القرآن محاولة لقراءة مغايرة ١٦١
ضياء الشكرجي
الحوار المتمدن
-
العدد: 7559 - 2023 / 3 / 23 - 19:11
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
القرآن محاولة لقراءة مغايرة ١٦١
يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا كونوا قَوّامينَ للهِ شُهَداءَ بِالقِسطِ وَلا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلى أَلّا تَعدِلُوا اعدِلوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبيرٌ مبِما تَعمَلونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُم مَّغفِرَةٌ وَّأَجرٌ عَظيمٌ (٩) وَالَّذينَ كَفَروا وَكَذَّبوا بِآياتِنا أُولـاـئِكَ أَصحابُ الجَحيمِ (١٠)
جاء مطلع الآية الثامنة هذه في القرآن بصيغتين، تارة كما هنا بقول: «كونوا قَوّامينَ للهِ شُهَداءَ بِالقِسطِ» وتارة أخرى بقول «كونوا شُهَداءَ للهِ قَوّامينَ بِالقِسطِ»، ولا يستبعد أن المؤلف كان حائرا بين الصيغيتن، مستحسنا كلا منهما من زاوية نظر، فاستخدمهما كلاهما في موقعين مختلفين، ولأنه لم يؤلف القرآن دفعة واحدة، تبادرت إلى ذهنه الصياغة الأخرى، كما هو الحال مع الكثير من المواضيع التي تتكرر، أحيانا بنفس النص، وأحيانا بصياغة جديدة تتفاوت عما قبلها قليلا أو أكثر من قليل. ويبقى العدل والقسط هو القضية المركزية هنا،سواء كانت الدعوة أن يقوم الناس لله ويشهدوا بالقسط، أو يقوموا بالقسط ويشهدوا لله، ويكون جميلا، لو نفهم من ذلك قيم الله ومثله، مما يمكن أن ينطبق هذا حتى لغير المؤمنين بالله، إذا ما آمنوا بالمثل العليا، ولو إن القرآن لا يقيم وزنا للعمل الصالح من غير الإيمان، بل من غير الإيمان بالإسلام تحديدا. لكن تبقى الدعوة إلى القسط من أهم الدعوات التي يجب أن تتقدم على الدعوة إلى الإيمان. ويأتي المقطع الثاني من الآية التاسعة، ليعطي تفسيرا إنسانيا رائعا، يا ليت القرآن بقي سائرا على هذا النهج الجميل هنا، فالآية تنهى المسلمين عن أن يجعلوا لأنفسهم مبررا لمجانبة العدل بسبب ما يكون من علاقة بينهم وبين قوم آخرين، توصف أي العلاقة بينهما بالشَّنَآن، بمعنى الكراهة والعداوة بأقصى درجاتها، وحتى لو تكون تلك العداوة غير مقتصرة على المشاعر، بل تكون ذات فاعلية هائجة، مما دعى إلى استخدام الشنأ على وزن فَعَلان، الذي يؤدي إلى معنى الفاعلية الشديدة، مثلما يقال فَيَضان، هَيَجان، فَوّران، سَيَلان، طَوَفان، حَيَوان، وغيرها. إذن حتى هذه الدرجة من العداوة والبغضاء بينهم وبين قوم آخرين، لا ينبغي أن يبرر لهم ألا يعدلوا، بل عليهم أن يعدلوا حتى مع هؤلاء، مما يكون أقرب إلى تجسيد تقواهم، التي هي من المراتب العليا للإيمان فكرا وشعورا وسلوكا.
يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اذكُروا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم إِذ هَمَّ قَومٌ أَن يَّبسُطوا إِلَيكُم أَيدِيَهُم فَكَفَّ أَيدِيَهُم عَنكُم وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنونَ (١١)
وهنا دعوة للمسلمين أن يذكروا نعمة الله عليهم، إذ كاد قوم معادون لهم أن ينتصروا ويبسطوا سلطتهم عليهم، فيضطهدوهم في عقيدتهم، فتدعوهم هذه الآية لاستشعار نعمة الله عليهم، إذ حال دون تمكن أعدائهم عليهم، مجسدين شكرهم له على نعمته هذه بالتحلي بالتقوى، وأن يكون توكلهم واعتمادهم وتعويلهم على الله وحده، طبعا مع توفير مستلزمات النجاح من قبلهم، فلا التوكل يجزي من غير سعي، ولا السعي يؤدي إلى النتائج المرجوة، إلم يكن مقترنا بالإيمان والتوكل على الله. لكننا ومن خلال تجارب التاريخ وتجارب الأمم والشعوب التي نعاصرها، نعلم أن النجاح والفوز والنصر، غير متوقف على الإيمان، ولا على التوكل، بل حتى غير متوقف على الإيمان بالمثل الإنسانية العليا، فكم من معتد عدواني وظالم ينتصر على أصحاب القضية الحق.
وَلَقَد أَخَذَ اللهُ ميثاقَ بَنـي إِسرائيلَ وَبَعَثنا مِنهُمُ اثنَي عَشَرَ نَقيبًا وَّقالَ اللهُ إِنّي مَعَكُم لَإِن أَقَمتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلي وَعَزَّرتُموهُم وَأَقرَضتُمُ اللهَ قَرضًا حَسَنًا لّأُكَفِّرَنَّ عَنكُم سَيِّئاتِكُم وَلأُدخِلَنَّكُم جَنّاتٍ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ فَمَن كَفَرَ بَعدَ ذالِكَ مِنكُم فَقَد ضَلَّ سَواءَ السَبيلِ (١٢)
ثم تنتقل بنا هذه الآية والتي بعدها إلى الكلام عن بني إسرائيل خصوصا، ثم عن أهل الكتاب عموما. ولا نريد أن نتوقف كثيرا عند الميثاق الذي أخذه الله من بني إسرائيل، وعن أي طريق أخذه منهم، وما إذا يكون الخلف مسؤولا عما واثق السلف الله عليه، فلقد تكرر ذكر ذلك مرارا في القرآن. لكن من الجدير هنا وفي مواقع أخرى طرح السؤال في سر العدد اثني عشر، والعدد سبعة، وكذلك ستة، وبدرجة أقل العدد ثلاثة في القرآن، بل في كل النصوص الدينية، سواء في كتب الأديان التوحيدية عموما، والإبراهيمية خصوصا، أو في كتب أديان أخرى، بما فيها تلك التي تعتمد تعدد الآلهة، بل ونجد هذه الأعداد كثيرا ما ترد حتى في أساطير ما قبل الأديان.
فَبِما نَقضِهِم مّيثاقَهُم لَعَنّاهُم وَجَعَلنا قُلوبَهُم قاسِيَةً يُحَرِّفونَ الكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِي وَنَسوا حَظًّا مِّمّا ذُكِّروا بِهِي وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِّنهُم إِلّا قَليلًا مِّنهُمُ فَاعفُ عَنهُم وَاصفَح إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحسِنينَ (١٣)
ثم تصب عليهم هذه الآية لعنات الله، لكونهم قد نقضوا الميثاق، وبكل تأكيد كانت سترفع عنهم اللعنات وتستبدل بالرحمةـ وبما ذكر في الآية السابقة من جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، لو كانوا قد استجابوا لدعوة الإسلام وتحولوا إلى هذا الدين الجديد، وهذا ما أشير إليه في الآية السابقة، وهو شرط الإيمان برسله، وتعني كل رسله المفترضين، لأنهم لم يؤمنوا لا بعيسى الذي جاء بعد موسى، ولا بمحمد بعد ذلك، وهذا هو الأهم، وهو بيت القصيد. فالمشكلة معهم إذن هو عدم تحولهم إلى دين الإسلام بشهادة أن محمدا رسول الله، طبعا بعد تأكيد الإقرار بمشترك ألا إله إلا الله، الذي يفترض أنهم من حيث المبدأ يلتقون فيه مع المسلمين، لكن لعلمنا أن حتى الذي يؤمن بذلك، قد لا يكفي، إلا إذا نطق بالشهادة الأولى هذه كما ألزم بها الإسلام، وإلا إذا اقترنت بالشهادة الثانية، وذلك كما نسمعهما عشر مرات يوميا في خمسة أذانات يوميا، في كل أذان مرتين، ولو إنها عند الشيعة ست مرات في ثلاثة أذانات لخمس صلوات. لكن الجميل إن الآية تدعو نبي المسلمين أن يعفو ويصفح عنهم، وهذا في غاية الليبرالية، لكننا علمنا إن هذا العفو والصفح لم يدوما، ولسنا، هنا على الأقل، بصدد تحميل المسؤولية للمسلمين ونبيهم، أو تحميلها اليهود، بعدم التزامهم بالعهود كما يذهب المسلمون، فلكل مقولة ما يسندها وما يضعفها.