أهمية السياق التأريخي في دراسة الحديث والرواية 2
عباس علي العلي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8214 - 2025 / 1 / 6 - 09:51
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
وإذا كانت نظرية السياق بشكلها الحالي وبتفرعاتها التي تعددت حسب منهج دراسة السياق ذاته والمعيار التخصصي فيه قد نشأت في الغرب حديثاً وتطورت في ظل الدراسات اللغوية الحديثة، فإن علماء العربية المسلمين سبقوا ذلك بمئات السنين في بيان أهمية السياق بعناصره المقالية والحالية أو ما يسمى حاليا بالسياق المعنوي ، ولعل أول من نصّ على ذلك الإمام الشافعي إذ ذكر في أن الكلام يكون "عاماً ظاهراً يراد به العام، ويدخله الخاص، وظاهراً يعرف من سياقه أنه يراد به غير ظاهره، فكلّ هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره" فقد يكون الظاهر المعنوي من الكلام غير المقصود الحقيقي، لكن السياق هو الذي يحدد المعنى المراد من الكلام أو النص، وركزوا في دراسة السياق المعنوي على منطقين وهما:.
• المقال.
• الحال.
لذلك ركز دارسوا النصوص على أهمية العنصرين في تحديد المعنى المطلوب من خلال أستخدام القرينة المتطابقة بينهما، مثلا يقول الباحث مصطفى حميدة في دراسته عن نظام الأرتباط والربط ما نصه (ولا شك أن السياق مقالياً كان أم مقامياً هو مصدر القرائن، إذ عليه يتكل المتكلم في أن يلتمس منه المتلقي القرينة المعنية على فهم المعنى) ، بمعنى أن السياق هو الذي يحدد نوعية العلاقة النحوية بين أجزاء الجملة، كما في جملة "صعدت علواً" فالعلاقة بين (صعدْتُ) و (علواً) يحتمل أن تكون المفعولية إذا كان يُفْهَمُ من السياق (صعدت مكانا عاليا)، وقد تكون العلاقة السببية إذا كان يُفْهَمُ من السياق(صعدت لأعلو)، كما يُفْهَمُ منها النيابة عن المفعول المطلق، إذا فُهِمَ من السياق توكيد الكلام، فيكون المعنى (علوت علواً)، وهذه الاحتمالات الثلاث تكاد تكون متساوية، ولا يترجح احتمال من هذه الاحتمالات إلا بدليل من السياق، وعلى السياق يعوِّل المتكلم عندما يحذف أحد ركني الإسناد في الجملة على الرغم من أهمية ذكره، ومع ذلك تظل الجملة صحيحة نحويا وذات معني واضح، على الرغم من حذف جزء رئيس من مكوناتها.
وكلمة السياقContext قد استعملت حديثاً في عدة معانٍ مختلفة منها المعنى الدلالي أو اللغوي أو سياق المعنى القصدي وهو معناها التقليدي، أي البحث في النظام اللفظي للكلمة وموقعها من ذلك النظم، إذ أن السياق على هذا التفسير ينبغي أن يشمل لا الكلمات والجمل الحقيقية السابقة واللاحقة فحسب بل والنص كاملا وحتى الكتاب كله، كما ينبغي أن يشمل بوجه من الوجوه كل ما يتصل بالكلمة من ظروف وملابسات ذاتية أو خارجية على مساس بأستخدام الكلمة وظروف الأستخدام والعلة في أختيار هذه الكلمة دون غيرها، والعناصر غير اللغوية المتعلقة بالمقام الذي تنطق فيه الكلمة لها هي الأخرى أهميتها البالغة في هذا الشأن، وبالمقارنة بين المعنى الاصطلاحي والمعنى اللغوي يبرز معنى التتابع أو التوالي والأتساق الضروري الذي لوحده يمكن أن يسمح بإيصال رسالة الناص أو المتحدث، فيمكننا النظر إلى التتابع من زاويتين يبرز من خلالهما المعنى الاصطلاحي .
الأولى : تتابع العناصر التي يتحقق بها النص كانسياق الأصوات لتكون كلمات تتركب بتتابعها الجمل، ومن ثم النص ذاته كوحدة كبرى وهذا ما يطلق عليه "سياق النص" .
الثانية : تتابع وتوالي الأحداث التي تمثل عناصر الموقف الذي جرى فيه الكلام، ويسمى "سياق الموقف"، وسيأتي بيان ذلك عند تناول السياق من حيث التنوع.
أما معاجم المصطلحات فتركز على الجانب المقامي إلى جانب النصي ، فالسياق عند إبراهيم فتحي مثلا هو بنية الكلام ومحيطه وقرائنه، وهو بناء كامل من الفقرات المترابطة ذات الهدف الواحد التي تمثل في حقيقتها رؤية وهدف وغائية الناص لا النص فقط، ودائماً ما يكون سياق مجموعة من الكلمات وثيق الترابط بين البناء المادي اللغوي وبين البناء الروحي إذ أمكن التعبير أو البناء القصدي المعنوي، فلا يقتصر على إلقاء الضوء على معاني الكلمات المفردة فحسب وإنما يتمدد على وفي معنى وغاية الفقرة بأكملها، ليعطي صورة مادية ومعنوية حقيقة لعقل أو تصور صاحب النص وربما حتى خلفيته النفسية والروحية والفكرية، وهذا ما نبحث عنه غي دراسة الحديث والرواية التي يزعم البعض صدقا أو أحتمالا أنها صدرت عن النبي محمد ص في زمنه وعبرت عن مكنونه الإيماني.
إذا السياق المعنوي أو سياق المعنى هو الذي يجعل النص يتكلم باسم المتكلم أو الناص ليعبر عما يريد كما أراد، منه يمكننا أن يكون الأداة العملية مع السياق التأريخي الذي تكلمنا عنه سابقا ومع مفاهيم اللغة ومنطق فهمنا للقرآن تدبرا يمكننا أن نجعلهم جميعا مقياسا ومعيارا في إثبات أولا صحة الحديث أو الرواية المنسوبة للرسول محمد ص، وثانيا معرفة قيمة الصحيح النسبي وفقا للمعيار أعلاه في أستدلالاتنا على ماهية ما بين أيدينا من تلك الروايات والأحاديث من الناحية التعبدية الإلزامية أو الرشدية الأخلاقية الغير ملزمة إلا من باب الطاعة التي مصدرها الأول طاعة الرسول ص لربه وعلى هذه الطاعة تبنى طاعاتنا له.
في هذا المجال لا بد أن أسجل نقطة مهمة جدا في دراسة السياق المعنوي للرواية والحديث عن رسول الله ص، وهي أن الرسول عاش حياته الطبيعية كبشر وهذا ثابت في نصوص القرآن {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} ﴿١١٠ الكهف﴾، هذه البشرية المحضة لا تنقص ولا تتناقض مع مرتبة النبوة والرسالة، فكل حديث الرسول ص أما أن يكون في موارد حكم الله أي في الأحكام المكلف بتبليغها للناس أمانة، فيكون هذا الحديث في الغالب تفسيريا وإرشاديا في مقام التوضيح وليس في مقام التشريع وهو ملزم لنا ليسمن كونه من الرسول فقط بل ولكن من كون إلزامية الحكم الرباني الأصل الذي أستند عليه، فالنبي لا يحق ولا يصح له كما قلنا أن يشرك الرب في أمر الأحكام، أما الجز الأخر من حديثه كونه إنسان أجتماعي بشري الطبع والتكوين والتكليف ويمارس دوره وفق هذا الحال، فهو غير ملزم للمؤمنين حاله حال بقية البشر، ولمن من مقامية الأحترام والتعظيم وكونه قدوة وقد طهره الله وأصطفاه وألزمه كلمة التقوى، فيكون حديثه ملزم من الناحية الأخلاقية التقديرية فقط، ربح من تبعها ولم يخسر أو يؤثم من تركها طالما أمه ملتزم بما ورد في الأحكام.
وهناك نقطة أخرى من خلال فهمنا لسياق المعنى في موضوع الحال ومن قراءة المفاهيم التي أرتبطت بالحديث والرواية، أطلق البعض على هذه المجموعة من المنقول التأريخي أسم السنة النبوية وأضافوا لها صفات مرة الطاهرة ومرة الشريفة، وكأن الرسول ص بعث للناس ليسن لهم سنة غير سنة الله، وعند تفحص معنى السنة في القرآن الكريم واللغة العربية نجدها تناقض مزاعمهم من أن محمدا ص سن لهم ما يقتدون بها وجعلوها رفيقة للقرآن ومكملة له، ففي اللغة الفعل (سَنَ يسن سنينة وسنه فهي مسنونة وسانية والجمع سنن، سَنَّ سَنَنْتُ، يَسُنّ، اسْنُنْ/ سُنّ، سَنًّا، فهو سانّ، والمفعول مَسْنون وسنين، سنّ أمرا أي بدأ بعمله وتبعه النَّاس بعد ذلك، وفي الذكر الحكيم {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} ﴿٢٣ الفتح﴾)، وقد وردت السنة في القرآن دوما منسوبة لله وحده ولم يذكر أن أحدا قد أمكنه أن يسن شريعة أو قانون أو حكم غير الله، وبذلك ينفضح قول أهل السنن من إيراد حديث كاذب يتنافى مع إرادة الله وجزمه من عدم وجود سنة لغيره والحديث هو (مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَمِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا)، وما يزعمون به أن سنة الرسول هي ما تركه من قول وفعل وتقرير ما هي إلا توضيح وشرح وبيان لسنة الله التي لا تبدل ولا تحول ولا تنقضي ولا تعدل { مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ۖ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} ﴿٣٨ الأحزاب﴾، فالرسول ص يتبع سنة ما فرض الله عليه وعلى من قبله ولم يبتدع سنة ولن يسن تشريع.