كيف تتعامل الماركسية مع نظرية وممارسة إنهاء الاستعمار؟ / فلوريان غايزلر
رشيد غويلب
الحوار المتمدن
-
العدد: 8116 - 2024 / 9 / 30 - 20:16
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
ترجمة
على عكس العلوم الطبيعية، لا يمكن الإجابة على أسئلة العلوم الاجتماعية بالتجارب، على الأقل، عندما يتعلق الأمر بالسياقات التاريخية الكبيرة. لا يمكننا مثلا، أن نبين بشكل تجريبي إمكانية وكيفية نشوء وتطور الرأسمالية، بدون التكامل مع التمييز الجنسي. وكذلك لا يمكننا أن نقرأ ببساطة من البيانات المتوفرة العلاقة بين الاستعمار والرأسمالية. هل يسبق أحدهما الآخر؟ أو، على العكس من ذلك، هل ان منطق رأس المال يتكامل دائما مع حركات التوسع الملموسة؟
قبل أي مسح تجريبي، يجب أن تكون مثل هذه الأسئلة، سواء أردنا ذلك أم لا، موضوعا لتصور مفاهيمي مدروس جيدًا. لقد ظهرت الماركسية أيضا تحمل ادعاء التعامل مع مثل هذه المحددات النظرية الضرورية للعلاقات والتي يصعب فهمها في الحياة اليومية. وما قد يبدو وكأنه تكهنات فلسفية زائدة عن الحاجة أو كلام مكتسب يصبح تفجرا سياسيا من وجهة نظر المتضررين. لأن الأفراد الذين كانوا على صلة مباشرة بالعواقب والآثار الجانبية للممارسات الاستعمارية الأوروبية لديهم مصلحة مفهومة في الحصول على إجابات مرنة لمثل هذه الأسئلة التي يفترض أنها مجردة حول كيفية هدم علاقات التبعية المتنامية بشكل فعال، - وكذلك الحق في القيام بذلك.
الرأسمالية المتناقضة
في أيام 22 - 24 تموز، التقى قرابة 100 مختص في مبنى القسم الداخلي في حرم بوكنهايم الجامعي في مدينة فرانكفورت في غرب المانيا لمناقشة هذه الأسئلة تحت شعار “الماركسية وإنهاء الاستعمار”، وركزت الجامعة الصيفية التي استمرت ثلاثة أيام على السير الذاتية لشخصيات من حركات مقاومة الاستعمار الماركسية ورؤيتهم حول الأسئلة الكبرى المتعلقة بالتاريخ والمجتمع. لقد تحدثت البروفيسورة إنكارناسيون غوتييريز رودريغيز من جامعة غوته في فرنكفورت عن الترابط بين الاستعمار والرأسمالية في مجال الهجرة وأعمال الرعاية. وسلط المؤتمر الضوء بشكل خاص على الفرق بين ما يسمى بنظريات ما بعد الاستعمار من ناحية وتقاليد إنهاء الاستعمار من ناحية أخرى. وكانت هناك محاضرات وورش عمل ألقتها كولجا ليندنر من باريس، بالإضافة إلى استقبال المفكر البيروفي خوسيه مارياتيغي والمفكر الفرنسي المناهض للاستعمار فرانز فانون. لقد برز الطابع المتناقض للرأسمالية كأحد أكبر التحديات في تحديد العلاقة بين السيطرة الرأسمالية والسيطرة الاستعمارية.
فمن ناحية، ينتشر هذا الطابع المتناقض عالميًا ولا يؤدي إلى تحويل كل شيء إلى سلعة فقط، بل يؤدي أيضا إلى خلق علاقة بين فضاءات حياة مختلفة جدا ومن ناحية أخرى، ولا يؤدي إلى مساواة أنماط الحياة، بل إلى زيادة الاختلافات. إن ظهور طبقة برجوازية في أوروبا، على سبيل المثال، دست نفسها بين الطبقتين العليا والدنيا القديمة، لتصبح نمط الحياة المهيمنة الجديدة، لا يؤدي تلقائيا إلى تطور مماثل في أجزاء أخرى من العالم.
على العكس من ذلك: تم منع تطور قارات بأكملها حتى تكون المواد الخام اللازمة لظهور مجتمع الطبقة الوسطى البرجوازية متاحة. ينبغي الحصول على السكر والصوف والأسمدة بأسعار رخيصة قدر الإمكان؛ ولكن في الوقت نفسه، كان لا بد من أن يكون هذا الاستغلال قاسيا حيثما إمكن، حتى وان كان من وجهة نظر اقتصادية بحته غير عقلاني. وبقدر أهمية الاستغلال الاقتصادي، كان الحفاظ على اختلاف هرمي وعنصري شديد، والحط الهيكلي من قيمة كل شيء غير أوروبي، شمل الناس وثقافتهم على حد سواء.
فبدلاً من التطور نحو التبادل المتساوي بين الشركاء المتعاقدين المتساويين، كما تحب المراكز العالمية أن تصف توزيع ثرواتها، كان علينا في المنطقة الاستعمارية أن نتحدث عن التخلف المستهدف.
وفقا للاتجاه العام السائد في الجامعة الصيفية، لا يزال من الممكن اليوم، فهم هذه الظاهرة بشكل أفضل اليوم باستخدام أدوات التحليل الماركسي.
أحد المفكرين الرئيسيين الذين وصفوا هذا التخلف كان المؤرخ الأفريقي والتر رودني.
في محاضرتها حول عمله، تحدثت الكاتبة بافتا ساربو (كاتبة افرو-المانية – المترجم) ضد دمج شخصيات تاريخية مثل رودني في نشريات ونظريات حديثة تهتم أساسا بتوجه تعددي. وفق ساربو، فإن رودني بشكل خاص، مثل العديد من مفكري جيله، لا يرى نفسه ممثلًا للماركسية المناهضة للاستعمار أو الماركسية السوداء، بل ماركسيا، دون أي إضافة خاصة أخرى. ان الموضة الفكرية، لربط الخطابات السياسية المقاومة بعلامة “انهاء الاستعمار”، يؤدي احيانا إلى تجاهل محتواها الفعلي ودفع عملية إنهاء الاستعمار المادية الحقيقة إلى الخلف تماما.
ان اعمال رودني هي أكثر من محاولة عدم تقديم أفكار ماركس كحالة اوربية خاصة، بل كخطوة نحو نظرية عامة للتاريخ.
هل هو مجرد تفكير غربي؟
لفترة طويلة، كان نمط التفكير هذا يعتبر قديم. في الثلث الأخير من القرن العشرين خصوصا، تم إلى جانب الاستغلال والظروف غير المتكافئة والتنمية المحاصرة، اكتشاف موضوع العنف المعرفي أيضا، وهذا لا يعني العنف الجسدي الذي يصاحب الاستعمار، بل يعني الهيمنة الثقافية التي تمارس على الناس والحياة الثقافية وبشكل مركزي، على النموذج الاجتماعي العلمي وبناء المفاهيم الذي تمت اليه الإشارة في البداية. لن يكون التخلف المتعمد للمجتمعات، هو الشيء الفاضح في الاستعمار فقط، بل أولا نشوء مفهوم محدود جدا لما يمكن اعتباره تنمية بشكل مطلق.
ببساطة، يدور الخلاف حول مدى تعبير أفكار التقدم والتنمية المتأثرة بأوروبا حقًا عن المصالح الخاصة لفئة صغيرة نسبيًا من الناس، أو أنها لا تحتوي على مبادئ عالمية وقابلة للتعميم.
ويدور الجزء الأكبر من صراع نظريات الاستعمار المختلفة حول سؤال، اين يمكن ترسيم هذه الحدود. يمر ترسيم الحدود هذا أيضا عبر الماركسية. وكان عالم الاجتماع جوليان جو من شيكاغو قد أشار في عام 2013 بوضوح إلى أنه حتى الأسئلة ذات النوايا الحسنة والتي تبدو ماركسية كلاسيكية مثل “لماذا لم تطور الطبقة العاملة الهندية وعيا ثوريا” لا تساعد كثيرا، بل إنها تسبب ضررا في كثير من الأحيان. لقد نشروا فكرة أن تطور الاستعمار الهندي يجب تحليله وفق معايير استغلال العمال الإنكليز. وهذا يؤدي الى الغاء عدم إمكانية المقارنة الفعلية بين الجانبين.
ان القبول بوجهة النظر المعقولة القائلة، بأن نجاحات الطبقة العاملة الإنكليزية لا يمكن تفسيرها، الى حد كبير، الا بتوظيف إنجازات الإمبراطورية البريطانية، وبهذا تصبح على الأقل صورة العمال باعتبارهم القوة الثورية الوحيدة أو الأساسية موضع شك. ويمكن العثور على اعتبارات مماثلة عند المفكر الماركسي اللبناني مهدي عامل، الذي قام بعرض عمله في المؤتمر الباحث في معهد العلوم الإسلامية في كيل Lauan Al-Khazail (لاوان الخزاعيل) في فرانكفورت. عند مهدي عامل يصبح واضحا مدى الصراع حول مفاهيم انهاء الاستعمار في الممارسة العملية. من ناحية يرفض عامل موقف المفكر الفلسطيني – الأمريكي إدوارد سعيد،، الذي فهم الماركسية أيضا على أنها “استشراق” - أي باعتبارها وهما رومانسيا، تضاد خارجي وهمي للعالم الأوربي.
ان الشرق لا يُدرس فيها حقا، بل يُوظف كسطح لإسقاط الأوهام الأوروبية. من ناحية أخرى، يدافع عامل عن مشروع جعل الماركسية قابلة للتوظيف حقا في النضالات المناهضة للاستعمار بدلاً من تفكيك توقعاتها. ومن ناحية أخرى، يعارض عامل محاولات المثقفين البرجوازيين العرب لجعل خيال طريقة تفكير عربية حقيقية أساسا لعمليات التحرر الوطني. إن رفض أفكار التحرر الماركسية يتناسب مع مفهوم هذه المحاولات.
حراك دائم
في روسيا الثورية كان النقاش يدور بشكل مماثل: كيف يمكن للثورة أن تنجح في بلد ذات تصنيع ضعيف نسبيا؟ هل يمكن تخطي مرحلة المجتمع البرجوازي في الطريق الى الاشتراكية؟ يجب أن تأخذ الإجابة في الاعتبار أن تطبيق القيم والمؤسسات البرجوازية لا يعني بالضرورة انتظار ظهور برجوازية فعلية. وكذلك، ليس على العلوم الاجتماعية أن تنتظر بسلبية وصبر نتائج “تجارب” مسار التاريخ.
وفي نهاية المؤتمر، رسم الفيلسوف الاجتماعي الألماني إيفو إيشهورن أيضا صورة للماركسية باعتبارها تقليدا فكريا في حالة تغير وتطور مستمرين.
ان هناك أسئلة فلسفية وجودية – ما هو الانسان، ماذا يحتاج، وماذا يريد؟ وفق أي قانون يسير التاريخ؟ – أسئلة لا تسمح بالإجابة عليها. لذلك من الأفضل للماركسية، ان تضع الصراع حول لعبة الالفاظ جانبا، بدلاً من الرغبة في اتخاذ قرار بطيها أو كسرها. إذا وظفت الماركسية بشكل صحيح، دون الوقوع ي فخ التعميمات الخاطئة، والتركيز على تفكيك طريقة التفكير الغربية فقط، لنشر فلسفة يفترض انها أكثر أصالة، فان هناك فرصة لمزيد من التطوير المفاهيم والأفكار النظرية الماركسية، وهي بالتأكيد تستحق ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت المقالة في جريدة نويز دويجلاند في 9 آب 2024