في معنى السياق التأريخي. ح2


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 8293 - 2025 / 3 / 26 - 00:13
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

تعتبر المفردات اللغوية بالنسبة للّغة بمثابة الخلايا بالنسبة للكائن الحي، فمع مرور الزمن يترك عدد من الكلمات والمفردات مكانها في اللغة لتحتلها مجموعة أخرى، وهكذا، حتى أنه قد يكون من الصعب على أديب ما أن يفهم بشكل صحيح نصاً ما يصدر بعد خمسة قرون ً مثلا من تاريخه، ففي عصرنا الحاضر جاء ببعض التعابير السائدة في اللغة العربية اليوم التي إن عرضت على الشاعر الكبير «المتنبي» لما تمكن من فهمها، فكيف هو الحال بالنسبة للناس العاديين الذي عاشوا قبل عدة قرون؟ فهم بالتأكيد سوف لن يفهموها أيضاً، هذا على الرغم من أن معظم الكلمات التي نستخدمها في النصوص اللغوية كانت متداولة في عصره أيضاً، من هنا قد لا يمكننا من خلال معجم لغوي معاصر أن نفهم النصوص التي جاءت مثلا قبل أربعة عشرة قرونا من الآن، وكمثال على ذلك فإن في اللغة العربية حالياً أسماء كثيرة كالسيارة التي تعني (العربة الحديثة المعروفة)، والمائدة التي تعني (طاولة الطعام)، فلا يمكن ترجمة وتفسير هذه الأسماء بمعانيها القديمة وفق معاجم وفهم المعنى الحالي لهذه الأسماء والتي جاءت أيضاً في القرآن بمعناها التاريخي، وعلى هذا الأساس فإن أحد معاني قراءة النص في سياقه التاريخي هو أن تكون القراءة ضمن ضروريات ملاحظة التطور والتغيير الذي طرأ على اللغة عبر التاريخ.
فاللغة سواء كانت أمراً مكتسباً إذ يعتقد الفلاسفة التجريبيون وعلماء النفس والسلوك من أن اللغة هي كسائر السلوكيات الاجتماعية الأخرى من صنع المجتمع ولا أصل لها في البناء الوراثي والجيني الخاص بالإنسان، أم كانت أمراً سلوكياً كما يرى العالم اللغوي (نعوم تشومسكي) وعالم الأحياء (إريك لنبرغ) وعالم النفس (جورج ميلر) والذين يؤكدون على أن اللغة حالة فطرية وذاتية كحالة السير على القدمين فسواء كانت اللغة نتيجة لهذا أو ذاك فإن الإنسان سيتعلمها في داخل المجتمع وعبر الزمن، وهذا الأمر واضح من خلال نظرية علماء السلوك، وذلك لأن هذه النظرية ترى أن «اللغة صنيعة المجتمع، وشأنها شأن جميع القيم والسلوكيات الاجتماعية ذات طابع أكتسابي ولهذا فهي تابعة للتغيرات الاجتماعية المحكومة بالتغيرات التاريخية وتطور المجتمعات عبر الزمن، وأيضا على أساس النظرية الثانية والتي تقول بأن اللغة هي ذات طابع جيني وإنها تأتي نتيجة حالة التكامل خلال القرون، فإن الإنسان -في هذه الحالة أيضاً يأخذ لغته وهو في حالة الطفولة من المجتمع، وهذا يكون بمثابة البناء على تلك الأسس الجينية أيضا.
فبالرغم من أختلافات اللسانيين وعلماء اللغة في أثر ومسميات السياق اللغوي منظورا له من الدور الذي يلعبه في تقديم الفكرة، أو في دراسة النص أو المجال الحيوي المستهدف، لكن يبقى الأهم من كل ذلك هو علاقة النص بالدلالة، علاقة النص بالفكرة والفكرة بالمقدرة عن نقلها بالشكل الأمثل للمتلقي، هذه العلاقات هي مدار السياق اللغوي والإشكالية الأساسية في دراسة ليس فقط النص ولكن أيضا في دراسة السياق التاريخي الذي ولد فيه النص، عند أنتقال مركز الثقافة والإبداع العربي من حدود البيئة العربية الجزرية إلى بغداد أو حتى إلى الأندلس وهي فترة زمنية مهمة نلاحظ تغير في مزاج أختيار المفردة للتعبير عن الفكرة، وظاهرة أختفاء كثير من المفردات اللغوية التي أرتبطت ببيئة مكة والمدينة مثلا عن البيئة الجديدة، حتى السياق اللغوي البنائي أصبح أكثر رقة وأنعم في أستخدام المفردة وتوظيفها.
إن من أهم إشكاليات دراسة السياق التأريخي للنص المدروس وهنا نتحدث تحديدا عن مجموعة كبيرة من النصوص المختلطة، منها المنسوب مباشرة للنبي محمد ص ومنها ما هو منقول عن المسموع، ومنها ما هو رواية فقط لحدث ربما يحمل نصا مباشرا بقدر ما كان شهادة على حدث، هذه المجموعة التي سميت سيرة أو سنة فيها الكثير من الإشكاليات في الهوية وفي الماهية خاصة وأن الغالب منها ظهر بعد عقود من حصولها إن كانت قد حصلت فعلا، وقد دونت وجمعت في ضل صراع سياسي واجتماعي وفكري تمحور حول السلطة وحول الرؤية التي تتبناها السلطة للدين ودورة غي المجتمع، فبين مدرسة متزمتة بالظاهر اللغوي دون النظر إلى دور السياق التأريخي وهي المدرسة المحافظة التي ترى في النص كائن مقدس ومتعالي لا يصيبه أثر ولا يؤثر عليه حد مادي أو معنوي، وبين من يرى أن النص كائن حي يتماهى دوما مع محيطه الخارجي ولديه القدرة أن يتكيف مع المتغيرات الخارجية مهما كانت، وهذه المدرسة الواقعية التي تحاول توظيف المنطق وإحياء النص من خلال أدوات العصر، الموضوع في المدرستين له بواعث داخلية متعلقة بالنظرة للنص فقط بأنها حامل محمول لا بد أن يصل إلى المتلقي بشكل ما، الفرق بين المدرستين أوسع من أن يجزر بحلول وسطية.
واجه النص موضوع الدراسة وهو الحديث النبوي والرواية عنه إشكاليات كثيرة تبدأ من النقل وتنتهي بالسياق الحدوثي الذي جرى فيه تنصيص النص، فليس كل ما روي عن طريق الرواة أو قيل كذلك يحمل نمطا واحدا من الناحية اللغوية والفكرية، هذا الأختلاف مرده لشيئين أساسيين وهو أن لكل شخصية بشرية نمط فكري ولغوي ذو ملامح ثابتة تقريبا ولا تتغير بشكل سريع أو متناقض عادة، نعم من الممكن أن يتطور الأداء اللغوي والفكري ويشكل منحى تصاعدي في الشكل العام، لكنه يبقى يحمل نفس السمات الأساسية للشخصية ذاتها، عندما نفحص الكثير من الأحاديث أو الروايات عن قول أو سلوك النبي نجد التناقض الكبير البلاغي والصرفي وحتى الفكري بين حديث وحديث، هذا إذا ما أخذنا قول البعض بأن "كلام النبي محمد ص فوق كلام البشر ودون كلام الله"، بمعنى أن كلامه يتميز بخصيصة كبرى تجعله بعيدا عن البساطة والركاكة وليس عن التبسيط والبيان.