فلسفة العقاب في القرآن


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 8022 - 2024 / 6 / 28 - 16:01
المحور: دراسات وابحاث قانونية     

من المفترض أن لفلسفة العقوبة في الإسلام منحى قيمي وأخلاقي و تربوي بأعتبارها عقوبة ردعية و ليس قمعية والهدف منها جبر الضرر متساويا معه ليحقق العدالة، لذا النص القرآني حين يتحدث عن العقوبة يشترط أولا وأخيرا التماثل النوعي (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)، هذا كقاعدة أساسية ومبدأ عام مع منح المتضرر حق أخر ولكنه حصري به فقط وهو العفو (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين )، وبذا تكون العقوبة لها وجهان وجه ردعي لحماية المجتمع من تمدد الإجرام ووجه شخصي يتمثل بحق المتضرر الخاص من حمل العقوبة ما دون المماثلة بعقوبة جزئية أو إسقاطها خاصة إذا كانت دون أثر كبير يكس قيم المجتمع الجمعية أو غير مقصودة بذاتها، لذا تميزت عن وسائل العقاب المعاصرة لها فلم تكن غاية ووسيلة بل هدفت أصلا لتحقيق غاية ووسيلة هي الإصلاح للفرد والمجتمع، جاء ذلك من خلال التشريع وكليات الفقه التشريعي الذي اختص به الشارع الأعظم سبحانه و تعالى.
تأريخيا بنيت فلسفة العقوبة على الحق الشخصي الذاتي، ويتم إنزاله بالطريقة التي يرى فيها المجني عليه أو ذوه الحق في القصاص، إذا لم يكن هناك حد بين الحق العام الذي هو حق جمعي يستند إلى حماية مصلحة المجموع إلا في وقت متأخر بهد أن تمأسست كيانا أجتماعية ظاهرة من الأسرة المنتظمة تحت رعاية كبير أو زعيم وصولا إلى أولى أشكال المجتمعات ذات السلطة المركزية، فقد عرف مفهوم العقاب وأهدافه تطوُّراً في القوانين الوضعية التي سنتها السلطات أو صارت من القواعد الأتفاقية التي تحتفظ بها السلطة لنفسها، ففي المجتمعات البدائية كان الفلسفة العقابية أساسها وهدفها الانتقام الفردي ثم مع التطوُّر المدني والحضاري للبشرية أصبح الانتقام جماعياً ومركزيا، وعندما أصبحت السلطة تستمد شرعيتها من الدين أصبح أساس العقاب هو التكفير عن ذنب أو خطيئة بحق الرب، فبعد أن كان العقاب جزاء جريمة أجتماعية في شرع الدين تحولت الجريمة إلى ذنب له عقوبة مزدوجة من الله ومن المجتمع بطريق مرسوم ومحدود من قبل.
ومع قيام الدُّول والامبراطوريات الكبرى وما تمثله من أنتظام جمعي وفق عقد أجتماعي معروف وقد يكون مدونا الهدف والغاية منه حماية هذه الدول والمجتمعات من خطر الجريمة، الذي يتعدى أثره الحدود الشخصية إلى المس بقواعد الأمان والسلام الأجتماعي، هنا دخل عنصر جديد في أساس فلسفة العقاب وتطور الدور الأجتماعي لها، فلم يعد إنزال العقاب بالمجرمين يقتصر على التكفير أو تحقيق العدالة، وإنما أصبحت له غاية سياسية هي صيانة الصالح العام والمحافظة على كيان الجماعة وتحول الأنتقام الفردي القديم إلى الانتقام الاجتماعي، أو ما يعرف بحق المجتمع في ضبط السلوك الفردي و
أثاره تحت مبدأ الحق الجمعي أعلى مرابة ويقدم على سائر الحقوق الأخرى.
تراوحت فلسفة العقوبة مع التطور المفاهيمي للقانون والشريعة من حق الى واجب واحيانا حق وواجب تبعا للفلسفة العامة الأكبر وهي فلسفة البناء الأجتماعي والقيمي للمجتمعات، لكنها بقيت في الغالب في حدودها المادية المباشرة، والتي تقع على الفاعل بشكل أساسي بأعتبارها وسيلة أنتقام مقابل شعور شخصي للمعاقب بأنه حقق العدالة حين أنزل الألم والأذى بالشخص أو المجموعة التي تسببت بأذاه الشخصي، لكن عندما تدخل الفهم الديني وأوجد حلا بقلل من تلك المادية المفرطة بالعقوبة من خلال وسائل غير مادية مباشرة، مثل الدية والتعويض المادي وبعض الوسائل التي تخفف من الأسى والألم النفسي التي أشارت لها الآية السابقة والتي عبر النص فيها على الصبر كطريق لمعالجة أزمة وخطأ أجتماعي، ومحاولة رأب الصدع من خلال ترك الأمر لله ليرى تدبيره في الشخص الجاني خاصة مع الشعور القوي بالذنب والذي يعد عقابا ذاتيا قد يكون تأثيره أشد من العقوبة المادية، فتح النص التشريعي باب العفو والتجاوز لعله يكون عامل إصلاح بدا ما يكون للعقوبة دور في تعميم الألم.
وقد استقرَّت الأنظمة العقابية الوضعية وخاصة التي رسمت الجريمة على أنها أعتداء على قيم المجتمع وتخريب لأطر العلاقات البينية داخله، وكيفت فهمها بالنسبة لمسوِّغات العقاب وأهدافه على مبدأي الرَّدع بنوعيه الخاص والعام، والدفاع الاجتماعي ضد الجريمة، مما أدى إلى تراجع مفهوم الجزاء من أجل الإيلام والانتقام الاجتماعي أو تحقيق العدالة، ليحل محلها مفهوم التدابير العلاجية والإصلاحية لتأهيل المجرمين وإعادتهم إلى حظيرة المجتمع كأفراد صالحين، وهذا المنهج قد جاءت به الكثير من الأديان ومنها الإسلام، وحتى عندما نعود لبغض القوانين والشرائع العراقية القديمة نرى الميل الواضح والأكيد نحو الإصلاح الأجتماعي بدل مفهوم القصاص.
تقوم فلسفة العقوبة في الإسلام على النقاط التالية:.
1. الردع الأستباقي لوقوع الجريمة من خلال تشريع قاعدة (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)، هذا الرادع التحذيري يكشف لأفراد المجتمع أن لا إفلات من العقوبة وتحت أي عذر، فإذا عوقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به بمعنى أنك ستلاقي نغس الفعل المؤلم والضار لو أرتكبته أو فكرت أن تفعله، هذا الرادع وسيلة أجتماعية مهمة في جعل الفرد يفكر كثيرا فبل الإقدام على الجريمة.
2. الجريمة بأي شكل من الأشكال هي فعل شخصي وعليه تكون العقوبة عنها شخصية أيضا ولا يجب أن يمتد أثرها لغيره بصورة مباشرة، إلا في حالة كون العقوبة من طبيعتها أن تلامس أشخاص أخرين لكن دون أن يكونوا بتماس مباشر مع العقوبة (ولا تزر وازرة وزر أخرى).
3. الفهم القرآني في كل مناحي عمله يستهدف الإصلاح وبمكن تسميته بالدين أو المنهج الإصلاحي في التعامل مع القضايا الوجودية ومنها قضايا انسان، هذا كمبدأ عام، فمتى ما توغر البدي الإصلاحي مقابل حل أخر يفترض أن يتقدم على ما سواه ومنها العقوبة، أولا لأن اله يرى في الإصلاح وإن كان رد على جريمة أو خطيئة فهو لا ينتقم ليزيد من خسارة المجتمع، لذا أسس الرد الشرعي على عقلانية وسلامة الحل (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).
4. التشجيع الدائم على حالة التجاوز مقابل تعويض رباني عن ذلك بجزاء العفو (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ)، هذا التخفيف ليس فرديا بالنتيجة فهو يؤسس إلى مبدأ التسامح بأعتباره ما سينتج منه من أثار أجتماعية مهمة.
5. وأخيرا لا يمكن فرض عقوبة تخالف نوع الجريمة وكما هو حاصل الآن من إيقاع عقوبة الإعدام "القتل" مقابل جرائم لم ينتج عنها القتل لا بالمباشر ولا بالأحتمال الغالب، فبعض القوانين تشرع الإعدام على جريمة تناول المخدرات، از الإعدام للشارق، الحقيقة هذا الأمر لا يرد في أسس وفلسفة العقاب في القرآن، ما عدا القتل لا يجوز إيقاع عقوبة القتل مقابلها بأي حال من الأحوال إلا إذا كانت من ضمن جرائم الفساد الذي يؤدي إلى القتل (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)، الحق هنا تعبيرا عن العدل الذي يساوي بين الجريمة والعقوبة في المقدار والنوع (السن بالسن والعين بالعين والجروح قصاص)...
إن ما جاءت به فلسفة العقوبة في النصوص الإسلامية الواضحة والبينة وبالرغم من كل ذلك، إلا أن عمليات الأنتقام والتجاوز على النص الحكمي الملزم وتجاوز على مصلحة المجتمع، نرى في كثيرا من الأحيان وفي المجتمعات الإسلامية التي تصرح بأن الإسلام دين الدولة وأن القرأن مصدر أو أحد مصادر التشريع، نجدها مليئة بما يخالف الفهم الإسلامي للعقوبة والتي تأتي غالبا بعقوبة الإعدام "القتل" حتى في القضايا التي يمكن أن يوضع لها عقاب مناسب، ان التراجع للخلف بالعقوبة وفرضها بقساوة وبسعة يعكس الرغبة لفرض السلطان الفردي او الجماعي مقابل الإصلاح والتسامح، ويمثل وهن مشاعر الحاكم بالجانب الانساني والابتعاد عما وصل اليه العلم المجتمعي ...وهذا البون الشاسع بين ثقافة الحاكم وعقوبة الاعدام أو قطع الاعضاء وبين مبادئ الرقي الانساني والعودة بالعقوبة لبدائيتها غير الانسانية يتنافى واهم اهداف العقوبة بالإصلاح...ويظهر ان القصد منها فرض التخويف بالسلطة باستغلال غاشم لقوة القانون...وعن ضعف وعي القضاء بالجانب الانساني عند تطبيقها بشكل مفرط وعدم الاخذ بتفريد العقاب في قضائه...