تاريخ الخرافة ح 32


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7999 - 2024 / 6 / 5 - 00:52
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

2. الجن والشياطين
الجن وعالم اللا مرئيات من الكائنات الحية أو من المفترض أن تكون كذلك عالم يدور بين الحقيقة المبررة وبين الإنكار الحسي لها من البعض، فهذا العالم مثله مثل الكثير من اللا متفق عليه بين معقولية وجود وشبهة التوهم والتخيل، الجن يشكل جزء مهم من الفكر الديني عموما والفكر التراثي المبني على تساليم الفكرة القديمة التي تقوم على أن الوجود ظاهر وخفي، الوجود المحسوس ماديا والمحسوس معنويا بناء على طبيعة وتركيب وتكييف والوظيفة لكل شي في هذا الوجود، ومع ذلك نجد أن من ينطر وجود الجن كما ينكر وجود كائنات أخرى من قبيل الشياطين والملائكة.
بالعودة إلى عمق التأريخ ربما السجل والمدون منه يظهر لنا أن موضوع الجن والأرواح المشاركة للبشر ما هي إلا جزء من تكوين عقلي ربما له أصول فطرية أو ربما يتعلق بثقافة ومعرفة فكر الأنسان الأول بمحدوديته التي لم تسعفه كثيرا فأخترع أو عبر أو فسر وجوده المعلوم والمجهول بطريقة تعبيرية أنتجت نوعا من الوجود الخفي، هذا الوجود إليه يرجع تفسير الكثير من الأفكار والآراء وحتى المعتقدات التي تطورت بأتجاهات عدة، أبرزها الدين والملحمة والأسطورة التكوينية التي تتحدث عن عالم قديم، عالم الولادات والتكوينات الأولى على مستوى البشر أو شركاءه على الأرض.
تبدأ الفكرة التأريخية ربما أعمق من المتداول من أن فكرة الجن هي منشأها تفسير وجود كائنات نصف بشرية تتميز بالخارقية الغير أعتيادية، وربما لها خصائص تتعدى أو تتجاوز ما هو بشري طبيعي، والسبب يعود لأنها مكونة من هجين منتخب بين سلالات بشرية تناكحت وتناسلت مع كائنات ذات قدرات غير طبيعية من الملائكة أو حتى من الآلهة، نتج عنها ما يعرف بأنصاف الآلهة أو الآلهة البشرية التي تحظى بالأحترام والتقديس، في رأي الشخصي لا يمكن أعتماد هذه النظرية يشكل كامل مقطوعة وهي من جذورها، التي تعني أن الإنسان القديم كان لديه تصور أسبق من هذا التفكير حتى يمكنه تأليف أو تكوين مثل هذه الأفكار، فلا بد إذا من وجود عالم أخر موازي أو أقدم منه كان يشكل جزء حقيقي من معرفته حتى يمكن نسبة المعلوم للمعلوم فقط.
يقول شوقي عبد الحكيم في كتابه المشهور (مدخل لدراسة الفولكلور والأساطير العربية) الصادر عن مؤسسة هنداوي 2017 في الفصل السابع منه، أن أول الإشارات المرصودة من خلال التاريخ المقرئ تعود لنصوص عراقية سومرية تحديدا تتكلم عن (أن الكشوف السومرية العراقية الأكثر قدمًا من الآرية — بداية الألف الرابعة ق.م — جاءت فأجلت الكثير من الغموض، من ذلك مثلًا ما جاء عن العفريتة الشيطانة «ميليث» التي تسكن الخرابات والأماكن المهجورة، وهي الفكرة المتواترة اليوم عن سكنى العفاريت الخرابات، وهو ما كشفه وأوضحه نص القصيد السومري المعنوي «جلجاميش وأنكيدو والعالم الآخر»، أو «جلجاميش وشجرة الصفصافة»)، إذا الموضوع فيما يتعلق بوجود كائنات أخرى من غير البشر جزء من الثقافة القديمة خاصة تلك المؤسسة للحضارة والأديان واللغة.
قضية الجن إذا موضوع أصيل من تكوينات الفكر الإنساني وربما يتصل أو له جذور مع أول ملامح التدين الفطري أو البدائي، عندما أمن الإنسان الأول بوجود قوتين تتصارعان لتحديد مصيره هو، هذا بالتأكيد سيشخص وجود قوة تتمتع بنفس مواصفات القوة العظمى التي أوجدته وسيطرت عليه تحاول أن تنازعه على المصير الوجودي، أي تنازع الرب للسيطرة على الإنسان تحديدا ومن ثم الوجود بشكل عام، فكلاهما له سلطة خفية وقوية وتتصل بعالم الغيب ولها مقدرة على الفعل الخارقي اللا محدود، من هنا برزن فكرة الله والشيطان الذي كان من نتائج صراعهما أن خرج آدم من الجنة في الفكر الديني اللاحق، وقبلها نجد الأثر هذا في أسطورة الخلق السومرية بكل تفاصيلها وصراع "إيبا" مع الرجل السمكة الأول "أدابا" أو آدم.
يتضح من هذا أن منابع الميثولوجيا القديمة تضرب بجذورها على مدى أكثر من ثمانية إلى تسعة آلاف عام، أي منذ أن غرف السومريين بوجود الآلهة وأشكالهم ووظائفهم ومساعديهم وما نسب لهم من تخصصات وأعمال، ومنهم أنتقلت فكرة وجود عالم فوقي وعالم سفلي أي عالم سماوي وعالم أرضي وأضافوا حسب الروايات والمدونات السومرية عالم ما تحت الأرض، وما فيها من كائنات تعيش وتنمو وتتحرك (فلقد كان للإله رب الأرباب في الميثولوجي السومري والأكادي والبابلي بنات ثلاث هن «إيرش كي جال» إلهة العوالم السفلى أو الجحيم وأخواتها الأنثيات «مام ناتو» و «عشتار» أو «عشتروت» وهي الأمهات الثلاث اللاتي عُرفن ﺑ «بنات الله الثلاث»)، فأصل فكرة وجود الجن مرتبط بفكرة وجود بنات الله ومساعديهن من الكائنات التي تستطيع العيش تحت الأرض لتنفيذ طلبات وأوامر وأحكام بنات الله، من هذا أرتبطت فكرة الجن أنهم سكان عالم ما تحت الأرض أو العالم السفلي، وارتبطت فكرة الموت والشر والأذى بهذا العالم لما كان يشكل العالم السفلي من عالم سوداوي متعلق بحياة الإنسان بعد الموت، هذا ما يبرر دفن الأموات في باطن الأرض تعبيرا وتفسيرا من أنتقال البشر من عالمهم الرئيسي الى العالم الثاني، عالم اللا عودة حيق يتولى سكان ذلك العالم من الجن والعفاريت حسابه وعقابه وجزاءه، وهذه الفكرة المثيولوجية تسللت من أساطر العراق القديمة إلى كل الأديان والعقائد اللاحقة.
وتركز الميثولوجيا السامية بشقها الديني والأسطوري بشكل مجمل على أن خطيئة إبليس الأولى تمثلت في استكباره للمادة التي خُلق منها وهي النار، على المادة التي خُلق منها آدم وهي الطين أو التراب، هذه أول شبهة أو خطيئة وقعت في الخليقة، بمعنى أن الحرب التي نشبت كونيا ووجوديا بين العالم الأخر اللا مرئي وبين عالم البشر، أبتدأ أول مرة بخطيئة "الله" حين جعل نوازع الحقد والكراهية بين إبليس وآدم، هذا المفهوم قد لا يكون معلن ولا أحد يصرح به لأنه يشكل تابو معقد ويمس أصل العقائد الدينية، ولكن من خلال دراسة المشهد التصويري لأبجديات الصراع الأول يمكننا أن نجد هذه النتيجة بوضوح، فلو لم يخلق الله آدم من طين ولم يجبر إبليس للسجود له لم يحدث كل هذا العداء والصراع، ولم يتسبب الأذى لبني آدم بسبب إصرار الرب على أمر فيه نوع من التحدي والإذلال لكائن أخر يمتلك الكثير من المفاتيح المعرفية والقوة، على العكس من آدم الذي يبدو بليدا وبحاجة لمن يرشده في كل طريق.
ويبدو أن الصراع كان ملتهبًا منذ الأزل أو على الأقل قبل أن يخلق الله الإنسان الحالي من آدم القديم، وهو صراع تكويني بالأساس على التشريف بين مادتي النار والطين، أو بين الملائكة والبشر إذ إن الله «خلق خلقًا — من الملائكة — وقال اسجدوا لآدم فسجدوا لأنهم ليسوا من صنف متنازع فلا هم طين ولا هم نار، ومعنى هذا أنه كان هناك اعتقاد أكيد عند إبليس الذي كان من الجن وليس من الملائكة عندما كانت الخلائق كلها تعيش مع الله في وجوده السابق، في أن «المادة المخلقة» التي صنع منها الجن أرفع منزلة من تلك التي صِنع منها آدم، على أن هذا الوضع كان مقبولا من الجميع، فلما أمر الله الملائكة أن تسجد لآدم لم يكن الأمر يعني إبليس، هنا لاحظ الرب أن الأخير لم يسجد فسأله معاتبا، فقال لا أسجد لمن خلقته من طين وأنا من نار والنار أشرف، لقد تحدى إبليس إرادة الله وبسبب هذا التحدي لم يعد هناك من مكان لإبليس في محفل الرب، عندها أعلن إبليس حربه على الطين والتي لم ولن تنتهي ما دام الأمر ماثلا في إصرار الله على سجود إبليس وإصرار إبليس على المنع والرفض.