رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 8115 - 2024 / 9 / 29 - 20:14
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

الرسل هم كل مخلوق مكلف من الله بأن يحمل رسالة في الوجود واجب إبلاغها بما فيها، وليس شرطا أن تكون الرسالة بمعنى محدد فالشياطين أيضا رسل الله {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}، فالملائكة رسل الله وهذا ما لا خلاف عليه فهم من يحمل أوامر الله وفي الغالب هم من ينفذ تلك الأوامر { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}، فكثيرا ما ورد فين صوص القرآن عن الأعمال التنفيذية للملائكة بناء على ما يوحي إليهم ربهم {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، لهذه النقطة لا خلاف في الوصف والدلالة والمعنى عن الملائكة، ولكن ما يثير الأسئلة أن يلحق بالوصف المعنوي وصف شكلي أخر {أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ}، قد نفهم ونقبل أن يكون الكائن الملائكي مثل الطير ذو جناحين أو أربعة بأعتبار قوانين الحركة والتوازن، أما أن يكون للطائر ثلاثة أجنحة فهذا مالا يوافق المنطق العقلي ولا حتى قوانين الوجود، ولا يتفق حتى مع إرادة الله التي لا ينكن أن يخرق فيها ما وضع من سنن وقوانين للوجود، إذا كيف نفهم كلام الله بوجود لفظة {أولي} وهذه إشارة دلاليه مهمة قد تغير المعنى كليا، {أولي} لا تعني ذات لأنها جمع أي ليس الملائكة ذات أجنحة ولم يرد في القرآن هذا المعنى، فأولي وأولات للجمع ولا تستخدم للمفرد { وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ }، أما ذات فتستخدم للمفرد { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } ففي اللغة والقرآن تعني كلمة أولي (أُولَى (اسم) الجمع فيه أُولَى أُولاءِ، أُولئِكَ، الأُولَى مؤنث الأول والجمع فيها الأُوَل، وجمع المؤنث السالم أولات على وزن فعلات، أَولَى (فعل) أولى يُولي، أوْلِ، إيلاءً، فهو مُولٍ، والمفعول مولًى، أوْلاَهُ ثِقَتَهُ أي مَنَحَهُ إيَّاهَا وَضَعَهَا فِيهِ، أولو (اسم) مؤنث وأولات جمع لا مفرد له من لفظه، بمعنى: أصحاب، يلزم الإضافة إلى اسم ظاهر ويعرب بالواو رفعًا وبالياء نصبًا وجرًّا (تُرسم بالواو الأولى ولا تُنطق) وهو الغالب في المعنى الأخير صاحب أو ذو).
نأتي للكلمة الأخرى وهي { أَجۡنِحَةٖ} والتي هي مصدر الشك في التوصيف، فالجناح وإن دأبت العرب على أستخدامه لوصف الأطراف العلوية للطائر، لكن هذا ليس هو المعنى الأساسي وإنما هو من مصاديق المعنى، فالجناح عادة هو الميل أو التوجه نحو شيء ما أوما يجنح له البشر من قول أو فعل أو رأي أو تصرف وسلوك { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ، وأيضا { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم}، أما في القاموس فالمعنى مطابق لما جاء في القرآن (جَنَحَ [ج ن ح] (فعل: ثلاثي لازم، متعد بحرف). جَنَحْتُ، أَجْنَحُ، اِجْنَحْ، مصدر جُنُوحٌ، أما أَجْنَحَ [ج ن ح]. (فعل: رباعي لازم متعد بحرف). أَجْنَحْتُ، أُجْنِحُ، أَجْنِحْ، مصدر إِجْنَاحٌ، أجْنَحَ إِلَى فِعْلِ الخَيْرِ مَالَ، وجَنَاحٌ مثنى جَناحان، والجمع أجْنِحَةٌ، ما يطير به الطائر، وأيضا الجناح هو العضد أو الإبط، والجانب فجناح البيت جانبه)، فالمعنى الأساسي هو الميل أو الطرف أو التوجه، وسمي طرف الطير جناح لأنه يميل به ويتوجه في طيرانه إلى الجنحة أو الجهة التي يقصدها، وعندما يصف الملائكة أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع إنما يريد القول أنهم أصحاب توجهات ومهام عديدة منها ما هو مثنى ومنها ما هو أكثر بدليل قوله { يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ}، إذا فالملائكة ليس كل فرد منهم له أختصاص واحد يقف عليه ولا يتعداه، لذا نجد أن منهم من يشارك في القتال ومنهم من برسل الى اشخاص محددين كما حصل مع السيدة مريم ومه سيدنا إبراهيم وهم ذاتهم المسبحون الساجدون الحافين حول عرش ربك، وهم الذين يتلقون المؤمنين وهم في كل أمر الله قائمون {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، إذا وصف الملائكة بأولي الأجنحة لو أراد الله معنى الأطراف التي يطير بها الطير لقال ذات أجنحة كما قال ذات حمل { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}.