مذكرات ما قبل إعلان الجنون


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 8000 - 2024 / 6 / 6 - 10:04
المحور: الادب والفن     

وأخيرا قررت....
سأتمم بعد أيام عامي الخامس والستين من رحلة الميلاد لمحطة اللحد... شيء رائع جدا أن تقضي هذه السنين الطويلة وأنت ما زلت كما أنت بعقل وبنظر سليم وبروح متفائلة.
علي أن أتخذ قراري بإحالة نفسي على التقاعد أسوة ببقية البشر فهذا حق طبيعي وشرعي وعقلاني ومنصوص عليه بلائحة حقوق الإنسان.
سأدعو كل أصدقائي لحفلة صغيرة ربما في ناد أو منتجع سياحي وستتكفل الدولة بأعتباري مواطن محترم دفع التكاليف البسيطة من ميزانية وزارة السعادة ورعاية المواطنين.
فكرت هل من الممكن أن أدعو رئيس الحكومة للإحتفال؟... ربما تكون مشاغله تحرجه فلا يحضر... لذا قررت أن أدعو المحافظ تقديرا للظروف وأختصارا للوقت...
كانت المشكلة التي بدأت تظهر أمامي هي كيف سأدعو صديقاتي المحترمات وبالأخص أنا حريص جدا أن تكون زوجتي هي راعية الحفل ومديرته...
قد تتفهم الأمر فأنا رجل محبوب ولا نية سوء عندي مع الناس... ربما ممكن أن نتجاوز هذا الإشكال...
أيضا هناك مشكلة قد ينفعل أزواج وأبناء وأشقاء صديقاتي عندما يحضرن الحفل.....
وتأخذهم الظنون السيئة حيث يوجد الشيطان... عندها لا تحمد العواقب....
قررت أخيرا أن لا أدعو السيدات المحترمات التي كانوا على قائمة المدعوون التي أعددتها منذ أشهر وأكتفي بالمعارف والأقرباء رجالا ونساء....
هذا حل سليم...
أنا الآن جاهز من الناحية العامة لعيد إحالتي على التقاعد....
الآن سأذهب إلى دائرة البلدية لتقديم طلب إقامة الحفل ومحاولة الحصول على دعم منها... هذا الأمر واجب عليها حسب القانون...
كتب الموظف المختص على طلبي وهو ينظر لي كمن ينظر لمجنون أو معتوه... أذهب للصندوق وأدفع رسم الطابع وعد إلي....
سمعت كلاما بعد أن غادرت الكوة التي يكلم الناس منها... الله يخلق ومحمد يبتلي.... بالتأكيد الرجل لا يقصدني فهو محترم وهذه الألفاظ لا يمكن أن تخرج من موظف مهنته خدمة المواطنين...
بعد أكثر من نصف ساعة على كوة الجابي "أمين الصندوق" نجحت بدفع الرسم القانوني وخرجت من الطابور أشبه بمن غرق في بحر من ماء الملح نتيجة الحر والتدافع...
لا يهم أني مقبل على مرحلة التكريم التي ستبدأ معها حياة أخرى... حياة التمتع بالراحة والاطمئنان بعد أن قطعت خمس وأربعون عاما من العمل والعمل المتواصل بلا كلل ولا ملل.
عدت للرجل الأول الذي كتب كلمة واحدة على طلبي وأمرني بأن أذهب لشعبة الواردة ومنها لشؤون المواطنين...
حتى تصل لشعبة الواردة وتختم الكتاب بالدمغة القانونية عليك أن تتحمل ما سبق وأن تحملته أمام كوة الدفع....
أكثر من ساعة حتى سلمت الطلب إلى السيد الفاضل مسؤول شؤون المواطنين الذي طلب رقم هاتفي الشخصي للإتصال بي حين يعرض الأمر على الجهات العليا...
سجل رقم هاتفي وشكرته بكل أدب وأحترام لأنه يعمل من أجل خدمة المواطنين ويرعاهم ولا يكلفهم بالمراجعة ويتعبهم... سيتصل بي ويخبرني وأنا في بيتي... شكرا لدولتنا الكريمة على هذا الأسلوب الراقي من رعاية المواطنين...
وأخيرا عدت لبيتي مرفوع الرأس وأنا أشعر بالرضا على مستوى الخدمات التي تقدمها الدولة لي ولأمثالي من الذين خدموا البلد والمواطنين بإخلاص وأنفقوا كل العمر من أجلهم...
أحيانا لا تمر الأمور بسلاسة تماما، لا بد من أن نواجه بعض المنغصات البسيطة هنا وهناك.... لقد كانت زوجتي منفعلة جدا فقد تركت البيت دون أن أخبرها وأن الرجل الذي يزود البيت بالكهرباء قد قطع عنا الخدمة منذ مساء الأمس بسبب عدم الدفع.... أه لقد نسيت معتذرا... لم أدعها تنفعل أكثر وقررت الذهاب من فوري لدفع المستحق... فعلا كان جو البيت شديد الحرارة لا يطاق خاصة وأنا أسكن في بيت مبني من البلوك الذي فيه ميزة أنه لا يصلح للبناء السكني فهو يعكس الحرارة ويزيد من الإحساس بها.... المهم الحمد لله فقد حصلت على سكن في أخر المطاف ولو بمواصفات لا تليق بمواطن دولته من أغنى دول العالم... لكن لا بأس القناعة كنز لا يفنى...
عدت سريعا وأنا اجاهد كي لا أسقط مغشيا علي من حرارة الجو وذهبت مسرعا للحمام كي أنال شيئا من الرطوبة لأبرد جسمي من أثار الغبار والتعرق والرائحة التي تنبعث قويا من جسدي...
أخبرتني سيدة البيت أن الماء منذ أول الأمس لم يصل ولا يوجد ماء يكفي للأستحمام... فقط ما مقداره إبريق أو أثنين يمكنني أن أستعملهما لحين أن تعود المياه لمجاريها..... كنت حريص جدا على أن أستخدم هذه الكمية القليلة بأتقان كي أستحم بها جيدا....
أخيرا... شعرت بالراحة وأنا أجلس كسلطان قديم على أريكته والمروحة المعلقة توزع الهواء بالتساوي على الجميع... لا يمكن تشغيل المكيف على ما يزودنا به بائع الكهرباء "أبو المولدة"، ولا يمكن تشغيل المبردة لعدم وجود الماء أصلا.... كانت زوجتي منفعلة جدا خاصة وأن الأحفاد لا يتحملون الحرارة مثلي ويشعرون بالضيق...كانت تلقي اللوم على خدمات الحكومة والبلدية التي لم تكلف نفسها مرة أن تمر بزقاقنا وتحمل الأزبال من الشارع... ولا مرة واحدة منذ أن سكنا هنا...
يا عزيزتي لا بد أن نتعاون مع الحكومة فليس عليها ذنب فهي منشغلة من جميع النواحي بخدمة المواطنين مع أن إمكانياتها محدودة....
علينا أن نكون إيجابيين وأن نخدم أنفسنا بأنفسنا....
قالت إذا أين سنرمي هذه الأوساخ المتجمعة في كل مكان وقد بدأت الناس ترميها في مجرى النهر ومنها تنبعث الروائح الكريهة... أخبرتها أني غدا سأذهب مرة أخرى للبلدية وتقديم طلب لشمولنا بخدماتها بأعتبارنا مواطنين من الدرجة الأولى.... ضحكت زوجتي على كلمة مواطنين من الدرجة الأولى ....
أعذرها فهي ليست مثلي درست القانون والحقوق فقد تجهل معنى أن تكون مواطن في دولة القانون والمؤسسات.
فجأة وبدون سابق إنذار أنقطعت الكهرباء المستجرة من مولدة الشارع.. أنتظرنا دقائق حتى مر وقت ليس بالقصير... أتصلت بالرجل مستفسرا عن سبب أنقطاع الكهرباء....
قال الرجل أولا أنا لا أستطيع أن أزودكم بالكهرباء طول النهار والليل فالتيار الوطني لم يعمل منذ ساعات كذلك الدولة لم تزودنا بالكمية الكافية من الوقود لذا مضطرا للشراء بالسعر التجاري... ما عليكم سوى الذهاب للحكومة والتشكي عندها....
كلام معقول.... غدا سأذهب لمكتب المحافظ وأقدم شكوى على الحال... قد لا يعلم الرجل بما يدور هنا ... بالتأكيد سيأمر فورا بمعالجة القضية جذريا....
حاولت كثيرا أن أكون إيجابيا في تعاملي مع الواقع، وأن أكون مثاليا ومواطن صالح لعلي أصوب للأخرين وجهتهم... لكن ما يحزن فعلا أن أحلامنا وأمانينا تقول ليس هنا وطن حقيقي لمثلي وأمثالي.... هذا وطن يعيش فيه كما يحلو له المواطن المحتال ... المجرم.... الكذاب .... الوصولي... الأنتهازي ... المنافق ... وطن مسمم بأجوائه يقتل الشرف ويقتل الأحترام ويقضي على الكرامة... السبب لأن من يتولى شؤونه يفتقد لأبسط حدود الشرف والكرامة والإنسانية والصدق... وعلينا أن لا نتوقع أن نرى الدولة تخدم المواطن والشعب... بل على المواطن والشعب أن يخدموا الفاسدين وعديمي الشرف والكرامة وأن يرموا أزبالهم في النهر وأن يدفعوا أموالهم لقاء لا خدمات ولا أمل بأدنى مستوى معاشي...
كانت زوجتي محقة حينما قالت أحتفل هناك في القبر عندما تخلص من هذه الحياة المتعبة... فقد وزع الله لنا الشقاء في الحياة والراحة عند القبر حسب ما سمعت من احد رجال الدين....
قالت هذا الرجل الذي سمعته عرفت أنه متزوج من أربع نساء غير ما ملكت أيمانه ولديه بيت في وسط المدينة جميل وواسع وتأت الدولة يوميا ترفع منه الأزبال خمسة وعشرين ساعة في اليوم وأنه غير مشمول بالقطع المبرمج، ويتقاضى راتب كبير جدا من الدولة لقاء خدمته الجهادية عندما كان مهاجرا في دول الكفار يعلم الكفرة أصول الدين وفروعه...
أخر عمل قمت به مزقت أوراق مشروع الحفل ونزعت ملابس كاملة وبدأت الطم على أنغام صوت باسم الكربلائي... ما كو ولي إلا علي ونريد قائد جعفري.... وهيات هيات هيهات منا الذلة وليخسأ الخاسئون.
بن علي