تاريخ الخرافة ح 28


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7995 - 2024 / 6 / 1 - 23:53
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

2. نحن خرافة
هل نحن حقيقة مجرد خرافة زرعناها في وعينا العميق وهي أننا محور الوجود ومركزيته التي أكتملت بالعقل؟ سؤال طرحه أحد القراء معقبا على مسألة وحدة الوجود التي ترددت كثيرا في طيات الفلسفة الاستشراقية، منتقدا في ذات الوقت هذه النظرة الأستعلائية التي يمارسها الإنسان مع وجوده بالرغم من أنه جرم صغير قد لا يدرك من باقي أجزاء الكون، الحقيقة أنا قد بحثت في هذا الأمر من قبل كثيرا وحاولن فهم هذا التصور من خلال تفكيك مصادره الأولية والبواعث، ووجدت أننا فعلا نعيش هذه الخرافة المتأصلة حين نربط وجود الله بنا "كنتُ كنزاً مخفياً لم أُعرف فأحببتُ أن أُعرف فخلقت الخلق فتعرّفتُ إليهم فعرفوني”.
إذا حقيقة الله ومعرفته الكائنات به لعصر ما قبل الخلق إن صحت التسمية بقيت متوقفة ردحا تاريخيا طويلا حتى أدرك الله الحيلة لذك بأنه لا بد له كي يعرف أن يخلق الخلق، هذه الخرافة تقوم على شبهة عقلية ومنطقية وإن كان المنطوق الأول منها يؤكد سبقية الله على الخلق، فعندما كان الله ولم يكن معه شيء فأين الإشكال بمجهوليته؟ فحتى يعرف الشيء لا بد من وجود حساس أو مدرك لوجوده، فقول الخرافة بأنه "كان كنزا مخفيا لم أعرف"، السؤال المثار هنا من يعرفه وهو لا أحد معه لا قبله ولا في زمنه؟ فمن هو المقصود كي يعرف هذا من الناحية المنطقية العقلية، أما من الناحية الدينية ما قيمة الخلق أن عرفت أو لم تعرف الله وهو الغني عنهم ولا يؤده شيئا من معرفة أو إنكار، الحقيقة الإشارة للخلق هنا لمن أورد هذه الخرافة إلى الإنسان كي يقول بالمباشر أن الله أحتاج لمن يعرفه كي يعبده فأخترع الإنسان ليقوم بهذه المهمة دون غيره لأن المعرفة نشاط عقلي لا يتوفر بشكل مثالي إلا عند البشر.
كان الإنسان القديم كقصة رواها التاريخ لنا يعيش في عالم غريب مجهول بالنسبة له تماما ولا يعرف أي علاقة أو رابطة تربطه بهذا الوجود العظيم سوى أنه موجود داخل هذه الكتلة الكونية من المخلوقات، هذه الغربة التي أدركها بوعيه الفطري البسيط جعله تائها لا دليل معه ولا مرشد مرتبك ويشعر بالخوف والوحشة ويحاول بشكل أساسي الهروب من وجوده لغرض النجاة بحياته، لهذا فقد استمد من خوفه هذا مبرر للبحث عن شيء كي يفهم ما يدور، فالهروب الدائم لم ينفعه بل زاد من حيرته وزاد من مقدار الخوف لديه، حتى تحول كل شيء غريب وغير مفهوم له الى مجرد عدو، عليه اما ان يواجهه لينتصر عليه أو يواصل الهروب للأمام، هنا حاول لأول مره أن يستحضر الواقع لخياله ويكون صور ذهنية كتفسيرات للأحداث الكونية المحيطة به، وهكذا نشأت أساسات التفكير الأولي في المجتمعات البدائية للتقليل من حدة التوتر ضد الخوف، ومن أجل امتلاك قدرا من الفهم والسيطرة على الحياة، فتفسير الوجود بشكل ما قد يتبعه محاولة التأثير فيه وعليه بطريقة ما حسب ما يبرر له عقله، ونظرا لخطورة العالم من حوله وقلة التجربة وضآلة التراث الفكري الذي جمعه من مراحل سابقة، فقد كان مضطرا لتفسير ما يراه بسرعة كردة فعل دون البحث عن منطقانيات وعقلانيات لاتخاذ القرار المناسب لحماية نفسه.
وهذه السرعة وفرت له الامان المؤقت وأشعرت بتخفيف وطأة الخوف عليه مع أن لا شيء قد تبدل بقدر ما تبدل الشعور النفسي لديه، لكنها هذه الأفكار بالطبع كانت على حساب جانب مهم نسميه الآن مثلا "الصواب الاستدلالي والمنطقي"، لذا فإن الخرافة بهذا الواقع ومع هذه المبررات والعلل هي الأصل المعرفي الأساسي عند الإنسان وما تزال، وأما عصور العلم والمعرفة اللاحقة التي زرعت في عقل الإنسان بتأثيرات الخوف المستمر بفقدان الوجود بأشكاله المعروفة، الموت أو الفناء أو نهاية العالم فهي سباحة ضد التيار الأول الذي أسس للوعي التفكيري في مراحل حياة الإنسان الأول.
أستمر العقل الإنساني في جوانب عديدة من حياته متنقلا بين إشكالية وأخرى وأصبح مدمنا ومتسامحا أحيانا معها، طالما أنه عرف الطريق الأولي لمعالجتها من خلال التفكر والتأمل والتجربة التصورية الذهنية أولا حينما توفر له قناعة بدائية تمكنه من الأنتقال للمرحلة التنفيذية والتجربة الواقعية، وهناك تحدث المواجهة الحقيقية بين الإشكالية والعقل والأداة التي تدير هذه المواجهة وهي يقينيات الإنسان الذي يطلب الحل، لم يعد يرى أي غربة ولا يحس بالخوف الأول وأنتقل من حالة الدفاع المريب إلى حالة الدفاع المستقر الذي تطور لاحقا إلى تطبيع وجوده وأن البيئة والطبيعة من حوله ليس جميعا أعداء محتملين أو مباشرين، فمنها من هو ضروري له ومهم في حياته وبدأ بتكوين عالمه الأرضي ليستقر شيئا فشيئا حتى مع وجود ذات الأسئلة القديمة بدون أجوبة حاسمة، لأن التغلب على الخوف كان أنجازه الأعظم في مواجهة الوجود.
من يطلع على الجزء التاريخي في حياة الإنسان الأول ومنجزه المعرفي الذي هو خليط من خرافة ومن واقعية نسبية لعم ما يدور، يطرح سؤالا يتعلق به هو اليوم، وهو ان المشكلة الأزلية التي بقت تدور وتؤثر في حياة الإنسان في مجتمعنا وفي تلك المجتمعات المشابهة له تكمن في الخرافات والتفكير الخرافي؟ ام في الوعي المستمر بإنتاج الغيب وعوامل الأتصال منه بالخرافة بمعزل عن انتاج لثقافة العقل الوجودية المادية التي لا تعترف إلا بالمحسوس أو المقاس أو الحضوري المباشر؟، أظن أن السؤال هذا يمكن وصفه بالبليه أو الغير دقيقي لأنه يفصل بنية العقل وقوته العاملة حسب مقياس أعتباطي، العقل الذي أكتشف قوانين فيزياء الكم والنسبية وعرف مفاهيم الزمن وأبدع في الفنون والآداب والعلوم هو ذاته وفي نفس الزمان والمكان يؤمن بالخرافة ويصنعها ويتعامل معها، بالتأكيد هذا ليس إنفصاما في سلوك العقل، بقدر ما هو إقرار بأن كل المعرفة التي أنتجها البشر بما فيها ما يتعلق بالغيب هي نتاج واحد من مكمن واحد وبنظام واحد.
لاحقا وبعد الكثير من التجارب التي اكلت منه دهرا وأضاعت عليه الكثير من الفرص وكلفته ثمننا باهظا، تنبه الإنسان إلى أن إدراكه البشري قاصر دائما ولا ينبغي عليه مجرد الأعتماد على الحواس لأن يعطي التفسير الصحيح للأحداث، فليس كل ما يراه بعينيه صحيحا ولا كاملا ولا حتى حقيقيا، فعلى سبيل المثال هناك ظاهرة تسمى "الأبوفينيا" وهي تعرف علميا بظاهرة نزوع الإنسان لإدراك أنماط ذات معنى متخيل داخل المعطيات العشوائية، ومن ثم محاولة ربط هذه الأحداث ببعضها حيث لا رابط حقيقيا بينها ليصل لنتيجة يسعى لها أو يتوقعها أو حتى يفترض حصولها من عملية الربط التخيلي، كمن يرى التمثلات العشوائية المرسومة داخل فنجان من القهوة فيتخيل أنها أحداث وأنها تتصل بأشخاص معينة، وكما يرى المقامر أنماط ما في ورق اللعب العشوائية، ومن هذه الأنماط التفكيرية الأولى ما كان سببا مهما في إيمانه بالسحر البدائي أو تعلقه بظواهر طبيعية أكتشفها لاحقا أنها غير حقيقية أو أنها مجرد صنع خيالي ذاتي.
أنتقل من هذه التجربة المعرفية إلى حالة من النضج حين وضع قانون الشك وقانون البرهان في سلم مدركاته المعرفية، وأصبح أكثر تنظيما وعقلانية في خياراته المعرفية وفي طرق أنتاجها لكنها لم تتحول أبدا إلى قانون ثابت، والسبب يعود على النظم العقلية لا تنتقل بالوراثة وإنما تنتقل من خلال التراكم الإدراكي وكل عقل يولد فهو يولد بنفس الأساسيات الفطرية دون زيادة، فيبدأ التعلم من جديد في كل مرة، الفرق أن العقل الجديد يجد معارف حاضرة قد لا يجدها العقل الذي سبقه، فيختار ما يتلاءم مع قناعاته المبررة ويتعامل معها كحقائق مضافة، هذا الفرق مهم بين عقل السلف وعقل الخلف، قد يكون العقل السلفي أنضج مع قلة المتوفر المعرفي، وقد يكون العكس صحيحا، قوة العقل تعتمد على مقدا ما يكسب وبتعامل مع المعرفة الجاهزة وأعادة أمتحانها مرة بعد مرة.
من مأسي العقل التي أصطبغت بها المعرفة ولونت أشكالها وقد تكون حرفت منطلقاتها الصحيحة منذ البدء، ما يعرف نفسيا أو ما يسمى علميا بــ "الإنحياز التأكيدي"*الذي يجبر العقل على سلوك مختار منذ البداية ولا يسمح له بأي خيار أخر، فيقوم العقل ليبحث عن الدليل الذي يؤكد يقينياته المسبقة والمخزونة أو الفاعلة لديه بشكل فهري ويتجاهل ما عداها، وأيضا قد يقع تحت تأثيرات ما يعرف بــ "التعميم المتحيز" وغيرها من ألاعيب الفاعلية النفسية المتصخمة التي لا يقاومها العقل في الغالب، والتي تمت دراسات موسعة في محاولة لكشفها وتلافيها فالعقل البشري غير معصوم تماما، من هذه القضايا التي أشرنا لها هو ما تسلل للمعرفة العامة من خلال المعرفة الدينية والتي وضعت الإنسان أمام وهم وخرافة أن الإنسان هو محور الوجود وحده، منها مثلا معتقد البعض أن الله عبارة عن ثلاثة أقانيم أحدها الإنسان، وان هذا الواحد في الثلاثة لا يمكن أن يكون قائما ما لم يكن مجموعا بما فيه الإنسان، ففقدان الإنسان من المجموعة هو فقدان الله معنى ووجود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* . في الطب النفسي، أبوفينيا Apophenia هي ظاهرة تغيير في الإدراك يقود الفرد إلى إسناد معنى معين متخيّل للأحداث المبتذلة أو العادية من خلال إقامة علاقات غير محفزة وغير ضرورية بين الأشياء، حيث يبدو أن كل شيء قد تم إعداده خصيصا له لاختبار ما إذا كان قد لاحظ هذه الظواهر الشاذة.
وفقًا لكلاوس كونراد Klaus Conrad، في عام 1958 ، تعتبر الأبوفينيا هي المرحلة الثانية في تطور الفصام، ووصف كونراد هذه الظاهرة لأول مرة فيما يتعلق بتشويه الواقع الموجود في حالات الذهان، ولكنها أصبحت تستخدم على نطاق واسع لوصف هذا الاتجاه لدى الأفراد الأصحاء دون الإشارة بالضرورة إلى وجود اضطرابات عصبية أو مرض عقلي. وبهذا المعنى ، فقد أصبح مفهوم الأبوفينيا شبه مرادف لـمفهوم الباريدوليا pareidolia.