تاريخ الخرافة ح 26


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7993 - 2024 / 5 / 30 - 02:58
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

1. أزمتنا والخرافة
لا شك أننا كمجتمع إنساني وفي ظل العولمة وعصر الحداثة وما بعد الحداثة وهذا السيل الجارف التي لا يتوقف من نمو وإثراء المعرفة الإنسانية في مختلف الفروع والتخصصات، لكن مما زلنا نعيش إشكالية وأرتدادات أزمة كونية ومحلية تفصيلية وكلية، متعددة البواعث الدافعة ومتعددة التوجهات أسبابا وغايات أهدافا وخطط عن المعرفة وحدودها وإمكانياتها ودور العقل فيها، ونشير هنا إلى جملة من الحقائق الوجودية التي تتعلق بالعرفة والإنسان ومنها، أنو وبشكل مؤكد لم ينجح العقل الإنساني أن يطوع المعرفة والعلم ليكونا في خدمة مشروعه الوجودي بشكل حقيقي وجاد، وأيضا لا يمكنه أن يعلن عجزه عن ذلك وتخليه عن حلم الوصول للكمال والمثالية العقلية.
هذه الإشكالية أنا أراه من منظور كلي أمر غاية في الطبيعية ولا تشكل إلا دافعا حقيقيا لتطوير المعرفة وتطوير الإنسان معا، التاريخ الوجودي للوجود ذاته من حيث هو تكوين وتكييف مكتمل ولا يحتاج لتطور بقدر ما يحتاج لكشف وبيان، وبما أن الوجود ذاته يتسع ويتوسع كلما تقدمنا خطوة بأتجاه معرفته، فإننا لا يمكن ولا بأي حال نستطيع أن نكشف هذا اللا مدى واللا حدود المتناهي في وسعته وعظمته، طبعا هذا الأمر يظهر جليا كلما كانت مساحة المعرفة واسعة، فالجاهل قد يرى العالم الوجودي في حدود ما يعرف، لكن العقل العلمي المعرفي المتخصص يرى أن العالم بلا نهايات، لا قريبة ولا ممكنة وأن العالم ما هو إلا محيط بلا شاطئ.
إذا أين تكمن أزمتنا الحقيقي مع المعرفة والعلم أم مع جهلنا الطبيعي بهما؟ أن أرى أن الأزمة لا تكمن في هذه المعادلة ولا حتى تقترب منها، الأزمة في ذات الإنسان حينما لا يضع نفسه بشكل جاد وحقيقي داخل المعادلة السابقة، أما أنه ينحاز تماما للمعرفة والعلم وينسى وجوده ليسير بمعادلة في طرف واحد ومن طرف واحد، ليكتشف في نهاية الطريق الخاص به أنه كان يمشي برجل واحدة ونسي أن المشي الصحيح هو المتوازن على قدمين، أو في الحال المعاكس عندما يهتم بوجوده الخاص دون معرفة وعلم...... ويظن أن السماء يمكنها أن ترسل له علما ومعرفة بمجرد أن يدعوها، وان هذه السماء هي وحدها التي تقرر وتقدر مقدار العلم والمعرفة التي يحتاجها، وفي الأخر يجد نفسه لم يتحرك كثيرا ولم يقطع اي خطوة حقيقية لينفع نفسه ووجوده والمعرفة.
لكم السؤال ما دور الخرافة في أزمتنا هذه على الشكل المسطر أنفا؟ الحقيقة أن الخرافة مثلها مثل بقية المعارف صانعة ومصنوعة، كما هي ناتجة من فعل تعقلي ومنتجه لفعا لاحق بحسب ما يقدر الإنسان أن يتحرك داخل المعادلة، التفكير بالمعرفة على أنها غاية الوجود ولا شيء سواها، وأن على الإنسان أن يضحي بوجوده من أجل أنتاج المعرفة والعلم دون أن يضع أي أعتبارات أخرى حتى لوجوده، هذا تفكير خرافي بالتأكيد ولا يمكن أن يكون ضمن دائرة المعرفة الواقعية الصحيحة، فالمعرفة قيمة وأنجاز هدفه أن يرتقي بالإنسان درجة في السعادة أو درجة بالنفع، فالمعرفة والعلم ومنه الدين أيضا مجرد أدوات لتحريك الإنسان من نقطته الثابتة لتضعه على طريق يتحرك وبتغير ويتطور بذاته ولذاته، كما يتطور الإنسان بذاته ولذاته، أما الوجه الأخر للخرافة عندما نظن أن السماء وحدها من تنتج المعرفة والعلم، وأن هي التي تحدد المسار كليا وتفصيليا ما علينا إلا الرضوخ لها وإلا خرب الوجود.
هذه هي الأزمة الأساسية ومنها تتفرع سلسلة طويلة من مظاهر متأزمة تشكل دوامة للعقل انساني، من هذه المظاهر أننا لا نفرق بين ضرورة الخيال وممارسته للتأمل والتصور المفضي ربما لأفكار حديثة من خلال أستخدام المعرفة والعلم، وبين من يتمسك بالخيال والتصور ويترجمه أحلاما لا واقعية يتسلح بها ويظن أنها من الممكن أن الإيمان بها يصنع منها معرفة، هذا التفكير الخيالي كثيرا ما أغرى العقل بنتائجه الجميلة ويضعه موضع الأسر خاصة عندما لا يكون للإنسان القدرة على تجسيدها واقعا أو عملا ممكنا، فيتجه بدلا من ذلك إلى التطرف في الأعتقاد بها ومحاولة أن يقدمها حلما بشريا فيه ومعه كل الحلول.
أيضا من مظاهر الأزمة المزمنة لدينا أن العالم مقسم كما يظنون بين علم ومعرفة وخرافة، وهذا التقسيم بالرغم من كونه فني ترة البعض يحاول أن يتعالى على الأخرين حينما يرى ما في ذهنه هو الأصل وأن البقية مجرد نتائج، المتدين يرى في العلم اليوم مجرد حقائق ضمنية في معتقداته وأن الدين ذكرها بشكل أو بأخر، وبالتالي فالدين أولى بالأهتمام من العلم لأنه معرفة كاملة ومتكاملة لا يحتاج الإنسان معها لشيء، السؤال ولكن قبل أن تعلن المعارف وتعرف العلوم بشكلها الحالي هذا، لماذا لم يصرح بها أحد أو يكتشفها رجال الدين من قبل؟ وحتى أن رجال الدين وقفوا موقف المعادي والمضاد والمناهض للكثير من الاختراعات والعلوم قبل أن تتجذر بالواقع، فقد حرم رجال الدين المسلمون في مصر الطابعة لمدة ثلاثة قرون حتى أدخلها نابليون جبرا عليهم، لو درسنا تاريخ الخرافة من ناحية الإيمان بها وعندما توضع نتائج تقديس الخرافة موضع التقديس العام لها بغض النظر عن أمتحانها اليقيني أو صلتها بالفكرة الدينية الأم، فان المؤمنين بها سيضطرون اولا الى منع الاخرين من أي محاولة مساس بها أو حتى بالنتائج المتوخاة منها أو أعمق من ذلك تأكيدهم أنها جزء من منظومة الدين وأن الله هو من وضعها، ومن بعد ذلك سيجدون انفسهم اوصياء طبيعيون يمارسون الاكراه والقوة لتحقيق الايمان المطلق حتى وان كان هذا الغيب خرافة بجميع الأحوال.
إن من أساسيات وظائف العقل البشري تحديدا هي اكتشاف مكامن الخلل المحسوسة والتي تثير في الإنسان التساؤل، أما التي لا تثيره ولا تشكل موضع حسي عنده فتبقى بعيدة عن ملاحظات العقل وأدواته، الإصارة هي الدافع الأول لأنها مرتبطة بقضايا طبيعية في وجود الإنسان مثل الحاجة أو الفضول أو حتى محاولة أستخدامها وتسخيره له، من هنا نفهم حرص العقل والسعي لوضع او استكشاف العلاجات أو الحلول أو التصورات اللازمة، فالعبادات والروحانية والتصوف والايمان بالحياة ما بعد الموت ونهاية العالم السعيدة مثلا... هي جميعا من مظاهر الفعل الوجداني الأكثر تحسسا في حياته والأقرب لسؤالاته اليومية، وفي حين أن الثقافة والعلم والفكر والقوانين والصناعة والزراعة... هي من مظاهر الفعل العقلي بشقه الوجودي الأكثر قربا على الفضول والتسخير والأستخدام، ومن نتائج اخضاع أي من وظائف الفعلين للآخر فسرا أو جهلا يؤدي الى بهما إلى تشويه العقل والمحسوس معا، وتشويه الوجدان والغيب ونشوء الخرافة والفكر البعيد عن واقعيته وبالتالي بعيد عن الصحة والحقيقة.
ان من الصعب جدا مع تأريخية الخرافة ودورها في بناء الكثير من المعتقدات والأفكار وخاصة تلك التي تنزوي بين المقدس والمحرم والممنوع المس به لأنه عمود عقائد الناس، العلمي الحقيقي والمعرفي الجاد لا يحاول إثارة الخرافيين وتحريضهم للخروج منها لأنه يكون قد أستخرف أكثر منهم، المعرفي والعلمي والمنطقي يجيب على الأسئلة بشكل مبرهن ويقيني على ذات التساؤلات التي خلقت الخرافة أولا، ويضعها بين يدي العقل الإنساني ويمضي في مشروعه المتواصل، من طبائع المجتمع النفسية هي كراهة المباشرة بالتغليط أو فضح الخطأ بشكل علني، الإنسان قد يعرف أنه متوهم وأنه مؤمن بخرافة منتظر أن يتحقق بنفسه أو يجد على النار هدى، ولكن حينما تواجهه بحدية يتحول إلى محارب شرس من أجلها، ومن هنا ضع منهج إصلاحي تنويري تدريجي لتحديد عن أسئلة وأجوبة الخرافة، هي الطريقة المثلى للمعالجة في ظل التداخل الشديد بين الغيبيات البشرية والدينية والفلسفية...
فحتى البرهان والتحقق اليقيني من خلال التجربة لا يمكنها أن تمنح الموضوع واقعية مطلقة، وظيفة البرهان هنا هي زرع الثقة بالنتيجة التي أجريت أمام العقل، التفاصيل الداخلية داخل التجربة قد تملك الجزء الأكبر من الحقيقة، أما العقل فهو يتناول المعطى البرهاني بقدر ما هو يتوافق مع الإتساق بين الغاية التي يريدها العقل وصيرورة التجربة، إذ أن مبرر قبولها هو الاتساق فقط لأن «لا شيء يعتبر مبررًا إلا بالرجوع إلى ما نقبله فعليًا، ولا توجد طريقة للخروج من اعتقاداتنا ولغتنا للعثور على اختبار آخر للمبررات سوى الاتساق»، وبالملخص يمكنني القول هنا (أن النمط الذي تصنعه الحقيقة هو النمط الذي تصنعه مبرراتنا فحسب).