وجدت امرأة تملكهم ح 1
عباس علي العلي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8331 - 2025 / 5 / 3 - 09:45
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
من أساليب القرآن الكريم في السرد القصصي أنه يذكر الحدث والمحدث بالتحديد في حالات أن لا تكون معروفة أو عليها لبس وأختلاف، أو أن ذكر القضية المرتبطة بالحدث سوف تثير الشك والتنازع في النسبة، لذا مثلا ذكر زكريا ومريم في موضوع الكفالة، وذكر سليمان وداوود والصلة التي تربط بينهما كما فعل مع إبراهيم وإسحق وبعقوب ويوسف، في حين لم بذكر أسماء أخوة يوسف بالرغم من المساحة التي أشغلها هؤلاء في النص السردي القرآني، كما ذكر شعيب وموسى ولم يذكر مثلا أسم بنت شعيب ولا من هي كانت الكبرى أم الصغرى، وقد حدث هذا من قبل حين لم يذكر في قصة يوسف المسمى لليم الذي رمي فيه موسى، هذه القضية لمن يفهم أسلوب القرأن والسياق المقصود من الذكر وعدم الذكر فيه، ما يصار سابقا وخاصة أن ذكر هذه الامرأة في التاريخ الديني ليس جديدا وليس محل أتفاق على مكان وجودها ووجود مملكتها لا سيما وقد ذكر إشارة جغرافية مهمة مع النص وهو اسم "سبأ" مرتين لتوكيد المكان.
• ” فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ” (22) النمل ٢٢ .
• ” لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ” (15) سبأ: ١٥ .
وقبل البحث عن الملكة التي أشارت إليها الآية والسورة والقصة والحدث علينا أن نبحث عن المكان الذي أشار إليه الطير، خاصة أن النص يحمل قنبلة فكرية وبلاغية لم يحط بها أحد وقد تم تفسيرها على غير ما تحتمل، العبارة أو اللغم الزمني التعريفي محصور في كلمتين من النص " فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ"، البعض فسر أن المكث هنا الفترة الزمنية اللاحقة لسؤال سليمان عن الطير ووروده حاملا مع الخبر، بمعنى أن الطير عاد إلى سليمان بفترة وجزيرة حاملا النبأ، الحقيقة هذا التفسير والتأويل لا يمكن قبوله لمن يعرف اللغة العربية وأساليب البلاغة القرآنية وطبيعة اللسان العربي المبين، فلو كان المقصود الزمن لكان النص كالآتي " فَمَكَثَ غَيْرَ قليل"، بأعتبار الزمن لا يقاس في الحديث عرضا بالبعد ولكن بالقرب في معرض التقصير، والدليل أن ذكر قريبا في تحديد قصر المسافة الزمنية جاء في تسع مرات في القرآن، مرتان ( فتحا قريبا ) في سورة الفتح / قريب : سبع عشرة مرة، مرتان بزيادة الهمزة ( أقريب )، ووحيدة بزيادة الباء ( أليس الصبح بقريب ) في هود ٨١.
أما بعيدا فقد ذكرت في القرآن ست مرات وكلمة بعيد ستة عشرة مرة، ومرتان بزيادة الباء ( ببعيد ) والبعيد ثلاث مرات هي من مكان بعيد أربع مرات في القرآن ، من مكان قريب مرتان، من قريب مرة وحيدة في سورة النساء ١٧، أما من المكان فقد وردت ست مرات إشارة للمكان، في حين ذكرت أربع عشرة مرة كلمة بعيد ست عشرة مرة، مرتان بزيادة الباء (ببعيد) غيما ذكرت قريب الزمانية سبع عشرة مرة، وحيدة بزيادة الباء (أليس الصبح بقريب) هود ٨١، ومرتان بزيادة الهمزة ( أقريب ) ومرتان (من مكان قريب)، ثلاث مرات ( إلى أجل قريب )، وعشر مواضع وحيدة ( بقريب - فإني - نصر الله - من - رحمت الله - إن ربي - عذاب - سميع - الساعة - وفتح ) قريب.
وطالما ذكر المكث مقرونا بالزمان أكثر من دلالته على المكان كما في خلاصة ما قاله أئمة اللغة والمختصين بها أنها تدل على (تدل على الانتظار أولا وغالبا وهو مزى زمني واللبث في المكان بمعنى علاقة المكان بالزمن المستحق للوصول إلى الغاية)، فقد وردت مادة "مكث" في القرآن في الصيغ التالية:
1. يمكث: فعل مضارع، ووردت في القرآن مرة واحدة.
2. ماكثين: حال، ووردت في القرآن مرة واحدة.
3. على مكث: جار ومجرور، ووردت في القرآن مرة واحدة.
4. امكثوا: فِعل أمْر، ووردت في القرآن مرتين.
5. فمكث: فعل ماضٍ، ووردت في القرآن مرة واحدة.
6. ماكثون: خبرُ (إن)، ووردت في القرآن مرة واحدة.
وبهذا نجد أن (مكث) وردت في القرآن سبع مرات، والآن ننظر إلى السياق الذي وردت فيه في القرآن الكريم في كل واحدة على يتبين أن المعنى العام والإجمالي والرئيسي هو البقاء في حالة الأنتظار لوقوع حدث أو نتيجة كما في مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا، أو امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا، أو فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ، والدلالة الزمنية البينة تماما في النص وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ، هذه النماذج تدل على حقيقة الأنتظار والصبر والتأمل الموعود، بمعنى دلالة المكث في الآية أعلاه دلالة زمنية تتعلق بالبعد المكاني، فيكون الفهم الحقيقي للنص، أن سليمان مكث منتظرا الطير الذي كان غير بعيد عن مكانه هو والذي عاد من سبأ ينبأ، أي أن القياس الجغرافي عند الطير كان قياسا غير بعيد مكانيا، وهذه الإشارة مهمة في تحديد علاقة المكان بسليمان وسبأ ويكشف لنا جزء مما هو غائب عن النص ظاهريا، فسبأ بالنتيجة كانت ليست ببعيدة عن سليمان والدليل أنه مكث ينتظر الطير الذي عاد من مهمة قريبة.
من ما تقدم عرفنا أن المكان ليس ببعيد عن ملك سليمان ذلك الذي تحكم فيه أمراه شعبها ولها عرش عظيم، وهو في الإشارة المكانية الواضحة والصريحة والتي لا تقبل تأويل أن المكان هو "سبأ" وليس غيره، فمن هي مملكة سبأ وأين تقع وحقيقة وجودها التأريخي زمانا وعظمة حال كما ورد في النص القرآني، لنتحول بعدها للبحث في سلسلة ملوكها عن هذه المرأة التي ذكرها الطير وجرت الأحداث معها ويخصها النص بالتجهيل دون التصريح باسمها.
مملكة سبأ تأريخيا.
في الوارد التأريخي المتعلق بسبأ وتأريخها هناك الكثير مما يصدم الاكرة التقليدية عند الكثير من الناس، منها أصل السبأيين لغتهم أسماء ملوكهم علاقتهم بما حولهم وقريب منهم في مناطق الجزية العربية والعراق والشام وحزر البحر وشمال أثيوبيا وما يعرف اليوم بالصومال وأرتيريا تحديدا منطقة التغراي، والأغرب إدعاء الأثيوبيين لجزء مهم وكبير من تأريخ ووجود سبأ الحضاري وكأن ما يحكى عن سبأ إنما يقصد به تأريخ أثيوبيا أو الحبشة الأفريقية وليس تأريخ منطقة الجزيرة العربية التي تعج بأثره الأركولوجي وأنتشار لغة سبأ وتأريخها المتواصل لليوم، حيث أحفادهم قبائل حاشد وبكير يشكلان عمود الوجود الديموغرافي في اليمن وجنوب الجزيرة وصولا لمكة وجده وجبال عسير.