سوريا بين الحلم الديمقراطي والسيناريو العراقي


رشيد غويلب
الحوار المتمدن - العدد: 8188 - 2024 / 12 / 11 - 22:49
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

أعاد اليوم الأول لسقوط نظام البعث السوري إلى أذهان العراقيين الصور التي عاشوها وشاهدوها في التاسع من نيسان 2003، على الرغم من اختلاف في طبيعة القوى التي أسقطت النظامين. رحل الأول باحتلال أمريكي مباشر، فيما رحل الثاني بصفقة دولية مهدت الطريق لأسقاطه بأدوات محلية. ومن سوء حظ الشعب العراقي، حول الأمريكان العراق لمختبر مجاني للفوضى الخلاقة، التي عمقت الخراب الموروث وكلفت العراقيين آلاف الضحايا بين قتيل ومشرد ومهاجر، فيما يحاول رعاة النظام الجديد في سوريا تجنب المثالب الفظيعة للتجربة العراقية، ولكن التفاؤل الذي خلقه خطاب المنتصرين البراغماتي بشأن الدولة المدنية الديمقراطية والسلم الأهلي، سرعان ما شوهت صورته عمليات الاغتيال الأولى، وانتقدت جماعة منصة موسكو انفراد هيئة تحرير الشام في تشكيل الوزارة الجديدة. وكذلك الاقتتال في منبج ومدن أخرى. وانسحاب قوات قسد من مدينة دير الزور، وتصريح متحدثها، بأن الانسحاب يمثل خطوة للمشاركة بالعملية السياسية، ليدفع بفكرة دولة المكونات والمحاصصة وفق نموذج عراقي محسن إلى الواجهة.
المتابع للحوارات التلفزيونية يتلمس لغة الأمل التي يبثها المشاركون السوريون في هذه الحوارات، سواء كانت صادقة، او تكتيكية، والشي نفسه فعله اشقاؤهم العراقيون قبل أكثر من 20 عاما. وبالتالي فان القاء الضوء على الدروس والمآلات المحتملة لمسار ما يدور في سوريا والذي سيصبح تجربة بعد حين مهم جدا ليس لمستقبل سوريا فقط، بل لإمكانيات التغيير المرجو في العراق.
من الضروري التأكيد على أن الولايات المتحدة وإسرائيل والمراكز الإقليمية في منطقتنا، سواء تلك السائرة في ركابها والمختلفة معها لها مصالحها وأولويتها، بعيدا عن الثوابت الإنسانية ومصالح شعوب بلداننا، ولكن الأنظمة الاستبدادية الشمولية، مثل نظامي البعث في العراق وسوريا، هي التي رسخت الخراب، وفتحت أبواب البلاد للغزاة و "المحررين"، قد تبدو هذه الحقيقة معروفة، ولكن هناك فرق بين ان تعرف حقيقة ما، او تعيش تفاصيلها المأساوية، كما عشناها في العراق، او كما يُحتمل ان تتكرر في سوريا.
الخراب المشار اليه يحدث في عالم تحكمه قوى هيمنة منفلتة ولا إنسانية، وتجري فيه عملية فرض الواقع بالعنف والإبادة بأبشع صورها، كما نعيشه اليوم في فلسطين المحتلة ولبنان، يقابل هذا الانفلات الهمجي غياب مشروع تحرري ديمقراطي مؤثر، على الرغم من أن قواه ليست غائبة عن الساحة، وهذا في تقديري يعود للقمع المستمر منذ عقود ضد قوى اليسار والسلام والتقدم في هذه البلدان، وغياب التوازن في معادلة الهيمنة في العالم، نتيجة لغياب الاتحاد السوفيتي والمعسكر الذي كان يقوده، بكل ماله وما عليه.

الأسد وإضاعة الفرص
كان بإمكان بشار الأسد ان يجنب سوريا، وحتى نظامه وحزب أبيه هذه النهاية، فالطبيب الشاب الوارث للسلطة أضاع على الأقل ثلاث فرص أساسية للإفلات من هذه النهاية، الأولى عندما تولى مهام منصبه قبل 24 عاما، حيث خضع لإملاءات مراكز القوى في نظام الأب، ولم يبادر بتدشين حد أدنى من الإصلاح، والثانية في عام 2011، عندما احتج السوريون سلميا، ووفروا له ولنظامه فرصة ذهبية لمغادرة دولة الاستبداد صوب دولة وطنية تحتضن الجميع. وبدلا من ذلك كان الولد على سر أبيه، ولم يجد سوى العنف ردا على الشبيبة الباحثة عن وطن. ثم جاء تدخل المراكز المتصارعة إقليميا ودوليا، ليحول البلاد إلى ميدان أول لتغيير توازن القوى في عالم تسوده الرأسمالية، وتجري الصراعات فيه بإطارها. لقد تحولت سوريا إلى ميدان مفتوح للعديد من الجيوش النظامية والمنظمات المسلحة وعم الخراب وتوزع ملايين السوريون في شتى بقاع الأرض. وكانت فرصة النظام الأخيرة نتيجة لاتفاق استانا، الذي فرض توازنا هشا، صاحبه قرار أممي تضمن، ضمن أمور أخرى، خطوات للإصلاح كان على النظام القيام بها، لكن النظام استرخى وتوقع أن الدعم الروسي والإيراني دائم، وكان من الصعب عليه قراءة ما فرضه الغزو الروسي لأوكرانيا، وما جرى في غزة ولبنان والاشتراطات التي فرضت على روسيا وإيران اللذين وجدا من غير المفيد لهما الاستمرار في حماية استمرار نظامه.
لقد انهارت القوات النظامية لضعفت معنويات الجيش بسبب انخفاض الرواتب وتفشي الفساد داخله. ان الجيش الذي يحصل بالكاد على ما يقتات علية، تكون استعداداته للمواجهة والتضحية متدنية جدا، وحتى معدومة، كما ان صفقات التسليح والدعم المالي كانت واحة للفساد.
استكمال فصول الهيمنة الإسرائيلية
مع استمرار فصول الإبادة الجماعية في غزة ولبنان، سارعت إسرائيل لتدمير القدرات العسكرية السورية في البر والبحر عبر أكثر من 400 غارة جوية، تحت أنظار وصمت العالم، على الرغم أن سقوط الأسد لا يعني زوال سيادة سوريا، البلد كامل العضوية في الأمم المتحدة، فضلا عن احتلال مساحات شاسعة جعلت جيش الاحتلال يقف على مشارف دمشق. إن ما يجري يؤكد حقيقة أهداف " الشرق الأوسط الجديد"، الذي يعني في الواقع تعزيز الهيمنة الأمريكية، بواسطة إطلاق يد إسرائيل في المنطقة وتكريس عمليات التطبيع معا.
ختاما يمكن القول إن مستقبل سوريا مفتوح على بدائل متناقضة، أفضلها وصول الجماعات المسلحة وتعبيراتها السياسية إلى اتفاق لبناء دولة مواطنة وتعزيز دور العامل الداخلي على حساب دور المراكز الإقليمية والدولية الفاعلة في الملف السوري، في ضوء الاستفادة من التجربة المرة في العراق، او السقوط في دولة مكونات المحاصصة والفساد ومراحل تبلورها.