تاريخ الخرافة ح 31


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7998 - 2024 / 6 / 4 - 09:01
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

إن دراسة السحر عن قرب ليس بالأمر السيء بمقدار ما يحتاج للكثير من المقدمات عنه وعن مفاهيمه ولغته وأعرافه، فالناظر له من خارج دائرته يرى فيه مجموعة من الألغاز والأحاجي وربما يصفه بالخرافة اللا معقولة واللا منطقية، دون أن يدرك ماهية النظام الذي يقوم عليه العمل السحري، وبالمناسبة لمن يعرف السحر عن قرب أنه يمثل في بنيانه العملي بأتجاهيين أساسيين وفقا للمركزية التي تستهدف في العمل، أي مركزية الوسيلة الأساسية بغض النظر أحيانا عن التشابه في الوسائل العملية أو الأدوات والطرائق التي تستعمل أو تدخل في العمل، وهما:.
أ‌. التسخير العرفاني العلوي.
ب‌. التسخير الروحاني السفلي.
الطريقة العرفانية.
الطريقة العرفانية في التسخير السحري هي أعتماد المشتغل بالسحر على سلوك طريق تصوفي أعتزالي مستعينا بالأرواح العليا، وهنا يعني بها الكائنات التي لا تنتمي للجن والشياطين وربما تكون من الملائكة من مطيعي الأقسام والتوسلات، وتسمى خدام الحروف أو الأرقام أو النصوص الدينية، في هذا الأعتقاد يؤمن العرفانيون أن الله خلق لكل حرف خادم مطيع يستجيب وفق مستلزمات وإعداد مسبق للاستجابة للتوسل بالحرف إذا تم أستدعاءه بطريقة معينة وثابتة، وهكذا مع الأرقام وحتى الكلمات والنصوص الدينية من آيات القرآن مثلا أو سوره أو حتى ألفاظ معينة منه كالحروف المقطعة أو أسماء الله وصفاته، ولكل خادم اسم وعزيمة وبخور وأوقات وقوة وأختصاص، لذا فالعرفانيون بشكل أساسي يحاولون أن يتلاءموا مع متطلبات العمل العرفاني من الزهد في الأكل والملبس والرياضة العرفانية وحفظ الأوراد والأذكار وترديدها كثيرا، لأن كل ذلك يساعدهم في التقرب من الخدام وإطاعتهم لهم مع الإدمان على مناهج محددة من السلوكيات الظاهرة، العرفانيون الحقيقيون لا يتعاملون مع الجن ابدا برأيهم، بل هم أعداء الجن الأشرار ومنهم من يسلطون الخدام على الجن الصالحين حتى ينفذوا ما يطلب منهم.
أما الوسيلة التي يستخدمها العرفانيون في التسخير فتعتمد على إيمانهم بحقيقة أن كل كائن بشري خصوصا لديه قرين خير وقرين شر، وله رقيب سائق وعنده شاهد هما المسؤولان عن سلوك الفرد في الحياة، ولا قدرة للبشر على مخالفة ما يريدون، هنا يعتمد العرفاني على الأروح التي تحت أمرته أو الخادم المطيع لمعرفة قوة القرين المطلوب تسخير صاحبه بتسليط قوة هذه الأرواح عليه، كلما كان خديم العرفاني من درجة أعلى في منازل القوة والتسلط كان العمل ميسر له، فيذهب الخديم إلى قرين الشخص المطلوب ويأمره بما يريد، أما عن طريق الأقسام الدينية و الجنجلوتيات التي تتضمن أسماء وأقسام وأسرار روحانية وعرفانية، أو عن طريق الإرهاب بالقوة الروحية للخديم، هنا يكون جواب القرين السمع والطاعة فينتهي الحل بالموافقة، أما إذا لم يستجيب ويعاند تشتعل الحرب بين القوى الروحانية للعريف وبين قرين الشخص والنتيجة تكون بأنتصار صاحب القوة الغالبة.
هذا المختصر بالطريقة العرفانية والتي يتميز أصحابها عادة بالهدوء والسكينة وعدم السعي الى أي عمل، إلا اذا كانت هناك مصلحة شرعية أو حاجة ضرورية، وغالبا ما يكون العمل غير مأجور ماديا بقدر ما يقدم كقربة لله وأكثر المشتغلين في هذا الطريق يتبعون مناهج محددة تسمى بأسماء أشخاص معروفين ويبدأ فيها الساعي من درجة بسيطة ويتدرج مراتب حتى يصل إلى النضج المعرفي والسلوكي على يد شيخ أو قيم ديني عرفاني مالك للأسرار والخيارات التي تؤهله للحكم على المريدين، وقد يبقى المشتغل تحت ولاية الشيخ حتى يجاز أو يؤذن له بالعمل الفردي وفق الوصايا والأخلاقيات المعتمدة، وكثيرا ما ينحرف البعض منهم وهو في الطريق فيخرج عن المسلك العرفاني لصعوبته أو لعدم القدرة على تحمل تكاليفه الروحية، فيلجأ سريعا للطريقة الثانية التي يمكن العمل بها مع بعض المقدمات التي حصل عليها، وما توفره من مساحة من الحرية والمنافع الشخصية.
الطريقة الروحانية.
هذه الطريقة قد لا تختلف بالظاهر والأدوات عن الأولى للذي لا يعرف عالم السحر وأعماله، ولكن حينما ندقق جيدا في التفاصيل والزوايا والوسائل والأدوات نجدها قد تكون النقيض التام للطريقة الأولى، لذلك سميت بالروحانية تفريقا عن العرفانية، فأنصار الطريقة الأولى يقولون إنما سميت عرفانية لأنها تستعين أولا وأخيرا بمعرفة الله الأولية للإنطلاق في عالم الوجود، فالمفتاح الأساسي الذي يهيئ للإنسان القدرة على النفاذ هو أن تعرف الطريق لله، لذا يسمى المشتغل بالعرفانيات بأنه سالك، أي سلط الطريق لمعرفة الرب منطلقين من مقولة قديمة فيها جوهر العمل العرفاني "من عرف نفسه فقد عرف ربه"، لذا فهم يهتمون جدا ويبالغون بالتربية النفسية وإهانة وتوهين الأنا في سبيل الشعور بالدونية والحاجة القوية لله في كل تفاصيل الحياة.
هذه نقطة مهمة من جهة المرجعية في العمل، العرفاني كما قلنا يظن أنه يتعامل مع الجانب الإيجابي فقط من عالم الرب والخالق، الجانب المطيع النوراني الذي يستجيب لله خوفا وطمعا، لذا فهم لا يقربون ولا يتقربون من الكائنات التي قد يكون في سلوكيات البعض منها عصيانا أو تمردا على أوامر الله، فهم يدعون البعد كل البعد عن الشيطان وأتباعه من الجن والأرواح التي تميل له أو لا تعاديه بشكل كامل ومطلق، الأداة الرئيسية التي يستعملها الروحانيين هي الأرواح بشكل عام وتحديد الجن بكل أشكاله وطبقاته والوانه، وكلما تمكن الروحاني من أمتلاك ناصية البعض منهم عبر وسائل إغرائية لهم أو العمل معهم وفق شروطهم وتلبية متطلباتهم كلما كان أمثر قدرة على الإنجاز.
يعتقد الروحانيون كما هو الأمر عند العرفانيين أن الإنسان يخضع للقوى التي تسيطر على قرينه، فمن القرائن ما هو كافر أو متمرد أو على ديانة غير ديانة السالك، هذه القرائن لا يمكن أن تخضع وتستجيب للأقسام والعزائم التي لا تؤمن بها أو لا تشكل عليها خطر، وبعض القرائن يكون حليفا للجن والشياطين وينصاع لهم، هنا يأت دور الروحاني لينسجم مع توجهات القرين قوة وضعفا، وأحيانا بالقهر من خلال قوة الخادم وجماعته وقبيلته، فقوة الخادم تأن عادة من قوة المكانة التي يتحلى بها في مجتمعه الخاص، فكلما كان ذا مرتبة عالية كان أتباعه يشكلون قوة ضاغطة على من يتسلطون عليه، لذا فعمل الروحانيين هنا يقوم على الوصول إلى القادة والزعماء من الجن فهم الأقدر على تنفيذ المهمات، طبا الأمر لا يخلو من تكلفة مادية وأحيانا إيمانية تمس عقيدة الساحر الروحاني وتصل به أحيانا ليكون إبليسيا شيطانيا حتى تطيعه الأرواح.
يستخدم الروحاني أضافة للتعاويذ والعزائم والأستحضار المباشر للجن الكثير من المفردات التي لا يتعامل بها العرفاني، خاصة ما يتعلق بالشخص المطلوب من أثاره الشخصية أو مما يترك فيها من رائحة أو أثر جنسي، وكذلك في السحر الأسود والسفلي لا يتورع الساحر في أستخدام النجاسات المادية والمعنوية اتي تصل إلى مس المطهرات والمقدسات عنده كي يستجيب شياطين الجن له، الحكايات التي تروى عنهم كثيرة، ربما قد يكون للشيطان تلك الطاقة السلبية التي تحاول جر العالم البشري إلى موقع العداء لكل ما هو مثالي وفضيله، دور في تشجيع السحرة على الأعمال القذرة وحتى اللا أخلاقية بما فيها أنتهاك الجانب الجنسي أو فعل الرذيلة، ولكن في النهاية ومن التجربة أن كل ما يحاط بهالة هذا السحر فهي نتيجة مؤقتة، وربما يكون خداع نفسي أو إيحاء غير مباشر بحصول أشياء وهمية أو غير تابعة لفعل السحر ولكنها أيضا طبيعية.
لقد أصبح مفهوما لنا الفرق الكبير بين طريقتي السحر والأستخدام والتسخير التي تعتمد على إيصال تأثير الساحر وإرادته للمسحور، كي يستجيب له دون أن يعرف تماما السبب منه أو من هو الذي حرك هذا الحال وأنتجه، الكثير من الآراء المتضاربة التي تؤيد وجود السحر وأثره وقدرته وفعله وتنسب للسحرة المعجزات، في المعسكر المقابل هناك من يتطرف في إنكار وجود السحر وأثاره وفعله، ويزعم أن كل ما يقال ويشاع هو مجرد حالة من تفاعلات الواقع مع جهل الفرد في البحث عن أساليب ووسائل تؤدي به لحل معضلاته، لكن السؤال هنا مع كوني حياديا للأن في موضوع السحر، ما هو تفسير التغيرات المحسوسة والمؤكدة أحيانا التي تصيب أشخاصا دون أن يكون لهم معاناة أو إشكالات مع الجهل أو الواقع أو مشاكل الحياة، ربما قد يكونوا على مهارة وعلمية وعملية عالية فجأة تتغير أحوالهم في جهة واحدة أو من جانب واحد دون تفسير؟.
الإنكار لا يفيد المعرفة كما إن الانبهار والمغالات في التقدير والتأييد دون دراسة فاحصة وعلمية لا تجدي نفعا ولا تقدم حلا ممكنا، علينا أن نقر بأشياء من الواقع تتصل بالتجربة ولا تنفصل عنها، وبالتالي الإقرار بها لا يعني بالضرورة الإقرار بفعل الساحر أو أدواته أو طريقته في التعامل مع الموضوع، هذه الحقائق يمكن إدراج المهم منها هنا لكي يطلع القارئ علة رؤية شمولية عن الموضوع وتداعياته وتأثيراته على الإنسان، وهي:.
• أن السحر قديما وحديثا هو جزء من النمط والسلوك والنسق الثقافي لكل المجتمعات البشرية دون أستثناء، لكن هنا أحيان وأزمان وحالات يكون جزء أساسي من علاقات وروابط المجتمع، وفي أوقات وحالات يكون الأمر هامشيا وربما غير مضر أو غير ذي أهمية، وذلك يعود لجملة من الأسباب والمؤديات في الغالب تتعلق بأرتفاع المستوى العلمي والثقافي والأقتصادي.
• سجل التاريخ البشري والتجربة الحية حضورا تأثيريا فاعلا ومؤكدا للسحر بجميع أنواعه في الواقع، وهنام الكثير من القصص المؤكدة التي رويت عن معاناة حقيقية لبشر أصيبوا بشرور السحر، كما يروى عن الكثير من الحالات التي نجح فيها السحرة من كسب المغانم والمنافع لبعض الأفراد وبالتحديد والدقة.
• لا يمكن دمج السحر كله بالخرافة ولا يمكن دمج الخرافة بالسحر مهما كانت المبررات، فالخرافة معرفة ناقصة والسحر معرفة كاملة ولها أصولها ولكن قد تبدو بعض نتائجه خرافية، أو حتى الأستعانة بالسحر تعد نوعا من الخرافة، لذا من يصف السحر بالخرافة عليه أن يقدم ما يناقض الواقع من جهة وما سبب سعي الإنسان للسحر مع تطور كل وسائل العلم والمعرفة ما لم يحرز السحر شيئا من الواقعية العملية في الحياة.
• لم يستطع أحد لا من العلماء ولا المفطرين ولا حتى رجال الدين أن بعطي تفسيرا جازما لا عن وجود السحر وحقيقته، ولا نفي وجوده ووهميته، ومع ذلك يأمل الإنسان أن يصل في يوم من الأيام إلى حقيقة ثابتة تؤكد أو تنفي أو تفسر السحر، كل ما موجود بأيدينا اليوم من تبريرات تدور بين نفي وتأييد فقط.
• كما أن من المفيد أن نذكر أن كل محاولات محاربة السحر والسحرة لم تنجح لا تحت ستار الدين ولا تحت سطوة العلم، وما زال الإنسان مترددا لليوم حول تأيد أو نفي هذا المنهج الذي يكون دوما هو الحل الأحتياطي وربما المؤجل للكثير من القضايا الإشكالية، وهذا ما يؤكد عمق ورسوخ فكرة السحر في مكنونه الثقافي والمعرفي وإن أعلن ظاهريا رفضه له.
• وأخيرا ما يتم تداوله اليوم من أشكال الممارسات السحرية والتي يدعي البعض بها إنها روحانيات وليست أعمال سحر وأنها بعيدة عن الشيطان وتجري تحت عنوان ديني محترم، هي بالمجمل أنواع من السحر التي تتدرج من البسيط والبدائي إلى المركب والمتعدد الجوانب، وأن الدين الذي هو قيمة معرفية تقر بقوة وقدرة الله وحده على رسم مجريات الأمور وتدابيرها، لا تنسجم مع الإيمان بقدرة الساحر على التأثير والتدخل بالمسارات الحياتية للبشر، فهي بالتالي وإن أتخذت عنوانا دينيا مقدسا تبقى لعبة شيطانية بأمتياز.