوعي وهو الأهم في الدراسة وبعيدا عن الصورة المشوهة التي نقلها الباحثون، نجد أن الدين العراقي القديم يقوم على محاور ثلاثة تشكل عماد فكرة الدين، وهي:.
1. الدين ركن أساسي من وجود الإنسان العراقي القديم ومنه وعبره ومن خلاله تتم إعادة بناء كل العلاقات والروابط الأجتماعية والحضارية والنسق الثقافي والفكري بشكل عام، لذا فمنزلة الدين ضمن منظومة الإدراك العقلي تتقدم حتى على ضروريات الوجود، فالعراقي منذ القدم وما زال يفكر ببناء بيت الرب قبل أن يفكر ببناء بيته الخاص، ويستسبق موافقة الله ورضاه قبل أن يشرع حتى بالتفكير في مشروعه أو فكرة تراوده، وحيت يبدأ فأنه يبدا ببسم الله.
2. بعد مركزية الدين في حياة الإنسان العراقي وتغلغله في كل الزوايا والمجالات، نجد أن السماء ببعدها ورمزيتها تكون المركزية الكبرى في هيكلية الإيمان الديني، بمعنى أن الفكر الديني العراقي ينظر للسماء كمفهوم واحد متعدد الجوانب يفعل بتأثيراته القوية والمقصودة بالوجود كوحدة منظمة، سواء أكانت العقيدة موحدة أو متعددة، فحتى عندما يكون هناك فترات تسود فيها فكرة الأرباب نجد أن وظائف الرب الواحد تتوزع عليهم، فليس هناك إدعاءات لتعدد أرباب شموليين كل منهم يمثل الرب الواحد، فالصراع الذي يجري تصويره من خلال الدراسات التأريخية ليس صراعا بين أرباب كاملين، بل بين أرباب متنافسين على محالات محددة، هذا يؤكد أنه حتى في صور العبادة الشركية التعددية في العراق القديم تقر بأن الكون كله يخضع لرب واحد، وأن السماء بكل ما فيها من أسماء وهيئات وكيانات وإنما في النهاية هب سماء واحدة يملكها رب عظيم القوة والقدرة.
3. الدين العراقي يتمايز بخاصية أنتقلت معه إلى كل الديانات التي تفرعت منه أو الذي تأثرت به لاحقا، وهي أن الدين بشكل عام والإيمان به وبتفاصيل مكنونه التكويني يبقى مع الإنسان في الحياة الأولى وينتقل بنفس التأثير والقوة والتدخل إلى عالمه الأخر عالم اللا عودة، وهذا يبطل نظرية الذين يقولون أن فكرة الآلهة الأرباب الأساسية من خلق الإنسان هي أن تعمل لخدمته وتابي طلباتهم، فلو كان الأمر كما يقولون فإن أنتهاء حياة الإنسان تستوجب أنه تحرر من شرط الخدمة لها، هذا أولا وثانيا في النصوص المنقولة نرى أن الآلهة والأرباب لم ينفكوا في إلزام الإنسان بتنفيذ أوامرهم وحتى الرضا بعقابهم مرغمين لا خيار لهم وفق مبدأ المحاسبة، هذا يؤكد أن الدين الذي يمثل طاعة الإله أو الرب دين توجيه وأرغام على السير وفق منهج محدد سلفا وإلا.
لقد كان الدين العراقي بشكله الذي وصلنا عبر المدونات أشبه بمجموعة كاملة من الأعتقادات واليقينيات والمفاهيم والأفكار المتكاملة عن الحياة والموت والوجود والخلق وما بعد الخلق ما قبله، هذا الشكل الناضج تماما من المعرفة الدينية المتكاملة والمترابطة، لا تنتج عن سلسلة تجارب بالتأكيد، ولا يمكن نسبتها إلى العقل البشري بكل هذه التفاصيل المنظمة، مما يثير لدينا الكثير من الأسئلة والإشكاليات التفسيرية والتبريرية التي تتعلق أولا بعدم تناسب تمامية الفكرة الدينية عند العراقيين مع محدودية التجربة البشرية التي خاضها الإنسان في أوائل حياته، حتى الحضارة والتي هي وجه معرفي مادي وروحي أحتاجت إلى الكثير من الفكر والمعرفة والعمل والتجارب ودخل فيها الدين عنصر محوري، لكن الحضارة هذه التي نشأت لم تتدخل في الدين ولم تؤثر على مساراته لأنه وجد قبلها.
السؤال والذي يعود في كل مرة ومرة ووفقا لما نفهمه من أسطورة الخلق السومرية والتي ذكرناها كثيرا (أسطورة الرجال الحكماء السبعة)، هل نقل هؤلاء الأباء المؤسسون للبشرية على الأقل وفقا للتصور العراقي القديم أسس الدين من خلال تجربتهم مع الوجود بعد أن أنزلهم الله في "أريدو" أو الأرض في جنة عدن التي هي أرض سومر؟، ليؤسسوا من خلال تكاملهم مع البعض ومع وجود عدوهم التقليدي (إبا) معهم مشروع الدين، بأعتبار أن الدين هو صراع خير وشر وصراع حق وباطل، فهم يمثلون الحكمة والخير والحق الذي يجاول خصمهم الذي يمثل الزجه الأخر المناقض لهم، فكونوا معا فكرة الدين تامة، وهذه الفكرة هي التي أنتقلت فعلا منهم عبر كل الأديان إلى البشرية وخاصة الديانة الإبراهيمية بأعتبارها المدونات المكتوبة عن الدين العراقي القديم بكامل ما تحمل من أوامر ونواهي ومثل وأحكام خاصة وعامة.
طبعا هناك من يؤيد هذا النظر بدون تحفظ بل يزيد عليه أنه مهما كان المخلوق البشري الأول آدم أو الأبكالو فهم أو هو من نقل لنا الدين كاملا من الله، وأيضا سواء أكان مقررا ومكتوبا أو محدث لسبب وجوده مع نزول الكائن البشري الأول للأرض، بينما يقابله رأي أخر يرى أن الإنسان هو من أخترع الله في عقله وأخترع ما يناسب له من أليات عمل ومفاهيم ووو لتتلائم مع مخلوقه الذي صاغه وفق مفاهيم تجربته في الأرض، فالله والدين ما هما إلا وعي التجربة البشرية التي أمتدت لألاف السنين، والتي تكفي لتكوين منظومة الدين التي جاءت في كل أشكالها تعبيرا عن الصراع الداخلي بينه وبين ذاته، وإنعكاسا لصراع الوجود بينه وبين الطبيعية وأزمة البقاء والفناء.
بالتأكيد كل طرف له مبرراته وأدلته وحججه ولا يمكن أن نحتكم إلى دليل محايد من طرف خارجي أو من خارج صندوق التفكير الخاص بالطرفين، وأيضا ليس من حقنا نكران أي دليل طالما لا نماك المعيار العلمي المنطقي الذي يرجح رأيا ما، ولكن في الأخر الموضوع يتعلق بقناعات وبإيمان خاص وهذا بعيدا عن القبول أو الرفض الخارجي من خارج دائرة الإيمان نفسها، ولكن مهما كانت النتائج فإننا نقف منبهرين وبإعجاب كامل وشديد للعقل العراقي خاصة والبشري عامة الذي أوجد فكرة الدين وكيفية ربط الفكرة ومن خلالها بين الوجود وقوانينه وأنظمته ومعادلاته، وبين الإنسان المبدع العبقري الذي نجح في أن يضع صورة ما لعالم لا يمكن أن يكون كذلك إلا من خلال فكرة الدين وحدها، لأنها فكرة متشعبة متعددة الطبقات في الربط والفصل بين مواضيع مختلفة ومشتركة في آن واحدـ، من فكرة الخلق إلى فكرة الفناء وما قبلهما وما بعدهما.