نون والقلم وما يسطرون... من وحي المعنى...


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 8023 - 2024 / 6 / 29 - 02:49
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

منطق السلف عندما يقرأ هذا النص يخرج لنا بجمل إنشائية لا معنى لها ولا ترابط بينها سوى اللعب على وتر جمال اللغة، دون أن يقدم مضمون حقيقي أو يحاول فهم القرآن الكريم بالمقصد الجوهري من البناء النصي، مثلا هذا التفسير من كتاب التفسير الوسيط فيقول (الذي يتدبر هذه السورة الكريمة، يراها قد اشتملت على مقاصد من أبرزها: تحدى المشركين بهذا القرآن الكريم، والثناء على النبي صلى الله عليه وسلم بأفضل أنواع الثناء ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، والتسلية الجميلة له صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ، بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.)، إذا أين المعنى من المبنى؟ وماذا أراد الله أن يقول؟ وخاصة أنه أبتدأ بإشارة إلى حرف معين وربطه بالقلم وما بين القلم والنون نجد المراد فيما يسطرون.
هذا الأسلوب الإنشائي دائما ما يخفي وراءه عجز إدراكي منطقي، وعدم قدرة على فهم النص وربطه بالسياق القرآني العام عندما يتحدث عن إشارات حقيقية على المفسر أو المتدبر أن يفهما بحقيقة الربط والإشارة، النون ليس دواة الحبر كما فسرها البعض، ولا هو الحوت الذي ركب الله الدنيا على ظهره كما تقول الرواية عن أبن عباس وغيره، النون هو الحرف الأبجدي العربي بكامل ما يحمل من إشارة له حين يكتب المسطر بالقلم (أَمۡ عِندَهُمُ ٱلۡغَيۡبُ فَهُمۡ يَكۡتُبُونَ)، يعني الإشارة إلى الصورة الكتابية له تحديدا (أَمۡ لَكُمۡ كِتَٰبٞ فِيهِ تَدۡرُسُونَ)، مثلا نجد قوة وحضور النون في الرحمن من قبل أن يخلق الخلق ويكور الزمان، وفي الإنسان يصنع منه كيان في الشيطان تمام ما كان وكان، كل هذا لم يجري حينما ورد النون في المكان والزمان، في الأسماء الثلاثة الأولى حضر أو لم يحضر لا يتغير الجذر في المعنى لأنه ملحق فيصبح الرحمن رحم والإنسان إنس والشيطان يشطـ بينما في الاسمين الأخيرين يتلاشى المعنى وتختفي الصورة بأختفاء النون فيتحول الزمن إلى زم والمكان إلى مك، إذا هذا الحرف له سر في الأستخدام في المعاني الثلاثة فقط أو الأسماء الثلاثة فقط، الرحمن الذي علم الإنسان والإنسان الكادح الذي ملاقي ربه، والشيطان الذي كان لك عدو مبين من يوم النفخ الى يوم النفخ.
إذا ما علاقة النون في القلم وما يسطرون؟ هذا السؤال المفتاح الذي يقودنا للإجابة على الإشارة وما تعني، فلو جردنا الأسماء الثلاثة من النون نجد أن المتبقي ثلاثة أفعال جذور لثلاثة أسماء، كفعل وأسم هما أساس معادلات الوجود في الفعل، فالرحمن الذي سبق الوجود خلق الإنسان وعلمه البيان ومن قبل خلق الزمان والمكان ورتب الأمور بقانون الإحسان، ومن ثم خلق الشيطان من مارج من نار وخلق السماء والأرض وقال لها أئتيا طوعا أو كرها، فأتت طائعة مستجيبة دون رد أو أستفهام، وخلق من قبلهما الملأ الأعلى على ما خلق به ذات الوجود بقوة الإمكان، وقال لهم يأيها الملأ أني جاعل بشرا من طاء وياء وسأختمه بالنون، وأني ومما كتبت من قبل موجده وخالقه فقعوا له ساجدين، ولم يقل جاعل بشرا من الأرض مع أن الطين في الأرض والأرض أكبر من الطين، العلة لأنه أراد الإشارة للطين بالنون وما يسطرون، وقال أسجدوا له وكونوا له خاضعين، فسجد الملأ الأعلى إلا من كان مخلوقا من نون وألف وراء مختوم، فقد لهب اللظى وتوقد وقال محتجا أن عندي النون رأس الوجود والطين نونه وفي أسفل الموجود، ولا يستوي الأعلى والأسفل ولا الأول والأخير والنون نون التكوين، أنا الذي خلقته أولا وكنا من العابدين حتى جاء من لا يفقه من العبادة إلا بالتلقين، وخلقت هذا الذي لا يكاد يبين بعدي وأمرتني بما لا أطيق، فقال له أتعصي لي أمرا وانا الذي أعلم بالتكوين من كل العالمين ، قال كذلك سولت لي نفسي وأنا من المصرين، فقال أخرج منها إنك ملعو.....ن ورجيم، وقال للطين يا أيها المسكين أحذر من عدوك النار الذي عصى وغوى وطغى على أمر ربكما فهو غير أمين.
نعود للرحمن فهو بدون نون رحم والإنسان بدون النون أنس والشيطان شيط، فلو نظرنا إلى النون التي تخلصنا منها نجدها باقية في الأنس وهي لب الفعل وجوهره (قَالَ أَوۡسَطُهُمۡ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ لَوۡلَا تُسَبِّحُونَ)، فلو ذهبت للرحم تسبح صارت وهو والرحم رحمانا وفازت بالقرب والأقتراب، لكنها إن نزلت للشيط تحولت معه الفعل لشيطان وخسرت وخسر الشيطان (قَالُواْ يَٰوَيۡلَنَآ إِنَّا كُنَّا طَٰغِينَ)، لذا قال الله الرحمن كوني معي أكن معكم وإلي فأنتموا إن كنتم تريدون الفلاح والرحمة والإصلاح (وَإِنَّ لَكَ لَأَجۡرًا غَيۡرَ مَمۡنُونٖ)، فالخيار هنا خيار النون التي يسجلها القلم في الكتاب المسطور (ميم بعد ميم ثم نون)، فمال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها (فَلَمَّا رَأَوۡهَا قَالُوٓاْ إِنَّا لَضَآلُّونَ)، وكتبنا من قبل أن الجنة يرثها عبادي الصالح ون (إِنَّ لِلۡمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ)، ولا يدخلها من كان وليا للشيطان وكان من المفسدين (إِنَّ لَكُمۡ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ)، الفساد هو أن نون الإنس تذهب بالنفس إلى الجحيم وتطيع العدو المبين (وَأُمۡلِي لَهُمۡۚ إِنَّ كَيۡدِي مَتِينٌ)، (وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ) والله تذكر وأذكر وأعلم أنه هو الولي وهو المعين.
فالنون والقلم وما يسطرون الخلق من ما يفعلون كلها تتبع ما يختار الإنسان على ما يكون (مَآ أَنتَ بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ بِمَجۡنُونٖ)، فمن أرتقى للرحمة والنعمة صار بالرقي مرحوم (فَٱجۡتَبَٰهُ رَبُّهُۥ فَجَعَلَهُۥ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ)، ومن أستسفل للشيط وأهان النون كان من المحزنين (فَسَتُبۡصِرُ وَيُبۡصِرُونَ)، وماذا سيبصرون وقد سجل القلم ما يريدون بأيهم المفتون (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ)، فمن أرتقى أهتدى ومن ضل للشيطان فقد هوى وربك أعلم بالورى، فلا تك كصاحب النون (لَّوۡلَآ أَن تَدَٰرَكَهُۥ نِعۡمَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ لَنُبِذَ بِٱلۡعَرَآءِ وَهُوَ مَذۡمُومٞ)، ولا يغرنك عن ربك ما كانوا يصنعون وينحتون ويملكون (وَأُمۡلِي لَهُمۡۚ إِنَّ كَيۡدِي مَتِينٌ)، فقد كانوا ضالين ومضلين يتبعون كل أفاك أثيم ومن بعد ذلك عتل زنيم، وإن يكادوا فلا تكد (وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزۡلِقُونَكَ بِأَبۡصَٰرِهِمۡ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكۡرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُۥ لَمَجۡنُونٞ)، فتدبر ما جاءك من العلم من النون ومن القلم ومما كانوا يسطرون فنحن أعام بمن أهتدى وأعلم بالمبصرين.