هل كان الصراع الأجتماعي والحضاري في العراق صراعا بين البداوة والمدنية

البعض من الكتاب الاجتماعيين ممن تأثروا بالأفكار الخلدونية والتي عززها عالم الأجتماع العراقي علي الوردي رحمه الله، بأن الصراع الحقيقي في العراق (أجتماعيا وتأريخيا) هو صراع المدنية والبداوة، وحتى الصراع الديني المذهبي في جزء كبير منه هو صراع ينحو نفس المنحى ولذات الأسباب.
الحقيقة قراءتي للتاريخ الأجتماعي والديني وما لمسته من قراءة الحضارة العراقية الرائدة وجوديا وتتبع مراحل التطور فيه كمجتمع وكحضارة ، أجد أن مظاهر البداوة لم تكن واضحة في تأثيراتها على الشخصية العراقية لا أجتماعيا ولا فكريا، المجتمع العراقي مجتمع زراعي في الغالب الأعم ويعتمد على الأستقرار والتجمع حول المياه ومصادرها في أغلب أقسامه ونواحيه، وبالتالي فالبداوة لا يمكنها أن تتغلب على التحضر الذي لا بد أن ينشأ أساسا من عنصري الأستقرار المجتمعي ووجود الزراعة كحرفة تؤمن هذا الأستقرار.
منذ تاريخ الأستقرار البؤري الأول في عصر ما قبل العبيد ونشوء القرى الأولى وبداية التحضر الملحوظ في حياة الإنسان العراقي، وظهور المجتمعات المنظمة والمستقرة والتي شكلت أولى الحضارات البشرية، كانت الزراعة العنوان الأول لها، وكانت المياه والري والزراعة النشاط الأهم الذي قامت عليه الحضارة، وكان الإنسان العراقي الممتد تأريخيا لليوم هو رجل الحضارة بمعناها الأجتماعي والفكري، وحتى أديان العراق الأولى أرتبطت بالأرض والماء والمطر والريح والشمس والقمر، ولم ترتبط بالصحراء والتنقل والرعي.
الخلط بين البداوة وحياة القرية وأعتبارهما نشاطيين أقتصاديين أجتماعيين متقاربين بناء على عوامل سلوكية وعرفية لا يمكن القبول به على أن يكونا نشاط واحد يحمل نفس السمات الأجتماعية والحضارية، بأعتبارهما يقومان على أسس مشتركة مثل الربط القبلي والزعامة العشائرية وخضوع الفرد للمجموعة وأنصهار الشخصية الفردية بالأنا الكبرى الممثلة بأعراف القرية أوالعشيرة، كل هذا لا يبرر أن يطلق على صراع مرحلي تحولي من نمط أولي بسيط يمثل حياة القرية المحدود الى نمط حياة المدينة المتطور اكثر والمنفتح على أوسع في علاقات الفرد بالفرد والفرد بالجماعة.
حتى أن من يشير إلى أن موجات الهجرة من الجزيرة العربية للعراق وتغلب هذه الموجات على الواقع الأجتماعي العراقي، ينسون أن هذه الموجات لم تأت من البدو بقدر ما جاءت من مجتمعات حضرية معتمدة على النظام وتحمل أهداف أجتماعية وليست أهداف سلب وغزو فقط، وحتى أن كل هذه الموجات لم تستمر بشخصيتها بل أنصهرت وتماهت مع الحضارة العراقية وصارت جزء منها.
فالصراع الأجتماعي اليوم في المجتمع العراقي في حقيقته صراع سيكولوجيي أكثر منه صراع أجتماعي حضري أساسه عامل الدين والعقيدة التي يروج فيها جناحين محافظ تقليدي سلفي وأخر جناح معارض كليا وتفصيليا لمقولات الجناح الأخر، مما جعل العناصر المحافظة التقليدية المرتبطة بالتاريخ والتراث وقيم تراها تمثل جذورها النفسية تنخرط في دوامة صراع دامي وقاتل مع الجناح الأخر الذي يحاول هو الأخر أن يكسر هيمنة المدرسة المحافظة بمقولاتها ومنطلقاتها، ولو على حساب وحدة المجتمع ومحاولة فك الأشتباك بالحوار وأسس الصراع الفكري السلمي المنتج لقيم أكثر قابلية للتسامح والتألف والعمل المشترك.