عالم ما بعد الأممية


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 8154 - 2024 / 11 / 7 - 12:36
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

عالم ما بعد الخامس من نوفمبر عام 2024 يبدو لي قد نزع عنه أخر ثياب القرن العشرين التي ورثها عن عالم ما بعد الحرب الباردة، من التقارب السوفيتي الأمريكي إلى مرحلة إنهيار جدار برلين ثم أحداث 11 سبتمبر، وأنتهاء بأخر خطوة في الفراغ وهي الإنسحاب من أفغانستان الذي كان أخر مسمار في نعش عالم الأممية الدولية الذي توج بصراع الديمقراطية والشمولية للسيطرة على الظل، في كل هذه التحولات كانت القوة الناعمة هي التي تصيغ الأحداث وتحولها إلى الوجه البشع للدبابة والطائرة وأخيرا لتقنيات الحرب العنكبوتية متعددة الأذرع والإمكانيات، القراءة التأريخية لما جرى على العالم بعد الحرب العالمية الثانية تقول أن بداية القرن الواحد والعشرين كان المخاض الذي سيلد عالم "مال القوة" بعد أن كان منطق "قوة المال" هو المحرك الرئيسي والسائد والقائد لصراعات القرن العشرين وما قبلها وصوى إلى بدايات الثورة الصناعية، التي قضت على عالم الكنيسة وصراعات الأديان والسيرورة الطبيعية لمجتمعات السلطة الأبوية التقليدية.
تبلور عالم الأممية والقومية بشكل قانوني وشكل ظاهرة لعالم ما بعد الحرب العالمية الأولى بنشوء عصبة الأمم كنتيجة لتمايز طبيعي لقوة المنتصر في تحديد مستقبل العالم كله، لا علاقة لمفهوم السلام أو الحاجة له في نشوء العصبة، ولا علاقة أيضا لتنظيم المجتمع الدولي في مأسسة النظام العالمي بقدر ما كان تشريع لقوة المنتصر في مواجهة أحتمالات ظاهرة إرتدادات ما بعد الحرب، والدليل أن وجود العصبة لم يمنع من نشوء الحرب العالمية الثانية ولم يمنع ظاهرة الأستعمار الدولي وصراع الشمال والجنوب الذي هو في الحقيقية هو صراع قوة المال ضد الواقع ومنطقه، عاد المنتصرون مرة أخرى وهذه المرة بقيادة جديدة تحاول أن تبرز قيمها الأكثر حداثة من قيم المنتصرين في الحرب الكونية الأولى، مدفوعين بروح ليبرالية أكثر منطقية من الكلاسيك السياسي وريث القرن التاسع عشر الأستعماري، إنها أمريكا التي ترفع شعارين كسلاح في وجه الطرف المنهزم ومن لا يوافقها وهما الديمقراطية وحقوق الإنسان، في الوقت الذي لم تستطع القوى التقليدية في كل العالم المنتصر والمنهزم أن يقول لا، ليس خوفا أو خشية منها لكن ليس لها بديل أكثر إغراء من العصر الأمريكي القادم بقوة ليقود العالم إلى ألفية قادمة بمعايير ليبرالية محدثة.
الليبرالية من طبيعتها أن حركة مستمرة لا تتوقف عند محطة ولا يمكنها التجمد أو التحجر في قالب سياسي أو أقتصادي ولا تستوعبها نظرية فكرية ما لم تؤمن بحقها في الخروج دوما من إطارها، لأنها ولدي أساسا بلا إطار، قد يظن البعض أن هذه فوضى وليست الليبرالية التي نعرفها والتي مورست منذ أمد بعيد كخيار من خيارات النظم السياسية والأجتماعية في الغرب والشرق، أقول أن جوهر الليبرالية ليست الفوضى العارمة بل الفوضى الخلاقة التي تتحرك وفق مسارات مرسومة من قبل، فوضى تصيب الجانب المنتظم والمؤطر من النظام العالي لجعله يخضع لعصا الليبرالية، بالتأكيد هذه الفوضى قد تسبب ببعض الضرر لليبرالية نفسها ولكنه ضرر أقل من بقاء جزء من العالم الأخر يمارس أستنزاف لها في صراع وجودي غير مثمر.
عندما برزت الصين كقوى أقتصادية نامية وأخذت تمارس نوعا من الليبرالية البرغماتية المنضبطة تحركت من مقعدها القديم وسرت الدماء في أوصالها المتضخمة كأنها مريضة بداء الفيل، وتعلمت الجري وراء مبادئ قوة المال شكلت لوحدها تجربة جديدة في عالم متصارع على كل شيء فدخلت من غير إرادة في أحداث الفوضى الخلاقة مرغمة بالرغم من أن مبادئ الشيوعية الأممية لا تنكر دور الفوضى الخلاقة في إحداث تقلبات وتحولات عصرية تصب في صالح القوة الذاتية لها، في خطاب الأنتصار الذي القاه المرشح الرئاسي الأمريكي ترامب بعد إعلان فوزه قال جملة عميقة وتشكل فعلا إشكالية الصين المعاصرة، العبارة تقول (أن الصين دولة عظمى نعم ولكنها لا تملك ما تملكه أمريكا)، فأمريكا بتعدادها السكاني مع مساحة واسعة وممتدة على محيطين وقوة أقتصادية وعسكرية هائلة تبدو كـ "مارلين مونرو" شابة جميلة مغرية تتهافت عليها العيون، أما الصين دولة قوية نعم لكنها مثل امرأة في متوسط العمر بدينة جدا وغير رشيقة وقد تصاب بجلطة قلبية مميتة من كثرة السمنة، صحيح أن الأقتصاد الصيني أقتصاد أستعماري الآن ذو شهية عالية على الألتهام لكنه لا يملك مقومات الحركة الحرة خارج الصين إلا بالأموال التي يملكها والتي تقيم عادة بالدولار الأمريكي، إذا ما عند الصين مرتبط بما عند أمريكا وليس العكس.
العالم إذا توج أمريكا ملك جمال السياسة العالمية خاصة بعد سقوط الأتحاد السوفيتي وإنهيار المنظومة الشرقية التي أفقرتها المبادئ الشمولية، وحطمت قدرتها على الحركة في عالم يجري وراء المصالح، وأنفردت الليبرالية الأمريكية المتحولة نحو المزيد من الحرية والمزيد من خيارات الفوضى الخلاقة وتجاربها لتعبث بالعالم، بأنتصارها التأريخي متعدد الأطراف والمناهج، والحقيقة التي غيبها ضجيج الفوضى أن أمريكا تعاني من مخاض أخر داخلي ثقافي وروحي وحضاري جديد، مخاض يريد أن ينتزع عنه المحددات الثابتة التي صاغها المؤسسون الأوائل لأمريكا المجتمع والقيم، فظهر أولا الرئيس أوباما كخيار أولي تمهيدي لخيارات ديمقراطية بحاجة لتجارب جديدة، وطهر ترامب في رئاسته الأولى وأصبحا القيم الإنجليكية التي تأسس عليها مجتمع أمريكا لا تشغل حيز مهم في تفكير الأمريكي الذي يسعى إلى عالم أكثر ليبرالية مما هو فيه، الولادة الأمريكية الحالية يمكن وصفها بعبارة (مرحلة رئاسة ترامب أو الظاهرة الترامبية الحمراء لا تمثل الوجه الجمهوري للمجتمع الأمريكي المحافظ، بل هو عاصفة ليبرالية تشكل بداية تحول سياسي وأجتماعي عميق لرؤية عالم ما بعد الأممية يبدأ منعام 2025 وربما لا ينتهي إلا بعالم أخر تنهار فيه نظم وتتحول نظم ويتغير ربما وجه العالم إلى أخر في حدود الخمسين سنة القادمة تختفي فيه مفهوم الأمة وتحل الجماعية المنظمة على أسس مال القوة في تشكيلها.