في معنى السياق التأريخي. ح1


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 8292 - 2025 / 3 / 25 - 22:41
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

السياق التاريخي يشير إلى الظروف والبيئة الزمنية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي وقعت فيها أحداث أو تطورت فيها أفكار أو كتبت فيها نصوص أو ظهرت فيها ظواهر معينة، بمعنى آخر هو الإطار الذي يضع الحدث أو الفكرة في سياقها لفهمها بشكل أعمق، وعلى سبيل المثال عندما ندرس خطابًا سياسيًا، فإن السياق التاريخي يشمل الأحداث السياسية والاجتماعية التي كانت جارية وقت إلقاء الخطاب وأثرها ومباعثها التي تضمنها هذا الخطاب لغة وشكل ومضمون وحتى مفردة كلامية تعبر عن ثقافة أو هو صورة إنعكاسية يمثل جهة الخطاب على الأقل وأيضا يمثل كيفية فهم المتلقي لهذا الخطاب، أو مثلا عند تحليل عمل أدبي من القرن التاسع عشر، يشمل السياق الظروف الثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي أثرت في الكاتب والجمهور في ذلك الوقت مما أنتجت شكلا وماهية لهذا الأدب فالخطاب أبن عصره وإلا عد مغتربا وغريبا ولا يمثل حقيقة الهصر والمجتمع معا.
إذا فهم السياق التاريخي يساعد في تفسير الأحداث أو النصوص بشكل أكثر دقة ونقصد به (ألية تحديد الظروف التي أنتجت الأحداث الواردة بالنص، أو الظروف التي أفرزت النص، أو تحديد الأحداث الكبرى التي تندرج ضمنها الأحداث الواردة في النص)، لأن في ذلك ما يوضح العوامل التي أثرت عليها وكيفية تفاعلها مع عصرها، فالسياق من حيث هو تعبير حقيقي عن علاقة النص بالتأريخ بالمعطيات والتفاعلات التي تبرره، إلا إنه يختلف تمام عن الإطار التأريخي الذي هو المحيط الزمني الذي أستوعب ولادة السياق أو ساهم في تشكيله على النحو الذي ظهر فيه، إذا الفرق واضح بينهما كما سنبين في التطبيقات أذ يختلفان من حيث المدلول والدور الذي يلعبه في صياغة الفكرة ونشرها أو تداولها بين معارف المجتمع، فما هو السياق التاريخي إذا؟ وما هو الاطار التاريخي؟ لتحديده السياق يجب عليك التدقيق في الحدث موضوع الوثيقة (نص، حدث) وربطهما معا من خلال تفاعل دور الزمن في المحتوى النصي من المقدمات حتى النتائج، اذ أن السياق التاريخي لا يكون مرتبطا بالنص فقط لذا على الباحث أن يحدد الحدث المعني بدقة مع تحديد مسبباته و نتائجه.
أما الاطار التاريخي للنص فيقصد به تأطير النص في الزمن الحدوثي لا الزمن الإقرائي، أي تحديد الفترة الزمنية التي يتناولها النص بحيث يعطي للباحث أو القارئ الخلفية الواقعية لصورة الزمن، مثلا عندما ندرس حدثين الأول هو صلح الحديبية بين محمد ص والمسلمين من جهة وبين قريش وحلفائها من جهة، هنا يكون الزمن التاريخي يلعب دورا في تحديد سياق الخطاب المتبادل من التعابير اللغوية بلحاظ عاملين مهمين "صياغة بدون الصلح" و "ميزان القوى بين الطرفين"، أي بشكل واضح الزمن الذي حدث فيه صلح الحديبية كان متوازن في كل شيء بين الطرفين ولعل هذا ما أثر على صياغة بنود الصلح، ولكن نفس المحاولة حدثت مرة أخرى وبنفس الأطراف عندما أعتدت قريش أو حلفائها بعد فترة زمنية قصيرة على حلفاء النبي محمد ص وقد تبدل ميزان القوة لصالحه، فلم يقبل الرسول ص أي محاولة للعودة للصلح ومضى في قرار فتح مكة وما جرى قبلها وبعدها، فكان الخطاب هنا خطاب منتصر وقادر على التعبير عن نفسه بقوة، وليس خطاب يفيد القبول بالواقع على مضض كما هو في صلح الحديبة، إذا الإطار التاريخي عندما يتغير تتغير معه سياقات الخطاب مضمونا وأداء وماهية.
كما نلاحظ أثر السياق التأريخي في فهم النص القرآني منظورا إليه من الخاص والعام ومما يتصل به مما يعرف عند البعض بسياق الحال، وسياق الحال هنا الزمني وليس الحال الموضوعي فقط، فمن خلال معرفة ما يسمى بأسباب النزول أي الظروف والوقائع الملابسات لنزول النصّ القرآني، فالسبب متعلق أساسا بحاله موضوعي له مكان وزمن قبل أن يكون وصفا تبريريا، إذ معرفة أسباب النزول من الناحية التأريخية تساعد بمعرفتها من دلالتها كسياق تأريخي خاص أو عام وعلى فهم معاني الآيات بسياقها المطلوب، وتؤثر في تعميم الدلالات أو تخصيصها فقد يكون اللفظ عاماً، لكن سبب النزول يفيد تخصيصه نظرا لأرتباطه بحادث أو حدث مرهون بزمانه فيزول كثير من الإشكال في فهم النصوص، ومثال ذلك ما أشكل على البعض في فهم المراد من قوله تعالى في سورة آل عمران ﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، فظنّ أنّ العذاب يشمل الجميع، فتبيّن له أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي ص عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فالحدث ألقى بضلاله على فهم النص من خلال السياق التأريخي لوقوعه.
نستخلص مما تقدم أن معنى السياق التأريخي بشكل عام هو (الأحداث المؤثرة، والأسباب والدوافع وراء ظهور النص، والأرضيات الثقافية واللغوية مع ما ظهر بها في ظروف تاريخية معينة، واهتمت بقضايا وأمور خاصة في إطار ثقافي معين، على شكل أقوال أو كتابات)، ومن هذا فالباحث المهني المحترف عندما يدرس نصا ما لا بد أن يستحضر أولا السياق التأريخي له قبل أن يفككه وفقا للسياقات الأخرى ومنها السياق اللغوب، فاللغة تأريخيا هي مرأة العصر، والسياق النفسي والأجتماعي يتبدل ويتغير تبعا لتطورات الواقع الأجتماعي التأريخي، ففصل التأريخ عن النص هو فصل الروح عن الجسد، واشتراط قراءة النص بسياقه التاريخي الحقيقي يعني أن من يقوم بعملية القراءة قد يحصل على فهم أخر للنص يختلف عن الفهم الذي يحصل عليه فما لو قرأ النص في سياقه التاريخي، وبالتالي مع عدم الالتفات إلى السياق التاريخي والثقافي الذي ظهر فيه النص سيؤدي ذلك إلى الإرباك في فهم النص وتدبره وفقا لحقيقة ما كان عليه أصلا في حدي الزمان والمكان.