تاريخ الخرافة ح 30


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7997 - 2024 / 6 / 3 - 21:36
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

صار اللغط والتشويش على السحر الحقيقي والذي كان علما خاصا ونخبويا وفوقيا أضافة الى كونه غيبي مطلق محل تشهير وادانة، بعد أن تعرض إلى جملة عوامل وأسباب نستطيع أن نذكر منها ما يلي:.
1. كثيرا من أصحاب السلطة ونتيجة لفشل أو خيبة السحرة الذين لم يستطيعوا أن يقدموا الحلول المرضية لهم، صاروا محل نقمة الملوك والسلاطين نتيجة رمي أسباب ونتائج الهزائم والفشل عليهم وحدهم.
2. أختلاط مفهوم السحر بمعارف وعلوم اخرى أدى إلى دخول عدد غفير من الأفراد إلى مجمع السحرة العلمي وتحويل هذا العلم الى سوق تنافسي بعيدا عن الأصوليات والأسس التي قام عليها.
3. شيوع النسخ والكتابة وأنتشارها بين الناس أصبحت أمهات المصادر وأسرار العلم متاحة ومباحة، وسرى التعلم السريع اللا نمطي واللا أصولي محل الحدود الصارمة والشروط الشديدة التي كانت تفرض من قبل على المشتغلين بالسحر ومتعلميه.
4. نزول بعض المشتغلين الطارئين على عالم السحر لمستويات أجتماعية دنيا، ومحاولة سد عجزهم العلمي والعملي بالكثير من السلوكيات التي تفتقر أما للجدية وأما للأصولية، تحول معها التوقير والتعظيم الذي كان يلاقيه السحرة في بادئ الأمر، وتحولت قصص الفشل والخذلان إلى طعن بالسحر وبالعاملين فيه.
5. محاربة بعض الأديان للسحر خاصة في أنواع محددة منه وأعتبارها من عمل الشيطان* ، ومزلق عملي يؤدي بالنهاية إلى إخراج مفهوم القوة والقدرة والتقدير والحكم لله أو للرب إلى التضعيف والتوهين وكأن الساحر قادر على التغلب على قوانين الله وإراداته.
6. وأخيرا لعب العلم الوضعي وتجاربه ونجاحاته ومناهجه وأصوله العملية دورا هاما في إنزواء السحر كعلم أساسي ومركزي في قائمة التصنيفات التي كانت معدة للعلول، مع ظهور علم الحيل (الفيزياء) والكيمياء التي أطاحت بفكر السحر القديمة القائمة على تحويل المعادن البخسة الى معادن ثمينة، كما أن تطور الطب والجراحة والصيدلة والبيطرة ساهمت هي الأخرى في إسقاط الكثير من مساند ونظريات السحر عن المرض والشفاء والعلاج وغيرها.
لم يسقط مقام السحر بصورة مفاجئة ولم يترك السحرة الأرض متاحة لغيرهم من المشعوذين والمحتالين والمهرة من أصحاب الخفة والغش والأحتيال، بل بقي السحر الأول ومناهجه وأصوله تتداول ولكن غي حدود ضيقة ومحصورة في نخبة المعرفة، فعلى مدار القرون التي تلت ذلك، خضعت تعريفات السحر للتنقيح والتطوير ومحاولة إخراجه من الرفوف العالية وإزالة اللا معقول واللا منطقي منه، وظهرت فئات عاملة جديدة لها منزلة أكثر أحتراما وهيبة عند الناس عندما سعى بعض رجال الدين المسيحيون والمسلمون واليهود والعلماء لفهم الجوانب المختلفة من السحر وتسخيراته، وحالوا بناء فهمً أفضل بدلًا من رفضها وإدانتها، وهذا ما أطلق عليه تطبيع السحر وإضفاء روح دينية عليه، إذ لم يكن السحر عبارة عن مجموعة واحدة من الممارسات والاعتقادات وإنما صنوف تغطي طيف الإدراك الديني والعلمي.
من المؤكد بعد هذا التشويش التأريخي وظهور أفكار ورؤى معرفية وعلمية ونظريات وأديان ونشاط عقلي محموم على كل الأصعدة، فليس من المكن أن يكون هناك طريق للحصول على مفهوم جدّي لدلالة قاطعة لمعنى "السحر"، وأرى أن نستبدل هذا المنهج عن طريق دراسة مصاديق ما يعرف اليوم بالأعمال السحرية من بين مكوِّن من المكونات الثقافية والمعرفية لكل البشرية، فهذا العقل الذي يمارس السحر وشبيهاته وتصدر منه أعمال وتصورات يقبل بها البعض، يكون قبل ذلك قد قبل مختارا أو مضطرا تلك المعتقدات التي يجري السحر في أروقتها وأمن بالتالي بالنتائج والسلوكيات المفترضة أن ينتظرها، وعلى الرغم من اختلاف نماذج وأساليب وصور ومصاديق هذه المعرفة، فإن المحاور الرئيسة لها تكمن في جوهرية التعمق في قراءة الذات المقابلة ومحاولة الوصول للتخاطر معها من خلال خداعها بالشكل السحري، فالقراءات والعزائم والجو السحري والإيحاءات التي يصدرها الساحر لا تشكل الفاعل الحقيقي بقدر ما تشكل محاولة إقناع للوعي الداخلي العميق لكي يستسلم لإيحاءات الساحر ومحاولته التغلب على المقاومة الذاتية لكالب السحر، لتكوين وإعادة بناء الذات العمية اللا واعية لتتصرف في طريق أخر مختلف ربما يؤدي لأحداث تغيرات حسية وسلوكية تنتج مراد طالب السحر.
حتى مفهوم العرافة (بكسر العين) التي كانت منتشرة في الماضي التي تقوم على وسائل وسلوكيات لها دلائل موحدة تقريبا مثل السهام وقراءة الفأل أو التواصل مع عالم الأرواح والجن أو ما يسمى بالعالم الوجودي الموازي، وأيضا الاعتقاد بتأثير النجوم والكواكب وخطوط سيرها والتقاطعات والأقترانات التي تحدث بينها، وما يعتقد من أنها تؤثر في الأحداث والوقائع التي تجري على الأرض بشكل مباشر أو غير مباشر، ومنها بشكل مؤكد الأعتقاد القديم والراسخ بتأثير الأرواح الشريرة "الشياطين والأبالسة"، وقدرة وقوة وطاقة الحروف والأعداد المطلسمة أو التي توضع بأشكال محددة أو تتلى بأعداد محددة لإخراج وتسخير قوتها الباطنية أو تحريك روحانيتها المتجمدة بأنتظار البعث والأستظهار، إلى غيرها من المصاديق التي تشكل جميعها ما يعرف اليوم بعالم السحر، كلها تخضع أولا وأخيرا على عاملين الأول الأسترهاب النفسي الذاتي الذي يمكن الساحر من الدخول للذات العميقة للتأثير عليها بإيحاء متخيل ينتهي مع قوة عامل الأسترهاب ومظهرية العملية السحرية بأدواتها وأجوائها الخاصة.
ويلاحظ في تلك النماذج التي تقدم بوصفها عملا سحريا أو تحت تأثير سحري ما، أنها جميعاً تقوم على أشياء أو تفاعلات وتواصلات تخيلية إيهاميه خفية لا تلاحظ ومبهمة في النتائج العامة، فلا أحد يدرك بشكل واضح ولا حتى الساحر بجزم بكيفية تأثيرها في الناس وفي الأحداث، فمن غير الواضح كيف تستطيع الأرواح الخفية والغريبة أن تجلب الخير أو أن تدفع الشر في الوقت الذي لا تجلبه لنفسها أو لا تستطيع أن تتنعم هي به، فالعنصر الأساس في كل أنواع العمل السحري هو الاعتقاد بتأثير الوهم والتخيل والانصياع ثم التكيف مع هذا الحال على أعتبار أن هناك من سيحقق النتائج بكل تأكيد فيتفاعل الإحساس بالإيجابية وتتحرك القوى الذاتية الكامنة داخل الذات البشرية لتتصرف على أساس التحقق وليس على أساس الأمل في التحقق، وهذا هو الفرق بين أسباب نجاح بعض الأعمال وفشل الأخرى هو مقدار الإحساس بالنجاح فقط، أو صدور آثار خفية ومبهمة قادمة في طريق الصيرورة من عناصر معروفة وواضحة، وكأنها متأتية من العناصر المهمة الوجودية وهو ما يبرر الاعتقاد بأمور تتناقض والعقل لكننا نقبلها على أي حال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* . يمكن رؤية هذا في التاريخ المسيحي والإسلامي؛ ففي أوروبا، وصفت الكنيسة الأولى السحر بأنه بقايا وثنية، وفي القرن التاسع عشر طوَّر علماء الأنثروبولوجيا الفكرة الجذابة التي تقول بأن العديد من الممارسات السحرية التي يمارسها الفلاحون الأوروبيون ليست سوى بقايا — أي حفريات ثقافية — لديانات ما قبل التاريخ. حتى الممارسات غير الضارة — كوضع حدوة حصان فوق باب المنزل — كانت تفسَّر على أنها ممارسة شعائر «دينية» قديمة.