فاطر السموات والأرض


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 8116 - 2024 / 9 / 30 - 00:23
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

بين نظرية الفتق والرتق التي تكلمنا عنها سابقا وبين مصطلح فاطر السموات والأرض هناك مساحة للإستفهام تعتمد على معنى الفتق ومعنى الفطر، الفتق كما عرفنا في المباحث السابقة هو فك الرتق تحديدا، فعندا يمون عندك ثوب مرتوق أي كان فيه شق أو خرق ثم تخيط هذا الشق أو الخرج تسمى هذه العملية رتق (رَتَقَ (فعل) من رتَقَ يَرتُق ويَرتِق، رَتْقًا، فهو راتِق، والمفعول مَرْتوق، رتَق الفتقَ أي سدَّه أو لحَمَه، عكسه فَتَقَه، رَتَقَ فَتْقَهُ بمعنى أصْلَحَ شَأْنَهُ، وفي القرآن الكريم ورد {أوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا})، من هذا المعنى لا يكون الفتق بمعنى الفصل في الشيء أو تقطيعه إلى أجزاء، بل بقاء الشيء كوحدة كاملة وإحداث شق فيها أو قطع جزئي الهدف منه أما لإخراج شيء من داخل المفتوق أو تمرير شيء عبر هذا الفتق، هناك لمحة تدبرية في أية الرتق والفتق وهي أن الله تعالى يقول عنهما أي عن السماء والأرض أنهما (كانتا) رتقا واحدا (فَفَتَقْنَاهُمَا)، أي أن عملية الفتق جرت على الأثنين معا وهذا يقودنا إلى تصور أفتراضي إذا كانت السماء رتقا ففاقها الله لتخرج الأرض منها فهو تصور مقبول وقد يكون منطقيا على أفتراض أننا لا نعرف كيف كان شكل السماوات قبل الفتق، لكن كيف نفهم فتق الأرض؟.
هناك عدة تأملات يمكن أن تكون مدخل لفهم هذه الإشكالية وتفسير المعنى الوارد في الآية الكريمة، أولى هذه الفرضيات أن السماوات والأرض كانتا رتقا كل منهما، أي كانتا وحده مغلقة على نفسها، فالأرض موجودة كما هي الآن والسماوات كانت موجوده كما هي الآن، كانت عملية الفتق هو إخراج لما في داخلهما من مكونات، الأرض أخرج منها كما في الآيات الكثيرة مما فيها من الخبء المكنون { أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}، فالمعنى إذا وحتى في اللغة عن الرتق هو الإغلاق والإصلاح كما جاء في التعريف، ففتق الرتق هو فتح المرتوق كي يتمكن مما فيها من الخروج والدخول والصعود والنزول بمعنى تحريرها من الغلق {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، فعندما فتق الله السموات جعلها تتحرر من الجمود والغلق وجعل الموجودات الكونية فيها تأخذ حركتها لعيدا عن الإغلاق والتقييد، وأما فتق الأرض هو فتح الخروج منها والإيلاج فيها بمعنى أنه جعلها صالحة لما أعدت له أصلا.
الرأي التأملي الأخر وهو أفتراض عقلي أيضا أن الفتق هو جعل أوامر الله تنفذ من خلال ستار الحجب الذي أخاط بالسموات وبالأرض لتفعيل قوانين الحركة والإصلاح فيها {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}، وحتى السماء طما هي الأرض فيها مقاليد تتحكم في الحركة والنظام زهي بيد الله فعندما فتقهما جعل المقاليد في مكانها الحقيقي كي تنتظم كما أراد الله لها أن تكون {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وقد يكون من المناسب أيضا كرأي ثالث أن الله قد جمع بين الرأيين في عملية واحدة ليمضي أمر الله قدرا مفعولا { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ* وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ* وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ* وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، ففي النهاية كانت عملية الفتق لكليهما الهدف منها بث الحياة فيهما { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ ۚ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}، إذا يمكن فهم الفتق بموجب هذه المعاني أن الله جعل في المرتوقات التي كانت ميتة بمعنى أنها ساكنة بلا حياة، أسليل الحركة التي قدرها الله أن تكون لتستوعب أمره وتقديره.
نعود لعنوان بحث التدبر وهي عن ما يحمل مفهوم كون الله فاطر السموات والأرض من معنى، وكالعادة نرجع للغة أولا لنلقي الضوء على المفهوم من دالته الأستعمالية لنصل إلى دالته القصدية (فاطِر (اسم) فاعل من فَطَرَ وفَطَرَ (فعل) فطَرَ يَفطُر، فَطْرًا، فهو فاطِر، والمفعول مَفْطور، فطَر الصَّائمُ أي أكل وشرب، قطع صيامه بتناول الطعام ونحوه، تَفَطّرَ تصدَّعَ {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ}، والفطرة هي الصفة الأساسية التكوينية التي يتصف بها كل موجود في أول زمان خلقته قبل أن يتحرك أو تأت عليه تأثيرات خارجية فتغير من طبيعته أو شكله أو جوهر حركته)، إذا الفطر له ثلاثة دلالات من معنى واحد، الأول هو التصدع وبداية ظهور التشقق دون أن يصل إلى معنى الشق أو الفتق كاملا، فتصدع الجدار وتفطره قد يكون خارجيا وقد لا يكون تاما بمعنى الإنشقاق، الدلالة الثانية هو كسر حالة غير طبيعية للعودة للخالة الطبيعية فالصيام هي حالة مؤقتة تنتهي وتكسر بتناول الأكل والشرب الذي هو أفطار والعودة للحالة الطبيعية، أما الدلالة الثالثة وهي مشتقة من الفطرة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، فالله فاطر السموات تحتوي الدلالات الثلاثة معا، الأولى هو يأمرهن بالتهيؤ للفتق فيتصدعن ويتفطرن من خشية الله، فكل مخلوق عندما يخاطبه الله فإنه يخشع من خشية الله ويتصدع أو يكاد { لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، فالفطر هنا هو وصول السماوات والأرض إلى مرحلة التصدع فتظهر أثار هذا التصدع فطورا عليهن، أما المغنى الثاني فإن الله عندما خلق السموات والأرض بقين ساكنات ينتظرن أمر الله للعمل { ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}، فقد أفطرهن من الحالة الأستثنائية الساكنة الواقفة إلى حالة الأستجابة والحركة بقوله { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}، قبل مجيئهن كانتا في حالة صيام وقد أفطرهن الله الفاطر، وبنفس المعنى الثالث أو الدلالة الثالثة أخرج الله السموات والأرض من الحالة الأولى التي هي فطرتهن الأولى إلى حالة التغيير والتبديل في الحركة والوجود بناء على أمر الله، أو جعلهن يتحركن وفق الفطرة التكوينية والتكيفية التي أبتدعهما الله بها، فالله فاطر السموات والأرض هو إدخالهن من حالة القوة إلى حالة الفعل { قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَىٰ ذَٰلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ}.