خَلۡقَ ٱلۡإِنسَٰنِ بين النظريات والأراء وقول الله في الكتاب
عباس علي العلي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8110 - 2024 / 9 / 24 - 18:11
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
هل خلق الله كل إنسان من طين؟ هذا سؤال للذين لا يفرقون بين القصد الخاص والمعنى العام وبين القاعدة بين التطبيق، عندما يتحدثون يقول أنه أبن الطين وأنه من سلالة من طين يقصد المباشرة بالسلالة وليس القصد القرآني من المفهوم {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ}، فالله تعالى يقول خلقنا من وهنا الــ "من" مصدرية أي بمعنى الأصل التكوين يكان في الــ "من"، فالله تعالى لم يخلق السلالة كلها من طين بل كان بدء الخلق من طين أولا، فالأب الأول كان من طين { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ}، حتى صار إنسانا مثل الذي نحن فيه فأنتقل الخلق من الطين مباشرة إلى ما صيره الله إنسانا وصار الخلق من ماء مهين {ٱلَّذِيٓ أَحۡسَنَ كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقَهُۥۖ وَبَدَأَ خَلۡقَ ٱلۡإِنسَٰنِ مِن طِينٖ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسۡلَهُۥ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن مَّآءٖ مَّهِينٖ}، إذا التحسين الذي صار على موضوع خلق الإنسان هو التحول من الطين مباشرة إلى الماء المهين، هذا التحول خصوصي للإنسان من الطين مباشرة، أما عموم الحياة الحية فهي من الطين بالتأكيد ولكن بدون أن يتدخل الله بالمباشر وإنما ترك الأمر لقوانين الوجود أن تأخذ مجراها الطبيعي، الجواب الذي فيه منطق علمي لن يتوصل إليه الكثيرون ممن يدعون أنفسهم بالفقهاء والعلماء عما إذا كان النبات والحيوان خلق في الأرض أولا؟ وما هو المصدر الخلقي لها ثانيا؟ وهل أن خلق النبات والحيوان كان في الجنة أولا كمخلوقات قديمة مخلوقة بالقدرة المطلقة بقول كن فيكون أم خضعت أيضا في خلقها لما خضع له البشر من كيفية وكونية محددة ومعلومة بالنص؟ وسؤال أخير ما يثبت ذلك أو ينفيه؟، هذه بضعة من أسئلة الخلق التي لم يتركها الله لنا بدون جواب مع أن الله يؤكد ويجزم أن لن يترك شيء دون بيان أو تفصيل {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)}.
لفهم هذا النص اولا علينا أن ندرك ثلاثة نقاط مهمة من مخارج الآية:.
1. الخلق الأساسي كان أزواج {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، هذا منطق مطلق لا فيه أستثناء ولا فيه إعفاء، حتى الكائنات التي تتكاثر بالإنشقاق أو وحيدة الجنس هي بالأصل تحمل مبدأ الزوجية داخلها فيا الجينات المخلقة في نظامها التكاثري.
2. تنبت الأرض لا يقصد بها النبات فقط بل كل ما فيها من نبات وحيوان وإنسان طالما فيها ماء {وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا}، والإنبات من مصدر نبت لغويا (نبَتَ: (فعل) نبَتَ يَنبُت ، نَبْتًا ونَباتًا و نُبوتًا، فهو نابِت، نبَت الشيء ونحوُه تولَّد، نشأ وتكوَّن، النَّبْتُ أي النَّباتُ، ما أخرجته الأرضُ من زرعٍ وشجرٍ)، تنبت الأرض أما ما يخرج فيها ومنها وعليها أو يولد أو ينشأ ولا علاقة له بالخصوص بجنس النبات.
3. هذا القانون ليس حصريا بما ينبت في الأرض أو في أنفسكم بل هو متعدي على كل ما خلق الله مما لا تعلمون، وهذا يعني أن هناك مخلوقات لا نعلمها أو لا ندركها الآن أو ربما في أحوال أخرى يسري عليها القانون مما يؤكد الجزم الوارد في(1) أعلاه.
إذا نعود لسلة الأسئلة السابقة بما أن الله خلق الإنسان وجعله في الجنة في بدء الخليقة، ومما ورد في الذكر أن الجنة بالمواصفات الثابتة كان فيها نبات وحيوان ومن كل شيء، إذا أمامنا في هذا أحتمالين، الأول أن تكون الجنة في جزء من الأرض بها ما في الأرض من نبات وحيوان، والنزول المذكور في القرآن من الجنة هو إبعاد آدم وزوجه من هذا المكان وإنزاله درجة من نعيم، هذا أحتمال واقعي جدا لولا أن الإنسان اليوم أستعمر الأرض كلها ولم يعد هناك مكان خفي لم يصله، فلو وصله فقد دخل الجنة بغير أمر الله، وهذا الأمر لو حصل غير منطقي أصلا، الأحتمال الأخر أن تكون الجنة خارج الأرض في مكان ما وكما وصفها الله جنة عرضها السموات والأرض، إذا يثار أمامنا سؤال أخر هو، هل نبات وحيوان الجنة هو نفس نبات وحيوان الأرض؟، إذا كان نعم فلا بد أن تكون أرض الجنة هي من نفس أرضنا تكوينا وتركيبا وخصائص وطبع، وهنا أيضا يثار سؤال فرعي وهو، الطين الذي أخذه الله لصنع آدم هل هو طين الجنة ؟ أم من طين الأرض؟، إذا كان من طين الجنة فلا بدأن يكون طيبا غير مدنس وبالتالي فيكون المصنوع منه طيبا غير مدنس وهذا غير منطقي لتعارضه مع قول الله تعالى {فألهما فجورها وتقواها}، فالنفس البشرية منذ البدء فيها عنصر التنجيس بالفجور الطبيعي، إذا سيكون الطين المذكور والمقصود هو من الأرض التي نحن فيها والدليل قوله تعالى {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ}.
إذا نعود للسؤال ذاته هذه النباتات والحيوانات التي في الأرض هل هي مستقلة بتركيبها وتكوينها ومصدرها عن تلك التي في الجنة؟ أم أنها من نفس التكوين والخلق وقد أنزلها الله للأرض منها وقت ما؟، قد يكون الأمر غير مهم عند البعض ولكن عند تدبر القرآن لا يمكن العبور عن هكذا حقائق وجودية {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة، إن الله على كل شيء قدير}، بالعودة للقرآن للبحث عن إجابة مباشرة أو دالة نجد الجواب واضحا وبينا وضوح الشمس بقوله تعالى {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ}،إذا ما يقول الله في هاتين الآيتين؟ يقول:.
• تكوين الأرض منفصل عن الجنة فهي والسماوات خلقت في بداية خلق الوجود {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ* فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}،هذا يعني أن خلق الجنة قد يكون بعد خلق الأرض من قوله {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا}،فإذا كانت الجنة في السماء الخاصة بها فدليل القول أن خلق الأرض في يومين وتدبر أمرها في أربعة أيام إن لم يكن سابقا وجود سماء الجنة فهو معاصر لها.
• إذا ما على الأرض من زروع وحيوان خاص بها وهي من ضمن خلق الله في اربعة أيام على الأقل السلالات الرئيسية التي تعتبر من الأقوات التي تشكل ضرورة وجودية للبقاء { وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا}، وهذا يعني أنها ليست من مصدر خارجي عن الأرض، يتكرر هذا الأمر معنا هنا في سورة السجدة هذه {ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا شَفِيعٍۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ يَعۡرُجُ إِلَيۡهِ فِي يَوۡمٖ كَانَ مِقۡدَارُهُۥٓ أَلۡفَ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَٰلِكَ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ (6)}.
وبالعودة من أول السورة التي بدأها الله بمواجهة مع المفترين { تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَا رَيۡبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ}، الذين ينكرون هذا الكتاب وما فيه هل يستطع هؤلاء أن يأتوا بنظرية للخلق بمثل هذه الدقة والتصور والتكوين ولو على سبيل الأفتراض، أقصى ما يمكنهم الرد به أن الوجود قد خلق نفسه بنفسه وتطور حسب الحاجة، كلام جيد ومقنع تماما لو أن هذا التطور تشعب وخلق خلقا أخر فالممكن مرة ممكن في كل مرة، فهل الوجود خلق نفسه مرة واحدة وترك بعدها هواية الخلق؟ أم أنه الحق من الله الذي لا يرتضونه لو كانوا صادقين، وسؤال أخر بأعتبار المنكر هو من خلق نفسه بنفسه هل من الممكن أن يفعلها ويخلق خلقا أخر الأن بأعتباره جزء من الخلق الخالق لنفسه؟ {ٱلَّذِيٓ أَحۡسَنَ كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقَهُۥۖ وَبَدَأَ خَلۡقَ ٱلۡإِنسَٰنِ مِن طِينٖ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسۡلَهُۥ مِن سُلَٰلَةٖ مِّن مَّآءٖ مَّهِينٖ (8) ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِۦۖ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَۚ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ (9) وَقَالُوٓاْ أَءِذَا ضَلَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ أَءِنَّا لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدِۭۚ بَلۡ هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمۡ كَٰفِرُونَ (10) ۞}، من زعم المنكرين المفترين قولهم {وَقَالُوٓاْ أَءِذَا ضَلَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ} أي ضعنا في مكونات الأرض ولم يعد لنا وجود خاص وصارت لحومنا وعظامنا ترابا في الأرض وفيها لغتان: ضَلَلْنَا، وَضَلِلنا. بفتح اللام وكسرها، والقراءة على فتحها وهي الجوداء، لأن كلّ شيء غلب عليه غيره حتى خفي فيما غلب فإنه قد ضلّ فيه، تقول العرب "قد ضلّ الماء في اللبن" إذا غلب عليه حتى لا يتبين فيه، وهذه الآية مطابقة لقوله في مناسبة أخرى {أئذا كنا عظاما ورفاتا أنبعث خلقا جديدا}، هذا قولهم مرتبط بحقيقة أنهم كافرون باليوم الأخر أضافة لكفرهم الأعظم بالله {هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمۡ كَٰفِرُونَ}.