في تدبر سورة القدر
عباس علي العلي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8196 - 2024 / 12 / 19 - 16:15
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
سورة القدر
بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
{إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ (1)}.
نزول الروح
الروح كما جاءت في القرآن {ٱلرُّوحُ} ماذا أراد الله بها كسؤال أول وثانيا تكريم هذه الليلة لهذه ٱلرُّوحُ أم لنزول الملائكة، وسؤال أخر ما علاقة ليلة القدر في رمضان أو في القرآن؟ هذه الأسئلة الثلاث مجتمعة هي التي تدخلنا مدخل الفهم في تدبر هذه السورة العظيمة، ونبدأ من الأخير أي من السؤال الثالث فنزول القرأن وهنا نشير إلى أول كلام الله تعالى وأول آية كما يقول المؤرخون لسيرة النبي والرسالة أنها كانت آية {أقرأ}، فقد ورد في الأثر روايتين في ذلك، الأولى وبعيدا عن مصادرها وسندها تقول (بُعث محمدٌ ص نبياً في يوم الأثنين السابع والعشرين من شهر رجب عام 13 قبل الهجرة، واقترنت بعثته بنزول خمس آيات من القرآن، وهي الآيات الأولى من سورة العلق ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾، فهذه الآيات هي أول ما أنزله الله عَزَّ و جَلَّ على نبيه المصطفى ص من القرآن الكريم، أما الرواية الثانية والتي تقول وأيضا بعيدا عن اسانيدها ورواتها (أن أول ما نزل من القرآن على رسول الله ص هي الآيات الأول من سورة العلق في قوله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، وقد كان هذا في السابع عشر من رمضان، قال ابن كثير في البداية والنهاية نقلاً عن الواقدي عن أبي جعفر الباقر أنه قال كان ابتداء الوحي إلى رسول الله ص يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان وقيل من الرابع والعشرين ).
إذا وفق هذا القول أو تطبيقا لهم فتكون ليلة نزول القرآن أما ليلة السابع عشر أو ليلة الرابع والعشرين من رمضان، أو ليلة السابع والعشرين من رجب وهي ليالي معلومة ومعروفة ومحددة لا لبس فيها، فإذا كان نزول القرآن لأول مرة على النبي محمد هي ليلة نزول الروح والملائكة عليه وهي ليلة القدر كما يفسر وهو شائع وطاغ، فلماذا يقولون أن الله أخفى ليلة القدر في أحدى الليالي العشر من أواخر رمضان؟، والثابت فعلا في نزول القرآن هو في رمضان تحديدا {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيْهِ القُرآنُ}، فيكون القول بأن مبدأ البعث النبوي هو ليس في السابع والعشرين من رجب، مع أن التبرير المساق لا يقنع حتى الطفل في المهد كما ينسب للسيدة عائشة رض أنها قالت (إنّ أوّل ما بدء به رسول اللّه من النبوّة حين أراد اللّه كرامته ، الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى رسول اللّه ص رؤيا في نومه إلاّ جاءت كفلق الصبح، قالت وحبّب اللّه تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحبّ إليه من أن يخلو وحده)، ومع أن هذا التبرير متهافت فالنبوة تبدأ من أول نبأ من الله وليس من الأحلام والرؤى، وإلا كانت أم موسى نبيه بموجب ما أوحى لها الله، وما يكذب هذا التبرير المزعوم هو رواية البخاري عنها التي جاءت مفصلة وواضحة وتؤيد ان أول مبدأ البعث هو نزول الآيات الخمس من سورة العلق مع تحفظنا على طرح الرواية التي تظهر النبي مرعوب وجهود ولا يعلم من الله شيئا ولا يعرف الملك (كان رسول اللّه ص يخلو بغار حراء، فيتحنّث فيه وهو التعبّد في الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاء الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال "إقرأ" قال ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد ثمّ أرسلني، فقال إقرأ قلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني فقال إقرأ، فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثالثة ثمّ أرسلني، فقال {إِقْرَ أْبِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَق * إِقْرَأْ وَ رَبُّكَ الأَكْرَمُ}.
المشكلة في فهم المسلمين للنزول هو عدم التفريق بين القرآن ككتاب والقرآن كوحي، فالأول الكتاب لم ينزل كاملا بل نزل منجما لمدة أكثر من عقدين عكس كتاب موسى ع الذي نزل كاملا في اللواح مرة واحدة في الطور عند النار، والدليل {وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}، والسبب في التنجيم هو لكي يقرأ على الناس ويفهموا مقاصد الله وتدبير الوجود والحوادث المصاحبة لحركة الإسلام والمسلمين {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا}، إذا نزول القرآن بالعام هو نزول الكتاب ونزول القرآن في الخاص وتحديدا بداية البعثة والنبوة هو نزول أول حرف منه وهو كما يتضح في ليلة السابع عشر من رمضان وهي الليلة المباركة الواردة في سورة الدخان {اِنَّا اَنْزِلنَاهُ فِى لَيْلَة مُبارَكَة اِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}، وعند الجمع بين الليلتين ليلة القدر فيها تنزل وبين الليلة المباركة ليلة الإنزال وهي اللية التي وصفها الله أن فيها يفرق كل أمر {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، فيكون الأمر المؤكد والقطعي والدلالي أن ليلة السابع عشر من رمضان هي ليلة القدر تحديدا، ولا يوجد أمر اخر بما يعرف بليلة المبعث أو تأخير الإنزال منها إلى ليلة القدر.
إخفاء أم أستغفال؟
من ما تقدم وبناء على ما وضع أهل العلم الديني من قاعدة التضارب والتعارض بين نص القرآن والرواية فيقدم النص على الرواية مهما كان عدد رواتها ومسانديها، فما قيل عن إخفاء ليلة القدر ليس لها سند في كتاب الله ولا فينص واضح أو إشارة بينة، والهدف من إشاعة فكرة إخفاء ليلة القدر هو لتضييع كرامة وسلام هذه الليلة على المسلمين وصرف أنظارهم عنها، وهي من دسائس الذين وضعوا الأحاديث وأشاعوا قدسيتها، فمما ورد في مسألة الإخفاء الكثير بمختلف التبريرات والأعذار منها (لقد أخفى الله ليلة القدر ضمن ليالي شهر رمضان، وبيّن الرسول ص أن التماسها في العشر الأواخر، وأكد على التماسها في آحاد هذه الليالي ليجتهد المؤمن في العبادة، ويضبط النفس على الطاعات طوال ليالي شهر رمضان من جهة، ثم ليضاعف من اجتهاده في العشر الأواخر منه، ثم ليزيد من حرصه وحسن عبادته في آحاد ليالي هذه العشر رغبةً في أن يظفر بمصادفتها واغتنام خيراتها ولو لم يشعر بأماراتها، وقد وردت الكثير من الأحاديث والروايات بخصوص توقيتها، ومنها عن السيدة عائشة رض أنها قالت كان رسولُ الله ص "تَحرَّوا ليلةَ القَدْر في العَشْر الأواخِر من رمضانَ" رواه البخاري ومسلم، كما نقل عنها قوله ص "تَحرَّوا لَيلةَ القَدْرِ في الوَتْر من العَشرِ الأواخِرِ من رمضانَ" رواه البخاري، وعن ابن عمر رضي عن النبيِّ ص أنه قال "تَحرَّوا ليلَةَ القَدْرِ في السَّبْعِ الأواخِرِ" رواه مسلم، وقال ص "ليلة القدر من كان متحريها فليتحرّها في ليلة سبع وعشرين" رواه أحمد)، فكيف يجزم البعض بتحديد نزول القرآن أول مرة بشكل قاطع وأن هذا النزول هو البعث والمبعث وهو موعد ليلة القدر التي إنزل فيها القرآن، مع القول بأن الله أخفاها عن الناس، وهذا يعني أمرين، أما أن ليلة القدر لا تتعلق بنزول القرآن وعليهم أن يجدوا السبب والتفسير لها من جديد، أو أن ليلة القدر هي ليلة السابع عشر من رمضان وكل ما قيل غير ذلك أفتراء على الله ورسوله وعلى السيدة عائشة وما نسبلها من كذب على رسول الله.
نعود للسؤالين الأولين في معنى {الرَوَحُ} وتفريقا عن كلمة (الرُوُحْ) بضم الراء المشددة التي تعني سر الحياة والتي تفخ الله فيها في طين آدم قبل أن يكون بشرا سويا {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي}، فالكلمة الأول تعني تحديدا إن لم تكن مقترنة بوصف {قل نزله روح القدس من ربك} أو ملحق {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} فهي تعني ملكا موكلا من الله بأمر خاص، أما إذا جاءت الكلمة منفردة فتكون بمعنى أمر الله من كرحمة أو كلام أو حديث أو كتاب {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} و {ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} و {وأيدهم بروح منه}، فما نزل في ليلة القدر هوما أوحى الله به لنبيه وما حمله الوحي جبرائيل الملك {قل نزله روح القدس من ربك}، وبذلك تكون ليلة القدر هي ليلة نزول الوحي {رَوح الله} على رسول الله بواسطة { روح القدس من ربك}، والتعظيم والتبريك الذي وصف لليلة يعود لمناسبة أن الله قد فرق فيها كل أمر حكيم بنزول الفرقان على نبيه مع القرآن { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، لذا قال الله ليخبر الناس عن عظمة هذه الليلة بأنها خير من الف شهر {وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ (2) لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَيۡرٞ مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡر}، إذا لهذا السبب تم وصفها بالخيرية {تَنَزَّلُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمۡر} ربطا مع ما جاء في الآية 4 من سورة الدخان {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، لذا فهي سلام بمعنى أمان، أو هي سِلْم بمعنى صُلْح أو إصلاح الوجود بناء على التفريق بين الحق والباطل {سَلَٰمٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطۡلَعِ ٱلۡفَجۡرِ (5) ). أنتهت.