في تدبر سورة الأعراف
عباس علي العلي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8053 - 2024 / 7 / 29 - 20:17
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
من تدبر السورة من أولها إلى أخرها يمكن أختزال معناها الكلي في آية وردت في بداياتها { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}، السؤال ليس بمعنى الأستفهام بل بمعنى الإجابة على أمر الله عما تم منه وما لم يتم، لأن حقيقة الجواب فيه يوم السؤال لا يمكن أن يخرج عن محددات الميزان في كفتيه "العدل والحق" {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، فمن ثقلت موازينه فهو في عداد الفائزين المرحومين الذي وجدوا ما وعدوا به على لسان أنبياء الله ورسله، ومن خاب وخسر فهم اللوامون الذين يجيبون أهل الأعراف بقولهم { حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ}، هذه المشهدية تبدأ من يوم أمر الله ملائكته أن يسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس فقد ضل عن الطاعة وأخذته العزة بالإثم وكان من الخاسرين، قصة الأعراف هي قصة الصراع بين من أطاع الله وبين من أطاع المغرور والحاكم بينهم الميزان.
لقد حملت السورة في قصديتها البعيدة من وراء السرد القصصي أو الحكمي التعليمي ثلاثة أهداف أساسية، هي ضمن نسق ما يتردد في القرآن الكريم غالبا من منهج عرضي أو تذكيري للناس في الألتفات أولا لمصيرهم البعيد، ثانيا التذكير بالإصلاح وعدم الفساد الذي يتمظهر ليس بالكفر والكذب وعدم الطاعة لله، فالفساد هو خروج عما هو طبيعي وأصولي وضروي ولا يحمل خيرا للناس وللوجود، لذا يمكننا أن نحدد رسائل الله لنا في هذه السورة بما يلي :.
1. أن الصراع بين الحق والباطل دائم ولن يتوقف ولن ينتهي إلا بالساعة، فالصراع هو محور البلاء والكاشف عن إيمان الناس وطبيعة تعاطيهم مع أمر الله، كما أمه ضروري لذلك فهو أحد قوانين الحركة ومصدر الحراك الدائم في توليد المعرفة والعلم وتطور عقل الإنسان ليكون قادرا على التجديد مع تجديد أدوات الصراع ومظاهر الفساد التي يبتكرها الشيطان ليضل الناس.
2. أن الباطل منهزم لا محالة ليس لأنه ضعيف ولكن لأنه طارئ على الوجود ولا يمكن أن يتوافق مع نظام قائم على المعادلات المتوازنة التي لا تقبل الخطأ ولا تنصاع له، لذا فكلما ظهر باطل في الأرض نتيجة فساد الإنسان خرج الحق مدافعا عن قيم الخلق ومعادلات الصنع الرباني كي لا تفسد الحياة وينتصر الشر، الباطل هو الشر والحق هو الخير.
3. أن السبب الأساسي لقيام الباطل وقوة أتباعه هو البعد عن الله بما يمثله من تخلي عن طريق الحق ومؤازرة الشيطان له، بمعنى أخر هو شيوع الإفساد والفساد بأشكاله المختلفة (الأخلاقي أو الاقتصادي أو الاجتماعي) وضرب كل العلاقات الرابطة بين الإنسان وأخية وبين الإنسان والوجود، لذل جاء أمر الله بالأبتعاد عن خطوات الشيطان وعدم مولاته كطريق أول وأساسي لمكافحة الباطل وهزيمته .
من هذا المنطلق تسرد لنا السورة قصص أهل القرى وتسرد ما جاء به أنبياءهم من دعوة لمحارية الباطل والفساد ومواجهتهم لأقوامهم، وبالرغم من أن هذه القصص قد ذكرت مرات عدة في القرآن، السؤال هنا فما الذي يميّزها هنا من حيث الإشارة النوعية لموقف أقوامهم منها؟ الجواب المؤكد إنها تخدم الغائية من نزول السورة الهدف منها في حسم الموقف من الصراع الذي تكلمنا عنه صراع الطاعة لأمر الله والخضوع له وبين إتباع الشيطان وسماعة والسير في صراطه، يتمثل هذا الهدف من تكرار قصص الأنبياء هنا من خلال:.
• دور الفساد في أشتداد الصراع بين الناس وليس بين الله والناس بإظهار أن عناصر المواجهة بين دور تنبيه الأنبياء لأقوامهم من ضرورة تجنب الفساد ومحاربة المفسدين كما يقال للمصلحة العامة، وبين دفع الشيطان وحرصه لتغرير الناس بعدم سماع الرسل وأتباعهم، وهي على العموم تفس الأفكار وبصياغات تتناسب مع نوع الفساد وأسلوب المواجهة، كل هذا لإثبات قدم ركيزة الصراع ومحتواه وتكراره مع تغيّر الأشخاص والأمم.
فمثلا كانت دعوة الأنبياء كلها واحدة {يَـٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱلله مَا لَكُم مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ} بأعتبار عدم العبادة هي أمنية الشيطان وهدفه الوجودي، كذلك {أُبَلّغُكُمْ رِسَـٰلـٰتِ رَبّى.} ورسالة الله كانت {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم}، وحتى في طرح الحجج والمبررات كان الخطاب موحد وقائم على ذات لهدف {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ..}، غي حين نرى جواب الكافرين واحد وكأنهم يستلمون الكلام من مصدر واحد {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ}، وقولهم {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ}.
• التركيز على نهاية الباطل وطيفية الإهلاك من خلال مصدر القوة الذي يتمتعون به على غير الأمم وتحت قاعدة "الجزاء من جنس العمل"، لقد كانت أدوات الطبيعة أداة التدمير والعلة التي كانوا يأمنوا لها نحصن لهم أو سر قوتهم صارت مصدر ضعفهم، فثمود مثلاً كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين فدعاهم أمنهم إلى الاستكبار على دين الله، فكان عقابهم الرجفة التي هدت وحطمت بيوتهم على رؤوسهم، هذه القاعدة تنطبق أيضاً على قوم لوط الذين أسرفوا في الشهوة الجنسية مما أدى بهم إلى مخالفة الفطرة الإنسانية والشذوذ، وبسبب ذلك الإسراف أنتشر الفساد بينهم ليحيلوا قومهم دار البوار لذلك كان جزاؤهم أن أمطرهم الله الحجارة.
لقد كان الفساد المنهي عنه من الرسل وفي دعواتهم وعدم الخضوع لأمر الله والإمهال الرباني لهم على أمل أن يصحح البعض من هذا الفساد، كان كل ذلك سببا بالطغيان والتجبر والعصيان على عرض المرسلين فهدف السورة هنا هو التحذير من الاستكبار بكل أشكاله وأنواعه على أمر الله، لأنه من أخطر أسباب الهلاك كما مر في قصص أهل القرى، { قَالَ ٱلْمَلاَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ} قد نراها تتكرر مع ثمود ومدين، كما نرى في أوائل السورة التركيز على عبارات مثل {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا وَٱسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا..} فلا يمكن أن تتكرر عبارة بحذافيرها في القرآن من دون أن يكون هناك معنى حاسم وضروري جدا ومهم جداً ينبهنا إليه ربنا سبحانه.
• الهدف الثالث والمرتبط بالهدفين السابقين وكنتيجة لهما هو موضوع النجاة للمصدقين المؤمنين ورسلهم الذين يتحسرون على ما فات من أقوامهم ومصير مخزي وعذاب مقيم { يَٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ ۚ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسْتَهْزِءُونَ}، فقد نجي الرسل ومن معهم كلهم مما أصاب أقوامهم { فَأَنجَيْنَـٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ}، { فَأَنجَيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُ}، أما بعدم أصابتهم أو إخراجهم قبل وقوع الغضب { لَنُخْرِجَنَّكَ يـٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَكَ}، ليخط الله لنا صورة عملية إيمانية تزرع في المؤمن الأمان مع الإيمان والنجاة مع التصديق { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضِ}، فالقاعدة الجزائية عند الله هب (إما إيمان وحسم للموقف واتباع للأنبياء، وإما بأس شديد وعذاب أليم من الله).
الغفلة والغافلون
أزعم بشكل يقيني وجازم أن السورة في جانب منها أرادت طرح فكرة الغفلة عند المؤمنين، الغفلة هو أي تصرف بشري طبيعي يصيب الإنسان نتيجة التداخل المكثف في إنشغالات عدة أو هموم متراكمة فينسى بغض الأشياء المهمة، ويتصرف على ضوء غير قصدي أنها لا تحضره بحقيقتها وقت الحدوث، لذا نبه الله هؤلاء لعلهم يتذكرون فيسقط الحجة من قولهم {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَـٰفِلِينَ}، فالغفلة هو من أساليب الشيطان المؤكدة { قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره}، فالنسيان في كل آيات الكتاب مصدر الغفلة والغفلة هي إرادته ومسعاه {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ٱلْجِنّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَٱلانْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ}، هنا النص يذم الغافلون ليس لأنهم غافلون عن الحق بل لأنهم لا يتذكرون ولا يتفقهون ولا يتبعون ما أوتي إليهم من ربهم، لذلك كانت من الوصايا المشددة من الله للناس هي "أذكر" التي ختم الله بها السورة { وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوّ وَٱلاْصَالِ وَلاَ تَكُنْ مّنَ ٱلْغَـٰفِلِينَ}.