تاريخ الخرافة ح 25


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 7991 - 2024 / 5 / 28 - 00:02
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

نعود لمفهوم "الآلية" التي يتم بموجبها تكوين الفكرة الخرافية قبل أن تتحول إلى ظاهرة تتل بفرع من فروع المعرفة أو تنمو في حاضنتها، في الويكيبيديا العالمية عرفت الآلية تعريفا فلسفيا قائما على الوظيفة فقط (لا يوجد معنى ثابت لكلمة آلية في تاريخ الفلسفة في الأصل، كانت المصطلح يعني النظرية الكونية التي تعزو الحركة والتغيرات في العالم إلى قوة خارجية، في هذه الرؤية تُعد الأشياء المادية سلبية بحتة، بينما بالنسبة للنظرية المعاكسة (أي الدينامية) تمتلك الأشياء المادية نوع من مصادر الطاقة الداخلية التي تفسر نشاط كل منها وتأثيره عل مسار الأحداث، ومع ذلك خضعت هذه المعاني للتعديل، غالبًا ما تم تجاهل سؤال ما إذا كانت الحركة مكونًا موروثًا للأجسام أو تُوصل إليها عن طريق طرف خارجي، بالنسبة لكثير من علماء الكونيات فإن الميزة الجوهرية للآلية هي المحاولة لتخفيض كل الكميات والأنشطة إلى وقائع كمية أي إلى كتلة وحركة لكن تعديلًا لاحقًا طرأ، تلاحظ الأجسام الحية كما معروف عنها جيدًا صفات مميزة معينة لا يوجد لها نظير في المادة غير الحية)، هنا الآلية وفق المفهوم الفلسفي هي المكنونات الذاتية أو الموضوعية التي تصنع الموقف أو تدير الحركة فيتحول الممكن إلى إمكان.
لكن أيضا تسعى الآلية للذهاب ما هو أبعد من هذه المظاهر عندما نستحضرها لتسعى وتفسير كل الظواهر الحيوية بصفتها حقائقً سواء كانت هذه الحقائق قابلة للاختزال إلى مفهوم أو كتلة وحركة أم لم تكن فهذا سؤال آخر، رغم أن مناصري مفهوم الآلية يميلون إلى تفضيل هذا الاختزال، والآلية بالنهاية هي الاعتقاد أن الكليات الطبيعية "المعارف العلوم القوانين الطبيعية" مماثلة للآلات المعقدة أو الأدوات من خلال ترابطها بمنهج تشغيلي يعتمد الترتيب والمولات لكي تنتج حركة متقنة، وهذه البرامج أو المناهج العملية مكونة من أجزاء لا تعمل بالعشوائية ولم تنفك مع الأجزاء الأخرى لأنها تعني إلغاء لأي علاقة فعلية مع بعضها.
فالألية هي مجموعة المناهج والبرامج الطبيعية التي تتعامل مع موضوع محدد لأنتاج أو تحريكه إلى تحقيق وظيفته وفقا لما هو نشأ عليه أو مراد له في الأصل، مثلا الأفكار والصور الشعرية التي ينتجها الشاعر ليوصلها للأخر عبارة عن تصوراته وخياله هو الممتزجة معا بقالب فني ضروري بثير حالة حسية تتعلق بالتذوق أو الأستجابة من الأخر، هنا الألية المعتمدة تتكون من مجموعة من أدوات التصور والتخيل مسبوكة في قوالب محددة تنتهي إلى صورة مؤثرة عند المتلقي، وظيفتها إبلاغ حالة أو تكوين فكرة لاحقة، الخرافة من حيث كونها معرفة تحتاج إلى مجموعة عناصر أساسية لاستيلادها، وهي:.
1. رسم الهدف، فالخرافة العفوية ضرب من الوهم ولا تحمل المعنى الحرفي للخرافة وربما سرعان ما تذهب للفناء.
2. أختيار الموضوع، وهذا هو المهم وقد يسبق ذلك رسم الهدف، فالخرافة بدون موضوع مجرد أفكار تائهة لا يمكن أن تترسخ في الوجدان العقيدي.
3. صلة موضوعية، أي لا بد من توفر صلة بقاعدة من المعارف الصحيحة كي تنتسب لها، فالخرافة التاريخية لا تنمو دون حقائق أو معارف تاريخية أقدم وثابتة نسبية تستند لها الخرافة بصلة، وكذلك الخرافة الدينية.
4. الجوهر الغائي، وهنا تحديدا هو المطلوب من أنتاج المعرفة الخرافية التي يجب أن تصل بعقل الإنسان إلى نقطة مرسومة، ليس هذا فحسب بل أن يقتنع بها لأنها ليست خارج معتقده ويقينه الشخصي، وهنا يكون مفهوم النجاح أو الفشل حاضرا بالواقع، وعند من أختار الموضع عندما يجعل الخرافة وحدة متماسكة قادرة على التأثير، وأيضا قادرة على الأستمرار به رغم أن بعض العقول قد ترفض وتقاوم.
هذه عناصر الألية التي يمكن من خلالها أن تتكون الفكرة الخرافية وتتحول من مجرد فكرة ذهنية تصورية إلى واقع معرفي مرتبط بسياق تنتمي له، ففي نظر ديفيدسون "الأبستمولوجيا الصحيحة "* هي التطابق مع الواقع لأنها «تطلب من الحقيقة ما يتجاوز قدرتنا على الفهم»، وهي بالطبع ليست اللا واقعية «التي تحرم الحقيقة من دورها كمعيار بين ذاتي، بحكم أنها تقصر الحقيقة على ما يمكن التحقق منه»، فنظرية المعرفة نفسها لا تعتمد على تصنيف المعرفة بين العلمية والمنطقية وبين ضدها بل تعتمد على محدد الواقعية الصحيحة، الخرافة معرفة واقعية لأنها نتاج واقع وليست منزلة من مكان أخر أو مستورده، صناعها ومتداوليها هم في الواقع ومنه ويعكسون هذا الواقع بكل ما فيه من صدقية، ويرى ديفيدسون أيضا أن الحقيقة معيار بين ذاتي يتكشَّف في السلوكيات المتبادلة بين الأشخاص مستندًا إلى كونها موضوعية واقعية، وهنا يظهر ارتباط الاعتقاد، المعرفة، والمعنى بالحقيقة لكن بشكل يختلف عن نظرية تارسكي الدلالية في الحقيقة.
بمعنى أخر أن الحقيقية كمعيار أيضا يرتبط بالواقع ومنه يستمد الوصف، فالغير واقعي بالنتيجة غير حقيقي حتى لو كان حقيقيا في واقع أخر، هذا التركيز على الواقعية يعطي الخرافة صفة المعرفة الحقيقية لأنها كما قلنا واقعية تنتمي لحاضنتها وناشئة منه، يقول ديفيدسون «يستند التواصل اللغوي الناجح إلى نية المتحدث التي مفادها أن يتم تفسيره بطريقة معينة، وإلى التفسير الفعلي لكلمات المتحدث في ضوء إدراك المفسر لنوايا المتحدث، تربط نظرية الحقيقة المتحدث بالمفسر فهي تصف القدرات والممارسات اللغوية للمتحدث والمحتوى الذي يلزم أن يعرفه المفسر حتى يتمكن من فهم معنى أقوال المتحدث، يلزم على المتحدث توظيف اعتقاداته الخاصة وما يعتبره حقيقة، لذلك يمكن القول إنّ مفهوم الحقيقة ضروري لفهم الآخرين وتفسير أسباب تصرفاتهم»** .
هل نفهم من هذا العرض الفلسفي عن المعرفة كعلم وأقتران الحقيقة به من خلال الواقعية الطبيعية، أن الخرافة كضرب من ضروب المعرفة وأليات أنتاجها ما هي إلا جزء من الحقيقية، حقيقة المجتمع الذي ينتج بها ويؤمن بها ويتقيد بها خاصة وأن تركيز نظرية ديفيدسون ينصب على ما ذكره (التفسير الفعلي لكلمات المتحدث في ضوء إدراك المفسر لنوايا المتحدث)، فقد يكون أساس الفكرة الخرافية صحيحا وواقعيا وعلميا، لكنه ما يدركه المفسر هو من ينحرف بالفكرة عن مسارها الحقيقي ليلبسها ثوبا أخر، بمعنى أن الكثير من الخرافات هي بالأصل أستماع وهضم وإدراك مشوه وغير حقيقي للفكرة الأم، هذا التحليل يقودها إلى التفريق بين آليتين لوجود الخرافة ضمن النسق المعرفي في المجتمع وهما".
• الخرافة المصنعة المقولبة والتي تنتج عن أليات مقولبة ومختارة بأتقان.
• الخرافة العرضية أو اللا مباشرة والتي تكلم عنها ديفيدسون لأنها تولد عشوائية أو غير مخطط لها ولا مطلوب صناعتها أبتداء.
هذا الأختلاف النوعي في شكلية وتكوين الخرافة يفرق أيضا في آلية تكوينها والمنهج والبرنامج الإعدادي التكويني، لكنها في جميع الأحوال وحسب النظرية التكوينية للمعرفة وكما أشار ديفيدسون، إن موضوع الخرافة هو جزء حقيقي من نسق ثقافي ومعرفي محلي يحمل ذات الخصوصية والأمتياز مع سائر المعارف المتكونة من وجودية المجتمع ونشاطه المعرفي في الواقع، منها ما يثبت طويلا لأنه يملك اجابات طويله ومنها ما يتزعزع فيبقى قلقا وطارئا ومؤقتا وينتهي به إلى مجرد تأريخ لا يهم ولا ينفع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*إن مصطلح الأبستمولوجيا epistemology في اللغة الفرنسية مركب من الكلمة اليونانية episteme التي تعني "العلم" أو المعرفة العلمية، واللفظ logos الذي يعني في أصله اليوناني logos "نظرية" أو "دراسة نقدية". وبناء عليه يكون لفظ إبستمولوجيا في أصله الاشتقاقي "نظرية العلم" أو "نظرية المعرفة العلمية".
**علي رضا _ خرافة المعطى وما بعد الحداثة _ 6 / 9 / 2022 موقع معنى سلسلة المأزق المعرفي في الفلسفة التحليلية: