نشوئها مكة
سامي المنصوري
الحوار المتمدن
-
العدد: 4408 - 2014 / 3 / 29 - 23:56
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مكة ونشوئها
بحوث و مقالات وتعليقات من مصادرها
بحث: الاسباب الحقيقية لنشوء مكة
يا ترى لماذا نشأت مدينة مكة، المدينة المقدسة الاولى عند المسلمين؟
ما هي المبررات الاقتصادية والظروف السياسية في ذاك الزمان التي قد تؤدي الى ازدهار مدينة في وسط الصحراء في بيئة قاحلة وصعبة على السكن والاستيطان؟
هل كانت فعلا مدينة مكة موجودة ايام ظهور الاسلام ام انها استحدثت فيما بعد ايام الدولة الاموية كما تشير باتريشيا كرون P. Crone؟
لماذا لم تذكر مدينة مكة في المصادر القديمة غير الاسلامية اذا كانت لها مثل هذه الاهمية؟
نريد في هذا الموضوع ان نبحث – اكاديميا- حول الحقيقة التاريخية الضائعة.
ان هذا الموضوع يحوي معلومات احسب انها خطيرة، ومدهشة الى حد انها قد تتسبب في عقد لسانك، لقد ضاعت الحقيقة دهراً طويلاً.
وها قد آن الاوان ان يكشف البحث العلمي الرصين، الحقائق التي غابت عنا.
النظريات التقليدية
كانت النظريات الاسلامية تطرب اسماعنا بالحديث على نغمة ان مكة تعد من اقدم المشاهد والمدن في المنطقة وانها تعود الى زمن ابراهيم، وان قريش استوطنتها بعده وتحولت في القرن السابع الهجري الى مدينة تجارية ودينية عظيمة بحسب موقعها المتوسط بين اليمن والشام وتحدثنا الكتب الاسلامية عن رحلة الشتاء والصيف والايلاف وغيرها من الاحاديث الاعجازية المعتادة في اي دين، وعلى نفس النغمة وجدنا بعض الباحثين والمستشرقين الغربيين، الذي اصروا على صعود مكة كمركز تجاري مع بواكير انهيار الامبراطورية الساسانية وتحول طرق التجارة. وبالاخص نذكر اعمال واط Watt و لامنس Lammens وكيستر Kister ولكن المشكلة ان اغلب هؤلاء اعتمدوا على مصادر اسلامية في اعمالهم وهو امر يضر بحيادية البحث ودقته(Crone 1987:3).
ان نظرية كون مكة مركز تجاري مهم، قد قوبلت بالكثير من النقد من عدة باحثين في هذا المجال، الى الحد الذي دفع الكثير من الباحثين الى اهمال الادعاءات الواردة في هذا المجال في الكتب الاسلامية، لننظر معاً الى الاعتراضات المقدمة في هذا المجال (1):
1- قام الاستاذ بوليت ببحث مكثف عن طرق التجارة في الشرق الاوسط، واكتشف بوليت ان مكة لم تكن على طريق التجارة الرئيسية بين اليمن والشام كما يزعم المسلمون وبعض المستشرقين، يرى بوليت ان مكة مدسوسة بعيداً على حافة شبه الجزيرة، وانه فقط باغرب قراءة لخريطة المنطقة واكثرها تحريفاً يمكن ان توصف مكة بانها محطة طبيعية بين طريق الشمال والجنوب والشرق والغرب (Bulliet 1975: 105).
2- وتأكد هذا الكلام ببحث اضافي قام به كل من كروم و موللر، حيث وجدا ان مكة لم يكن من الممكن ان تكون محطة في وسط طريق القوافل لان هذا كان يتضمن انحراف عن الطريق التجارة الطبيعي، وان مكة كانت تبعد حوالي 100 ميل عن طريق التجارة (Groom 1981: 193--;-- Muller 1978: 723).
3- الاستاذة باتريشيا كرون، احتجت بان مكة كانت موقع مقفر، والمواقع المقفرة لاتشكل محطات استراحة خصوصاً مع وجود مواقع خضراء قريبة، اذ لماذا تكون مكة وهي الوادي المقفر محطة للقوافل بينما كان بامكان القوافل ان تتوقف في الطائف، حيث تستطيع الطائف توفير الغذاء وكل ما توفره مكة؟ (Crone 1987:3-7).
4- لكن السبب الاهم في رأيي هو ما تحتج به الاستاذة باتريشيا ايضاً في هذا المجال، اذ انها تتساءل: ما هي السلعة التي كانت متوفرة للعرب بحيث ينقلونها كل هذه المسافة الطويلة خلال الصحراء القاحلة العديمة الزرع ومع هذا يبقى هناك فوق كلفة السلعة والنقل من الربح بحيث يكفي لدعم نشوء مدينة مثل مكة وازدهارها خصوصا وهي مدينة مقفرة وقاحلة؟ (Crone 1987: 7). بكلام اخر اننا نسمع ان العرب كانوا يتاجرون بالعطور، فاذا اضفنا كلفة نقل العطور خلال الصحراء وعلى ظهور الجمال لكل هذه المسافة الطويلة، فان كلفة النقل ستزيد من سعر السلعة اضعافاً، فحتى لو وجد هؤلاء من يشتري منهم فان هامش الربح سيكون من القلة بحيث لايكفي لنشوء مدينة في وسط الصحراء.
5- ويبدو ان باتريشيا لم تكتف بهذا الحد، فقد وجدت باتريشيا ان 15 من التوابل التي يقال ان مكة كان تتاجر بها، وجدت ان ستة منها اصبحت قديمة وغير صالحة للتجارة مع بداية القرن الميلادي الاول، واثنان منها كانت تجلب عن طريق البحر، واثنان اخران كانا يستوردان حصرياً من شرق افريقيا، واثنان اخريين لم يكن من الممكن التعرف عليها، هذا بالاضافة الى ان النوع الاخير لايخلو من اشكال ! (Crone 1987: 51-83).
6- ولعل احدى اهم نقاط الضعف الاخرى، هي لماذا يفضل احد ما ان يتاجر خلال البر وعن طريق مثل هذه البيئة الصحراوية مستغرقاً زمناً طويلاً للنقل بينما كان يتوفر طريق بحري للنقل، تحتج باتريشيا بانه في زمن القيصر ديوكلتيانوس Diocletian كان نقل القمح خلال البحر لمسافة 1250 ميل ارخص من نقله 50 ميل خلال البر (Crone 1987: 7)، فلماذا يقوم التجار القادمون من الهنود بافراغ حمولة سفنهم في عدن، ومن ثم يحملونها على ظهور الجمال خلال الصحراء القاحلة كل هذه المسافة الطويلة وباتجاه غزة، بينما كان بامكانهم ان يستمروا بالطريق البحري خلال البحر الاحمر وصولا الى جنوب فلسطين وهو الخيار الاسرع والاقل كلفة؟
7- وكأن كل هذا لايكفي ! فانه حتى مع افتراض قيام مكة فعلياً بالتجارة فمع من كانوا يتاجرون؟ خصوصاً بعد انهيار سوق الروم (البيزنطينيين) في البحر المتوسط بعد القرن الثالث الميلادي، فمع من كان العرب والقريشيون يتاجرون؟ في الحقيقة فان التجارة في ذاك الزمن كان يتحكم بها الاثيوبيون عبر مدينة ادوليس الواقعة على شواطئ البحر الاحمر، وهكذا فان ادوليس كانت هي المركز التجاري في ذلك الزمن وليس مكة (Ibid: 11, 41-42).
8- لكن الاغرب من هذا، ان المصادر الرومية لم تذكر اي شيء عن مدينة اسمها مكة، فاذا كان لها كل هذه الاهمية وكان القرشيون يتاجرون مع روما، فلماذا لم يذكرها احد المؤرخين الروم على الرغم من انهم ذكرو الكثير من المدن الاخرى (ومنها خيبر)؟ وعلى الجهة المقابلة نجد ان الساسانيين ذكروا مدينة يثرب، وذكروا تهامة ولكنهم لم يذكروا مدينة اسمها مكة، على الرغم من انه بحسب المزاعم الاسلامية ومزاعم المستشرقين فانه كان من المفترض ان تكون مكة تحتل الذكر الاول عند هذه الامبراطوريات باعتبارها المركز التجاري والديني الرئيس عند العرب قبل الاسلام (Ibid: 11, 41-50).
ويبدو ان باتريشيا ومايكل كوك قررا ان يقدما اطروحة جديدة وجدلية لتفسير ظهور الاسلام، وهي ما يعرف بالهاجرية hagarism حيث رأت باتريشيا ومايكل كوك، انه بالاعتماد على اقدم ذكر لمكة من مصدر غير اسلامي (في زمن هشام بن عبد الملك) وبالاعتماد على بحث اجراه فان ايس ، ذكر فيه ان بعض الرحالة من المدينة الى العراق قد مروا بمدينة اسمها مكة، وهذا لايمكن ان يكون صحيحاً الا اذا كانت مكة شمال المدينة وليس جنوبها (Van Ess 1971: 23, 171)، فرضية باتريشيا ومايكل تقول ان محمد كان مهرطق يهودي، يتبنى ديناً يدعي انحداره عن طريق هاجر جارية ابراهيم (ولهذا اشير اليهم بالهاجريين) وان محمد كان يشارك اليهود رغبتهم في تحرير القدس من البيزنطينيين، ولهذا توحد معهم في دين وسيط بين الهاجرية واليهودية، وان الاشارات التي ترد في الاسلام عن الهجرة والمهاجرين انما يقصد بها الهجرة الى القدس، وان محمد كان قائد حملة يهودية لتحرير القدس، ومع مرور الوقت تنامى الحس القومي عند الهاجريين وقرروا الاستقلال الفكري والديني عن اليهود فكان الاسلام، ورموز الاسلام وقبلته الجديدة وكتابه الجديد. وبحسب هذه الفرضية فان القرآن تم تأليفه ايام عبد الملك بن مروان (Crone & Cook 1977).
لكن فرضية كرون وكوك ليس لها ما يساندها، بل وجدت ان دكتور علي خان (كلامه غير موثق) يدعي انه اتصل بهما تلفونياً في عام 2006 وسألهما فيما اذا ما كانا لايزالان يتبنيان هذه النظرية وقد اجابا بالنفي (Khan ?)
وفي الحقيقة فان هذه الفرضية تبدو لي مثل نظرية المؤامرة، بل انها لاتخلو من نفس المشاكل التي تحاول باتريشا التخلص منها، لاننا سنسأل نفس السؤال، اذا لم يكن لمكة اي دور تاريخي وكان حتى وجودها مشكوكاً فيه، فما الذي يدفع شخص ما ان يبني مدينة في وسط الصحراء ويدعو الناس الى الحج اليها؟ واذا كانت هذه المدينة اسست زمن الامويين فلماذا يقوم الخليفة الاموي بتأسيس مدينة تستقطب المسلمين من كل مكان في وسط الصحراء بينما كان بامكانه ان يضعها في الشام حيث يمكن ان يستفيد من ربحها الوفير ومن التحكم والتوجيه لكل الشعب المسلم؟ ولماذا يضع عبد الملك بن مروان قرآن يشتم اباءه واجداده ويصف جده بالمحتال بينما يصف الهاشميين وهم غرمائهم التقليديين بكل خير بل يصفهم بانهم انبياء؟ الم يكن من المفروض ان يزعم انه هو فرع شجرة النبوة ونتاجها بدل ان يكتب لعنات متواصلة عن اباءه ومديح مستمر للهاشميين؟
وحتى تكون هذه المناقشة امينة، فانه بالفعل ترد في بعض المصادر (اغلبها شيعية) ان بني امية حاولوا ان يقنعوا الناس بانهم هو ورثة محمد، وهناك من المصادر ما يذكر ان القرآن تم التلاعب به عدة مرات، ولكن ان يتم تأسيس قرآن جديد ومدينة جديدة وكل هذه الفرضيات دون ان نجد مصدر اسلامي واحد يذكرها هو امر بمنتهى الغرابة.
ولكن رفضنا لاطروحة الهاجريون لايحل اي اشكال، فلماذا نشأت مكة؟ وماذا كان يفعل المكيون في مكة بالضبط اذا فرضنا ان موقعها الحالي هو نفس الموقع القديم؟
سنلاحظ ان الاعتراضات السبعة المذكورة ليست كلها على نفس المستوى من القوة ولاتعني كلها ان مكة لم تكن موجودة، فاذا لم تكن مكة قد ذكرت في الكتابات القديمة، فان كل ما يمكننا ان نستنتج من هذا هو انها لم تكن مدينة مشهورة مثلها مثل عشرات بل مئات المدن القديمة التي ظهرت واختفت ولم يذكر التاريخ القديم عنها شيئاً، انه يعني ان ما رواه المؤرخون المسلمون حول عظمة مكة ومكانتها ليس سوى مبالغة.
أما باقي الاعتراضات فلاتزال تلاحقنا، خصوصاً اننا في المرة القادمة سنواجه بحوث اثارية لاتقل اقلاقاً لموقفنا من التاريخ عن هذه الاعتراضات.
يا ترى هل فعلاً كان هناك مدينة اسمها مكة؟ ام ان التاريخ خدعنا مرة اخرى؟
لماذا تنشأ مدينة في موقع مقفر وبعيد عن الطرق التجارية بما لايقل عن 100 ميل؟
هل كانت لمكة تجارة عظيمة واهمية جغرافية كبيرة؟
لماذا لم تذكر مكة في كتابات المؤرخين القدامى من روم وساسانيين على الرغم من انهم اشاروا الى عدة مدن مثل يثرب وخيبر وتهامة؟
اين هي الحقيقة؟
اين الصواب فيما نقل الينا واين المبالغات والخطأ؟
(1) النقاط الثمانية المذكورة وردت في مناظرة بين جي سميث وجمال بدوي في جامعة كيمبرج سنة 1995 وليس لي منها سوى اعادة الصياغة والترتيب والعرض وذكر المصادر لان المناظرات لاتعد دليل اكاديمي
بحوث اثارية في شرق الجزيرة
الاستاذ ديريك كينيت في بحثه الاثاري في بعض المواقع في شرق شبه الجزيرة العربية زودنا بمعلومات لاتقل اهمية عن ما سبق ذكره في القسم السابق، فقد قام ديريك بتفحص ثلاث مواقع اثارية: هي مليحة Mleiha والدور Ed-Dur و كوش Kush وقد تم العثور في هذه المواقع على اثار قلاع ومقابر وعمل نقدية مختلفة يعود بعضها الى حوالي القرن الثالث قبل الميلاد (Kennet 2005). فيما يلي خارطة توضح صورة للاماكن المذكورة في النص:
ما اكتشفه كينيت يثير الدهشة، فقد كانت كمية الاثار التي تعود الى ازمنة اقدم اكبر من كم الاثار التي تعود الى زمن احدث فكم العمل النقدية الذي عثر عليه في فترة ما قبل الميلاد اكبر مما في فترة بعد الميلاد، وبالاعتماد على فحص لشكل القلاع والمقابر توصل كينيت، الى ان هذه المستوطنات شهدت ازدهاراً كبيراً خلال الفترة بين القرن الثالث قبل الميلاد وحتى القرن الاول او الثاني الميلادي، يتجسد هذا في مقدار العمل النقدية التي تم العثور عليها والتي تعطي انطباع عن مقدار تداول النقد الكبير الذي كان يجري في تلك الفترة في هذه المستوطنات (Ibid: 114).
وخلال الفترة بين القرن الاول/الثاني وحتى القرن الرابع/الخامس الميلادي، بدأ ازدهار هذه المدن في الانحسار التدريجي فقل حجم النقد المتداول، يذكر كينيت ان الاستيطان الهائل في كل من مليحة والدور الملاحظ في الفترة السابقة قد انحسر كثيراً ولم يتبق منه سوى بقع محدودة احاطت بمساكن النخبة المحصنة، وان تغير طريقة الاستيطان توحي بتغير في التنظيم الاجتماعي منذ فترة سابقة، يرى نروثرج ان هذا التغير سببه وصول قبائل ناطقة بالعربية الى المستوطنة من جنوب الجزيرة مع صفات تراثية جديدة، يشير كينيت الى ان انهم ربما استعملو جزء من الحصون في مليحة والدور كمقابر للجمال. وبعد القرن الخامس الميلادي، فان حتى هذه البقع المحدودة قد اختفت، بينما كان موقعان اخران قد اصبحا صحارى تماماً (Ibid:115).
يبدو ان هذه المستوطنات كانت تحت سيطرة الساسانيين وان الساسانيين لم يعيروا تلك المناطق اهتماماً كبيراً، فليس فيها شكل العمارة المتقدم الذي كانت عليه القلاع الساسانية بين القرن الثالث والسابع الميلادي، فشكل القلاع فيها يقارب طراز القلاع في وادي الرافدين الذي كان سائداً خلال القرن الاول الميلادي. وبينما كانت هذه المناطق تشهد ازدهاراً تجارياً خلال الفترة الهلنسية، فانها عانت انحساراً خلال الفترة الساسانية، ويكمن التحدي في تفسير اسباب هذا الانحسار (Kennet 2007).
من غير المحتمل ان يعود الانحسار الى احتلال او تخريب تعرضت له هذه المناطق لان الانحسار كان تدريجي على مدى عدة قرون، مما يدل على ان انحسار ازدهار هذه المستوطنات كان لاسباب اقتصادية، يرى كينيت ان هناك سببان محتملان لهذا الانحسار، الاول: هو تغير طريق التجارة عبر توفر طريق بحري مباشر للتجارة القادمة من الهند وهو امر اضر بتجارة هذه المستوطنات وبالتالي انهيارها، والثاني هو انهيار سوق الروم على البحر المتوسط، وبما ان الثاني له ما يؤيده في النصوص التاريخية القديمة فان الثاني اكثر احتمالاً من الاول (Ibid: 2007).
طبعاً لاتزال الكثير من الاسئلة تتوسل الاجابة فيما يخص هذه المواقع، مثل ماهي الاسباب التي تدفع تلك المستوطنات لانشاء حصون منيعة؟ كيف نفسر التغير الاجتماعي الحاصل في هذه المستوطنات؟ هل ارتبط هذا التحول او هذا الانحسار باحداث مشابهة حصلت في غرب الجزيرة العربية؟ هل وجود الجمال يشير الى بدايات الاسلام، وان الاسلام في حقيقة الامر اقدم مما نظن؟ لاتزال الادلة اقل من ان تمكنا من الاجابة على هذه الاسئلة.
لكن ملخص القول، ان ما جرى في تلك المناطق يعزز نظرية طرق التجارة البحرية وبعد مكة عنها، فان انهيار سوق الروم، حوّل طريق التجارة نحو الحبشة وبالتالي فان الازدهار كان من نصيب الاثيوبيين وليس المكيين، وهو امر سيجعل السيطرة على جنوب الجزيرة العربية والحبشة من اهم مقاصد الساسانيين.
مرة اخرى، لم نجد ذكر لذلك الازدهار التجاري المكي والاهمية الجغرافية لمكة خلال الفترة التي يتحدث عنها الاسلام
شبه الجزيرة العربية بلا توابل
كما قلت سابقاً، فان ما تطرحه باتريشا بالاضافة الى عدة باحثين اخرين ليس كله على نفس المستوى من القوة بحيث يمكن اعتباره نقض لوجود مكة تاريخياً في هذا الموقع، فعلى سبيل المثال، فان المسار الفعلي لطريق التجارة لايرتبط فقط بالعوامل الجغرافية وما هو افضل اقتصادياً او عملياً بل يرتبط بعوامل اخرى قد تكون غير مرئية لنا، واهمها العوامل الاجتماعية والثقافية، مثل مقدار الامان المتوفر لطرق معين، العادات الاجتماعية التي تحكم مجتمع ما، والاتفاقات بين القبائل. ولهذا نجد ان الاستاذ بوليت اقترح ان تكون مكة قد قامت وبطريقة معينة بفرض سيطرتها على طريق القوافل وتحويله باتجاهها (Crone 1987: 7)، ولكن – مع ذلك- يبقى الاشكال الاقوى المطروح وهو ما الذي كانت تتاجر به مكة؟ فمواد مثل التوابل والاقشمة والجلود هي من التواضع بحيث ان كلفة نقل هذه المواد خلال الصحراء ستجعل هامش الربح من القلة بحيث لايمكن ان يسند ذلك قيام مدينة في منطقة قاحلة خصوصاً مع ما نسمع من البذخ الذي كان عليه المجتمع المكي في المصادر الاسلامية. فبماذا كانت تتاجر مكة؟
اكتشاف مذهل حول تجارة مكة
عزيزي القارئ، في الوقت الحالي، تحوي المملكة العربية السعودية على حوالي 782 تسجيل لوجود الذهب، وفي مواقع تتضمن ايضاً وجود الفضة والنحاس والرصاص والزنك، ونجد ايضاً ان 31 موقع من هذه المواقع يحوي ما يقدر بحوالي الف كيلوغرام من الذهب، بينما 99 منها يتضمن مقدار من الذهب يتراوح بين 100 و 999 كيلوغرام من الذهب (Heck 1999: 365).
يذكر الاستاذ جين هك ان العديد من هذه المواقع حوت ادلة اثارية على القيام بتعدين الذهب، وباستخدام طريقة الكاربون 14 (Carbon C-14) لبقايا من الاخشاب اخذت من اوعية للصهر، تبين ان عمليات التعدين تعود الى العصر الكلاسيكي للاسلام، ايضاً كشف الادلة الاثارية من بقايا الفحم في مهد الذهب ان عمليات التعدين تعود الى حوالي 3000 الف سنة !!! ثم الى عمليات تعدين جديدة بين 430 الى 830 ميلادية، اجريت نفس الابحاث في موقع جبل المخياط، ووجد ان التعدين فيه يعود الى نفس الفترة السابقة ومن ثم تكرر التعدين في نفس الموقع حوالي سنة 626 ميلادية، اما الفحوصات التي اجريت في موقع النقرة (يحوي ذهب ونحاس) فقد بينت النتائج ان التعدين فيها يعود الى ما بين 675-835 ميلادية، نفس الفحوصات اجريت في عدة مواقع تتضمن مناجم لمعادن مختلفة مثل السامرا، والمصانع وكشفت عن عمليات تعدين تعود للقرون الوسطى، انظر الخريطة التالية التي توضح المناطق التي كان يجري فيها التعدين في الجزيرة العربية في القرون الوسطى (Ibid: 365-366-381).
يروي الواقدي عن تفاصيل قافلة للحجازيين ذاهبة الى الشام، حيث كان فيها لبني مخزو 4000 مثقال من الذهب، ولبني عبد مناف 15000 مثقال من الذهب، والف مثقال من الذهب لكل من الحارث بن عمير بن نوفل و امية بن خلف (Ibid: 386)، وهناك خبر مثير يرويه ابو البقاء هبة الله، عن رجل تعجب حينما رأى قافلة لقريش بلا ذهب ! (Heck 2003). وفي الحقيقة فقد عد جين عشرات المصادر الاسلامية التي قوافل تجارة الحجازيين كانت تتضمن معادناً نفيسة !
لكن قبل ان نستمر، نحن هنا لانريد ان ننظر ان القرشيين كانو منقبين عن الذهب وان مكة هي في حقيقة الامر منجم ذهب، فنحن لانملك ما يساند هذا الموضوع، بل ان الامر مبكر على الحكم بهذا الاتجاه، كما انه من المهم للامانة العلمية ان اذكر ان جين هك هذا متأسلم اكثر من المسلمين انفسهم، وهو مصدر اشكالي باعتبار انه بوق غربي يغني بحب حكام السعودية والمسلمين، ولم اتمكن من مراجعة مصادره للتحقق منها لانه يعتمد على مصادر سعودية بالدرجة الاولى، ولكن يظل بحثه منشور في احدى دورية رصينة Journal of the American Oriental Society، كما انني لا ارى اي حل اخر لما تطرحه باتريشا سوى هذا الحل.
لكن لايزال الامر في بدايته فما يزال علينا ان نفسر لماذا لم يذكر هذا الامر من قبل الروم؟
تجارة الحجاز
ارى ان توفر معادن نفيسة في الجزيرة العربية، مع توفر الحاجة لهذه المعادن من قبل الامبراطورية الساسانية والبيزنطية (Heck 1999) هو مبرر كاف لقيام التجارة، فما دام هناك حاجة لسلعة فان التجارة تقوم، وعلى الاغلب فان ريع المعادن النفيسة كاف لدعم نشوء مدن في مواطن مقفرة او صحراوية. وقد كان بامكان العرب مقايضة هذه المعادن بالموارد الضرورية لدعم حياتهم في تلك البيئة من طعام وملبس وحاجات اساسية اخرى.
يبدو لي ان السبب الذي من اجله لم تذكر مكة في كتابات المؤرخين التابعين للامبراطوريات القديمة هو ان تجارة مكة لم تتم بصورة مباشرة مع تلك الدول، بل كانت التجارة تتم عن طريق وسطاء، وكان هؤلاء الوسطاء يشترون ما تجلبه مكة دفعة واحدة ومن ثم يتولون بيعه او نقله الى الامبراطوريات المختلفة.
لكي نفهم النقطة السابقة لابد ان ننظر الى الطريقة التي كانت تتعامل فيها الامبراطوريات مع ما يحيط بها من شعوب اخرى، فالساسانيون كانوا في حرب دائمة مع البيزنطينيين، وبغية تجنب الاستنزاف المستمر لقواتهما على طول الحدود بين الدولتين عبر الحروب والصراعات، كانت هذه الامبراطوريات تلجأ الى طريقة ذكية تقلل فيها من كلفة ابقاء جنود وقلاع حصينة على حدودها مع باقي الامبراطوريات، كانت هذه الدول تلجأ الى دعم الممالك التي تقع على حدودها مع الدول الاخرى، وتشجيع الاستيطان والسكن في هذه الممالك بحيث تعمل هذه المملكة المرتزقة والمتحالفة (افتراضياً) مع تلك الامبراطورية على صد الهجمات من الدول الاخرى، فهي على هذا مثل من يقف بوجه النار فيحمي من يقف خلفه، كان الغساسنة متحالفين مع الروم، بينما كان المناذرة تابعون للساسانيين. ونجد ان بعض ملوك المناذرة مثل المنذر بن ماء السماء يساعد الساسانيين في الحرب ضد البيزنطينيين ويحقق انتصارات مهمة، ومما يذكر في الكتاب المقدس ايضاً، نجد ان الفراعنة كانوا يدعمون اليهود في فلسطين بالسلاح كي يعملو كحائط صد لهجمات الاشوريين، عدوهم التقليدي. وهذه الممالك كانت لها دور كبير في التجارة مع عرب الجزيرة، وربما كانو مثل الوسطاء في التجارة بين مكة وباقي الامبراطوريات.
الجدير بالذكر ان علاقات التجارة بين قومين تؤدي الى خلق نوع من الجدل او العلاقات المتبادلة في الازياء والتشبه بين شعبين، فيحاول احد الطرفين التشبه بالاخر بالاعتماد على فرق الحضارة بين الشعبين، يعبر د. علي الوردي في دراسته لشخصية الفرد العراقي عن ذلك بقوله: ان صاحب النموذج الحضاري الارقى يفرض نموذجه الى باقي الشعوب، فمثلاً نلاحظ ان اليابان واندونيسيا والامارات ومدن اخرى بدأت تفقد بصمتها العمرانية التقليدية وتحولت باتجاه النمط الغربي في العمارة، وهكذا نلاحظ ان العرب حاولوا التشبه وتقليد نمط الحضارة التي اطلعوا عليها في اسفارهم وتجولهم، على سبيل المثال، نلاحظ ان عمر بن عبد لحى "يستورد" الاصنام ويوزعها في مكة. ان الاصنام لم تكن موجودة في جزيرة العرب، والبدو ابعد من عبادة الاصنام كما ذكرت ذلك في بحث سابق عن الطوائف الاسلامية، انها دخيل جاء عن طريق التجارة والرغبة بالتشبه بالغير، لكن المهم في ذكر هذا الموضوع، ان الاصنام التي جلبها عمر، لم تكن فارسية ولم تكن يونانية بل هي اسماء الهة عبدتها الشعوب القديمة في الشام والعراق، مما يشير الى ان العلاقة التجارية بين مكة والشام والعراق كانت مع الممالك العربية ولم تكن مع الساسانيين والبيزنطينيين والا لكنا رأينا تأثراً بالحضارة اليونانية والفارسية في مكة نفسها.
لكننا في هذا البحث نريد ان نقدم اطروحة حول الاسباب التي ادت الى نشوء مكة، فكل ما ذكرناه لحد الان جيد، لقد وجدنا سلعة مهمة تبرر اقتصادياً نشوء قرى في الصحراء، ووجدنا سبب يبرر عدم ذكر مكة في الكتب القديمة، فبقي ان نفكر في سبب ادى الى نشوء مكة نفسها، طبعاً نحن هنا لانود ان نجتر الاسباب الدينية اليهودية والمسيحية والاسلامية حول ابراهيم واسماعيل وهاجر وسارة وما شابه فهذه القصص لاتعدو ان تكون اساطير لا اساس لها من الصحة. كما ان المجال للبحث في اسباب نشوء مكة لايزال في طور التكهنات وذلك لضعف الادلة الاثارية في هذه المواقع وندرتها، اذ ان السلطات السعودية تمنع القيام بمثل هذه البحوث، وربما لو انه تم السماح بالبحث الاثاري في مكة والمدينة وغيرها من المدن لكان اكتشفنا نتائج مذهلة.
اطروحتان لنشوء مكة
ساقدم في هذا البحث اطروحتان لنشوء مكة في هذا الموقع، ساسمي الاولى: اطروحة الخوف، والثانية: اطروحة الاسواق
اطروحة الخوف
تبتني هذه الاطروحة على نمذجة عامة للعلاقات بين الحضر والبدو، او ساكني المدينة وساكني الصحراء، وهو نموذج يعتمد على وجود نوع من المد والجزر كما يسميه د علي الوردي بينهما، ومثل هذه الاطروحة شرحتها في موضوع "اطروحة حول الاصول التاريخية للعرب"، وكملخص للفكرة اقول: ان اهل مكة ينحدرون من اقوام سكنت شمال او جنوب الجزيرة العربية، وانهم تعرضو للطرد او الاقصاء من مساكنهم الاصلية، قد يكون هذا الاقصاء لاسباب دينية مثل الهرطقة فنحن نجد في الكتابات التاريخية ان روما كانت تطرد المهرطقين المسيحيين ممن يخالفون نظرية الكنيسة التقليدية، وكان هؤلاء يهربون – بدافع الخوف – الى الصحراء، فنسمع بعض الروايات عن وجود رهبان على اطراف الجزيرة او حتى في المدن العربية ومنها مكة نفسها. وقد يكون السبب نوع من الصراعات القبلية والحروب ادت الى خسارة احد الطرفين وهروبها باتجاه الصحراء، من الصعب ان اتخيل ان احداً يريد ان يسكن في ارض قاحلة برغبته وقناعته، انه لابد ان يكون قد دفع دفعاً الى ذلك. ومهما كان السبب، فان الهارب الخائف على حياته لايمكن ان يلجأ الى موقع شهير يتوسط الطرق التجارية، بل هو يبحث عن مكان مستتر ومكنون وبعيد بعض الشيء عن طرق التجارة بل من المناطق التي لم يتسامع بها احد وقل ذكرها بين الاقوام التي كان يسكن فيها سابقاً. وهكذا فان القرشيين اختاروا هذا الموقع بدافع طلب الامان والابتعاد عن الملاحقة التي يتعرضون لها لسبب او لاخر.
نقاط القوة في هذه الاطروحة
نقاط القوة في هذه الاطروحة هو اننا نجد لها بعض التأييد في الكتابات التاريخية والدينية، فجد محمد الاكبر "قصي" يوحي اسمه بانه من استبعد او اقصي، واسم قريش يوحي بانه الجمع بعد الشتات، وحينما نطلع على القرآن نلاحظ بوضوح ارتباط السكن بمكة بنعمة من نعم الله في جعل مكة مكان آمن من الخوف، في سورة الايلاف (قريش) مثلاً:
"وآمنهم من خوف"
ونقرأ ايضاً في مكان اخر:
"ومن دخله كان امنا"
وايضاً
"وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"
فمن الواضح ان موقع مكة ارتبط بحصول الامن بعد الخوف من القتل والتعرض للاذى من باقي القبائل والاقوام.
نقاط الضعف في الاطروحة
نقاط الضعف في هذه الاطروحة هي انها تفترض ان مكة كانت موقع مهجور قبل ان تهاجر اليه قريش، بينما الروايات التاريخية تذكر ان مكة لم تكن مهجورة قبل مجيء قصي ومن معه، بل كانت بيد خزاعة وقبلها كانت بيد جرهم، بل ترى النصوص التاريخية ان العرب كان تتقاتل على السيطرة على مكة، ومثل هذا الخبر وان كان يتضمن مبالغة واضحة ومعتادة في النصوص التاريخية ولكنه اعتراض وجيه جداً على الاطروحة المتقدمة.
الامر الاخر اننا نفترض معنى معين للايات القرآنية المتقدمة بينما قد لايكون هذا هو المعنى المقصود، خصوصاً مع اختلاف المفسرين بشأنها.
إطروحة الاسواق
تبتني هذه الاطروحة على ان بعض المدن المقفرة في الجزيرة العربية، نشأت في بداية امرها كأسواق موسمية، كانت هذه المدن تعمر خلال فترة معينة من السنة، يحضر بها التجار من مناطق معينة، عارضين سلعهم وفق نظام خاص، ويحضر الزبائن من المناطق القريبة ويشترون مما هو معروض من سلع اساسية، وبعد انتهاء موسم التجارة، يغادر التجار هذه المحطة التجارية متجهين الاخرى وهكذا، بينما تفرغ هذه المدن من عمارها حتى مجيء الموسم التالي. لقد كان في الجزيرة العربية قديماً عدة اسواق مشهورة، مثل دومة الجندل، سوق المشقـّر، سوق الشهر، سوق سوهار، سوق ذو المجاز. ومن الجدير بالذكر ان هذه الاسواق كانت تتبع اسلوب معين في عرض البضائع ومن يحق له عرضها اولاً، ففي دومة الجندل، كان من الممنوع على التجار القادمين من العراق وسوريا ان يعرضوا بضاعتهم قبل ان يقوم التجار المحليون ببيع ما لديهم (Haug & Bonner 2002)، يبدو ان هذا النظام كان يهدف الى تشجيع التجار المحليين ومنع المنافسة من التجار الاجانب، كما ان بعض هذه الاسواق كان لها اهمية دينية، فدومة الجندل كانت لها اهمية للحجيج باعتبار وجود صنم الاله واد.
كانت القبائل العربية تتنافس فيما بينها للسيطرة على هذه الاسواق لان من يسيطر على السوق يحق له ان يقرر من يتقدم البيع ومن يتأخر، وربما كانت تفرض ضرائب او عطيات من التجار لمنظمي الاسواق بغية الحصول على دور متقدم ومناطق جيدة لعرض البضائع، ايضاً هناك بعض الدلائل على ان التجار كانو يدورون على هذه الاسواق في تسلسل معين خلال السنة مبتدئين بدومة الجندل ومروراً بباقي الاسواق الاخرى خلال الجزيرة العربية، ويبدو ان مدن الجزيرة كانت مرتبطة فيما بعضها بشبكة كبيرة من الطرق والمعاهدات التجارية القبلية والتنافسات ومتعهدي نقل البضائع وخدمة الزبائن وغير ذلك من امور يحتاجها كل سوق. وقد يكون بمرور الزمن وقدرة قبيلة او مجموعة من القبائل على السيطرة على سوق وتوفير القدر الكافي من الغذاء والماء فانها استقرت في هذه المدينة متحولة لذلك من محطة تجارية مؤقتة الى مدينة دائمية.
نقاط القوة في هذه الاطروحة
هذه الاطروحة قوية جداً بنظري، اذ انها تعطي اسباب اقتصادية لنشوء مدينة ما، وهذه الاسباب غير معزولة عن البيئة التي نشأت بها المدينة والعلاقات الاجتماعية بين الاقوام المحليين بالاضافة الى العلاقات الدولية. كما اننا يمكن ان نربط هذه الاطروحة بالاطار الجماعي للبحوث الاثارية التي تجري حالياً في شبه الجزيرة، وهو امر مهم لمن لايريد ان يشذ باطروحة معينة عن المسار الجماعي لبقية الباحثين.
نقاط ضعف هذه الاطروحة
في الحقيقة هذه الاطروحة تأتي باشكال مهم، الاشكال هو: هل كانت مكة في الاصل محطة للحجيج ام محطة للتجارة؟ بكلام اخر، هل مكة صارت سوقاً لانها مركز للحج، ام لانها سوق صارت مركز للحج؟ ايهما سبق الاخر؟ بحسب الاطروحة المقدمة، فان مكة كانت محطة تجارية مثلها في ذلك مثل باقي الاسواق المؤقتة التي نشأت بالقرب من ابار المياه، ومن ثم بعد ازدهار السوق، قام اهلها ببناء مركز للحج واستيراد اصنام متأثرين بذلك بما حولهم من تقليد للممالك الاكثر حضارة. وهو امر يبدو مخالفاً لما ورد من اخبار بهذا السياق، وعلى كل فان الاعتماد الكلي على التاريخ وروايات الرواة المسلمين حول ما حصل قبل الاسلام لن يؤدي بنا الى اي نتيجة لان الكثير من تلك الاخبار مكذوب ووضعه الوضاعة حتى يرتفعو بمستوى اباءهم واجدادهم ممن لم يكن لهم فضل لا بجاهلية ولا باسلام كما يشير الاستاذ طه الحسين، في بحثه عن الادب الجاهلي.
محاولة لرسم صورة شاملة
يبدو لي ان التغييرات في الاوضاع التجارية قد كان له الاثر الاكبر في رسم خريطة لشبه الجزيرة العربية، فانهيار سوق البينزنطينيين على البحر المتوسط بعد القرن الثالث الميلادي، قد اثر كثيراً على ازدهار تجارة المدن في شرق الجزيرة العربية، مثل مليحة والدور وكوش فبدأت السفن التجارية تتجه بصورة مباشرة نحو عدن والبحر الاحمر واثيوبيا، ولم يكن امام تجار هذه المناطق بعد انحسار المشترين وانعدام الطلب سوى الانتقال الى التجارة مع الاعراب في شبه الجزيرة نفسها، فكان ما تبقى من بضائع تحضر من الهند والمشرق تنقل على ظهور الجمال (التي وجدت لها اثار في تلك المواقع كما مر سابقاً) نحو عمق الجزيرة بحيث تدور خلال الاسواق بحثاً عن الزبائن، وطبعاً لم يكن الطلب بحجم السلع المعروضة مما ادى الى انهيار اقتصاد تلك المدائن وانقراضها تماماً.
يبدو لي من غير المنطقي ان يكون تاريخ مكة قد رسم بعمل شخص واحد يسمى ابراهيم، بل على الاغلب فان وجود بئر مكة كان بفعل حملات استكشافية في عمق الصحراء قامت بها الامبراطوريات التي تعاقبت على السيطرة على المناطق القريبة، قد تكون تلك الحملات مصرية، على اعتبار ان بعض الباحثين – مثل سيد القمني- يرجح ان تكون قبيلة جرهم مصرية الاصل، وان كلمة بكة او مكة وكعبة وبناء الكعبة نفسها مصري، فرعوني الاصل. او قد تكون بفعل الاستكشافات الاشورية وان كان ليس لدينا ما يؤيد هذا التخمين.
ومع تغير طرق التجارة وتكامل العرب في لعبة التجارة الدولية في المنطقة، بمقايضتهم للذهب والفضة والنحاس وغيرها من المعادن، بالسلع الضرورية للحياة من اقمشة وجلود واطعمة مختلفة، فان شبه الجزيرة العربية تحولت الى مسرح كبير للاسواق الموسمية المتنقلة، حيث كان التجار يعرضون سلعهم في احدى المدن ومن ثم ينتقلون الى الاخرى وهكذا، كانت القبائل المحلية هي المسؤولة عن ادارة هذه الاسواق، ويبدو لي ان كل قبيلة تسيطر على سوق كانت تضع مجموعة من القواعد العرفية للطريقة التي يدار بها السوق وتنظم بها عرض البضائع وبيعها، ومكة كانت مدينة من بين هذه المدن حيث بدأت بسوق متواضع ومنافسة من عدة قبائل على ادارة هذا السوق وتوفير احتياجاته من سقاية للزبائن وتوفير الطعام والمآوي وغيرها مما يتطلبه اقامة هذا الاحتفال الموسمي، وفي هذا السيناريو فنحن نضع بناء الكعبة كمرحلة لاحقة وتكميلية لقيام مكة كسوق موسمي، ويخيل لي ان الكعبة بل كعبات شبه الجزيرة كلها كانت لمسات تشبه بالمعابد في الامبراطوريات المجاورة ومنها الاصنام التي اضافت اللمسات الاخيرة.
ولأن هذا التصور لاينقض الاطروحة الاولى، فمن الممكن ان نقول ان قصي وعشيرته دخلو معترك الصراع على السيطرة على سوق مكة وانتهى بنجاحه بالسيطرة عليها وعلى ادارة الحجيج، ان الحج لم يكن مجرد شعيرة دينية عند العرب بل كان موسم تجارة ولعل هذا يفسر لنا تخوف بعض المسلمين من الفقر والفاقة وحلول المجاعة بعد الامر الذي اصدره محمد بمنع ان يقرب الكفار مدينة مكة. يقول القرآن "وان خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله".
ان قريش لم يكونو في بداية امرهم تجاراً، بل ربما يكونو قد بدؤا على الاغلب كسائسي جمال ومن ثم متعهدي نقل، ينقلون البضائع الى مكة من الجنوب، ومن باقي الاسواق خلال مكة الى سوريا والعراق، ويبدو انه مع تطور حجم التجارة الى الشمال بازدياد حجم المعادن النفيسة المستخرجة فان تجارة مكة زادت وتوسعت، بكلام اخر ان مكة لم تكن ترانزيت بين الشمال والجنوب، بل كانت ترانزيت بين بعض مناطق شبه الجزيرة العربية وممالك شمال الجزيرة العربية، وطبعاً فان مكة مارست التجارة مع الجنوب ومع الشمال لدعم سوقها المحلي وتوفير الغذاء الضروري لشعبها.
ملخص القول، ان اهمية مكة مثلها مثل اهمية دومة الجندل وغيرها من اسواق العرب، لقد كان المسلمون يشنفون اذاننا بان كعبة مكة يحج اليها كل العرب، ثم اتضح لنا ان الكعبة هذه هي واحدة بين العديد من الكعبات حتى ان البعض عد ثلاث وعشرين كعبة ! وكما هي عادة البدوي في التعصب لقبيلته وايثارها على باقي القبائل، فقد كان اهل مكة يظنون ان كعبتهم هي الافضل والاشرف والاعلى والاكمل ولها كل الصفات الجيدة والانحدار الشريف الذي لاتدانيه كعبة اخرى. ان هذا الادعاء لايسانده اي دليل تاريخي او عقلاني كما هو الحال في معظم ادعاءات الشعوب القديمة.
-------------------------------------
لائحة المصادر
Bulliet, R.W. (1975) The Camel and the Wheel, Cambridge: Harvard University Press.
Crone, P. & M. Cook (1977) Hagarism, Cambridge: Cambridge University Press.
Crone, P. (1987) Meccan trade and the rise of islam. Princeton: Princeton University Press.
Groom, N. (1981) Frankincense and Myrrh, a Study of the Arabian Incense Trade. London: Longman Press.
Haug, R. & M. Bonner (2002) the Local and global commerce of Arabia before Islam. Pacific Neighbourhood Consortium. University of Michigan. Retrieved from the World Wide Web on 02 Jun. 08 at:
http://pnclink.org/annual/annual2002/pdf...221102.pdf
Heck, G. (1999) Gold mining in Arabia and the rise of the Islamic state. Journal of the Economic and Social History of the Orient, Vol. 42, 3: 364-395.
Heck, G. (2003) "Arabia without Spices": An alternate hypothesis. Journal of the American Oriental Society, Vol. 123,3:547-576.
Kennet, D. (2005) On the eve of Islam: Archaeological evidence from eastern Arabia. Antiquity Publications. Vol. 79,303:107–118.
Kennet, D. (2007) The decline of eastern Arabia in the Sasanian period. Arabian archaeology and epigraphy, Vo. 18,1, May 2007:86-122(37).
Khan, L. (?) Hagarism: The Story of a Book Written by Infidels for Infidels. Retrieved from the World Wide Web on 02 Jun. 08 at:
http://baltimorechronicle.com/2006/042606AliKhan.shtml
Muller, W. (1978) "Weibrauch...," off---print--: Pauly-Wissowa, Realencyclopadie, Supplement and 15, Munich.
Van Ess, J. (1971) Fruhe Mu tazilitische Haresiographie. Beirut
اقتباس و تلخيص وتجميع المواضيع من بطون الكتب والابحاث والمدونات بحياديه لا تنتمي لدين او مذهب لكوني ليست يهودياً ولا مسيحياً ولا مسلماً ولا ديني - كاتب و باحث و محلل في تاريخ ألاديان