أسطورة الشيطان شامله


سامي المنصوري
الحوار المتمدن - العدد: 4399 - 2014 / 3 / 20 - 01:27
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


نحن بصدد فتح ملف الشيطان ..ملف فيه ما يقال الكثير .
كيف ظهرت فكرة الشيطان؟ ....وماهى رؤية المعتقدات والأديان المختلفة له ؟....وكيف تطورت وتناسخت فكرته عبر الأزمنه ؟
لن نكتفى بسرد تاريخى وميثولوجى لأسطورة الشيطان بل سنعرج إلى التحليل النفسى لظهور الفكرة والتى تمثل فهمنا ووعينا
للأسباب المادية والموضوعية لتشكل أسطورة إبليس .

سيفيدنا كثيرا أن نقتبس من دراسات المفكر صادق جلال العظم والرائع فراس السواح وأخرين ..مما سيرشح هذا الشريط ليكون
إطلالة جيدة على قصة الشيطان .

الشيطان كان معروفاً للإنسان منذ بداية حياته على هذه البسيطة وقبل أن تجئ الأديان السماوية، لكني لم أقرأ عن أي مجموعة من البشر اهتمت بالشيطان اهتمام المسلمين به. فمنذ أيام السومريين والكلدانيين وملحمة " إنيوما إليش التي مجدوا فيها انتصار قوى الخير على قوى الشر، ثم تبعتها ملحمة قلقامش، عرف الإنسان بفطرته أن هناك قوة غير مرئية تجلب له الخير بينما تجلب له قوة أخرى الشر، فسمى الأولى بأسماء أسلافه وسمى الأخرى أسماء عديدة اختلفت حسب القبائل والبيئة. وحاول الناس في البداية تفادي ضرر القوة الشريرة هذه بلبس أو حمل التمائم والتعاويذ، ثم حاولوا بعد ذلك الاستفادة من هذه القوة الشريرة لإلحاق الضرر بأعدائهم. وتفشت هذه الممارسات في الإنسان البدائي في أفريقيا ثم حملها أحفادهم إلى جزر البحر الكاريبي التي ما زالت تُمارس فيها طقوس ال " فودو " لإلحاق الضرر بالغير بمساعدة الشيطان أو الجن.
وجاءت اليهودية وجعلت من الشيطان الخصم العنيد لإله السماء وأعطى العبرانيون الشيطان عدة أسماء مثل: " أبوليو و " بيلزبب و " أزازيل " . أما العهد الجديد فسماه Satan أو " شيطان " . وعندما ترجم الإغريق الإنجيل إلى لغتهم ترجموا شيطان إلى Diabolos التي تعني في اللغة الإنكليزية The Devil . وأول فكرة كوّنها العبرانيون عن الشيطان هي كون الشيطان محامي يترافع أمام الله ويجادله. فمثلاً في سفر أيوب، الإصحاح الأول، نجد قصة عن إبليس وأيوب فحواها أن الله جمع الملائكة ذات يوم ولكن وجد في وسطهم إبليس، فقال له: من أين أتيت يا شيطان ؟ فقال الشيطان أنه أتى من الأرض بعد تجوال طويلٍ بها. فسأله الله إن كان قد رأى عبده المطيع أيوب، فقال له الشيطان: إن أيوب يطيعك لأنك مددت له في الرزق والبنين وأعطيته كل ما يتمنى. خذ ما أعطيته وسوف ترى أنه غير مطيع. فقال له الله: أذهب وافعل ما تشاء بماله وبنيه ولكن لا تتعرض له شخصياً. فذهب الشيطان ليختبر أيوب.( سفر أيوب، الصحاح الأول، الآيات 1-22). واستمر الشيطان يلعب دور المحامي والمجادل حتى أيام السبي البابلي عندما اعتقد اليهود أن الشيطان قد تمرد على الله وأصبح مستقلاً بعمل الشر، وهو الذي تسبب في هزيمتهم وسبيهم، لأنهم شعب الله المختار. وبالتدريج نسجوا قصصاً عن الشيطان المتمرد وجعلوا له قروناً وحوافر كحوافر الحصان وجعلوا رائحته كرائحة الكبريت.
وجاءت المسيحية من صلب اليهودية ودمغت الشيطان بنفس الدمغة اليهودية وجعلته مصدر الشر في العالم وهو الذي يمنع الناس من الإيمان بالمسيح وهو المسؤول عن كل الأمراض النفسية من جنون وما شابه ذلك، إلى الأمراض العضوية مثل البكم. فيسوع يقول لمن حوله من الناس: " لماذا لا تفهمون كلامي ؟ لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي. أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتّالاً للناس من البدء ولم ينبت في الحق لأنه ليس فيه حق، متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذاب " (إنجيل يوحنا، الإصحاح 8، 43-44). " وكان يخرج شيطاناً وكان ذلك أخرس، فلما أخرج الشيطان تكلم الأخرس فتعجب الجموع " ( إنجيل لوقا، الإصحاح 11، 14). وهكذا أصبح الشيطان يحمل وزر خطايا المسيحيين ويسكن أجسامهم فيسبب لهم الأمراض النفسية وغيرها، ولا يقدر على إخراجه من الأجسام إلا القسيس عندما يتلوا بعض التعاويذ. وفي القرون الوسطى في أوربا كان علاج المجانين يتكون من ربطهم بالسلاسل وضربهم ضرباً مبرحاً حتى يتأذى الشيطان فيخرج من أجسامهم.
وعرب ما قبل الإسلام في الجزيرة بحكم اختلاطهم باليهود والنصارى كانوا قد تشبعوا بفكرة الشيطان الذي يدخل الأجسام ويسبب الأمراض ولا يخرجه إلا الكاهن الذي لديه " لقي " أي شيطان يتلقى أخبار السماء فيأتي بها للكاهن الذي يستطيع أن يُخبر بالمستقبل ويستطيع أن يكتب تعاويذاً تمنع الشيطان من دخول جسم الإنسان. وبما أن القوافل التجارية كانت تسافر ليلاً لتفادي حرارة النهار، وبما أن الظلام، خاصةً في وسط محيط من الرمال لا معالم بها، مخيفٌ، فقد تخيل العربي أن الشيطان يسكن في الوديان ويطوف بهذه الصحارى الشاسعة. فأصبح من تقاليد المسافر ليلاً إذا نزل بوادي أن يسلم على سكان الوادي من الجن ويطلب حماية رئيسهم وشيخهم بأن يترك له طعاماُ بالقرب منه. وكان العربي يفسر كل شئ لا يفهمه بأنه من الجن، حتى الشعر الذي لم يكن يقدر على نظمه إلا القلة، زعموا أنه من الجن وأن للشاعر صاحباً من الجن يساعده على نظم قصائده.
وفي كل هذه الثقافات العبرية والمسيحية وحتى العربية البدوية كان الشيطان روحاً غير محسوسة ولكنها قادرة على الأذى. ثم جاء الإسلام وتغير الشيطان. فالنبي محمد كان قد نشأ وترعرع بين عرب ما قبل الإسلام وتشبع بثقافتهم القصصية والشعرية والأسطورية، بما فيها قصص الشياطين. فاحتضن الإسلام كل هذه الثقافة ولكنه أراد أن يزيد عليها، فلم يكن هناك ما يزيده في مسألة الجن بعد أن نسجت القرون السابقة من يهودية ومسيحية ولا دينية كل القصص الممكنة عن الجن. فكان الملجأ الوحيد هو تجسيد الجن أو الشيطان. وإذا تجسد الشيطان فلا بد له من مكان يسكنه، وغذاء يأكله وعمل يؤديه، وزوجة يجامعها حتى يتناسل ولا ينقرض بسبب الأعداد الهائلة من الشهب التي تطارده. وإذا تجسد الشيطان فلا بد له كذلك من أن يصبح كالإنسان الذي يشرب فيبول، ويأكل فيذهب إلى الخلاء. ولتقريب كل هذه الأشياء إلى ذهن الإنسان العربي، أتى النبي ببعض الأحاديث التي نسج الفقهاء منها خيمةً ضخمة جمعت كل ما يمكن للإنسان قوله عن الشيطان.
فمثلاً عندما كان النبي يسافر ليلاً في الصحراء، لم يكن يسلم على شياطين الوادي كما كان يفعل عرب ما قبل الإسلام، فقد ذكر أحمد عنه أنه كانَ إذَا غزَا أو سافر، فَأدرَكَهُ الليل، قال: ((يا أرضُ رَبِّى وَرَبُّكِ الله، أَعُوذُ باللهِ مِنْ شَرِّكِ وَشَرِّ مَا فِيكِ، وشَرِّ ما خُلِقَ فِيكِ، وَشَرِّ ما دَبَّ عَلَيْكِ، أعوذُ بالله مِنْ شَرِّ كُلِّ أسَدٍ وأَسْود، وَحَيّةٍ وَعَقْرَبٍ، ومِنْ شَرِّ سَاكِنِ البَلَد، ومِنْ شَرِّ وَالد، ومَا وَلَدَ)). ( زاد المعاد لابن القيم، ج2، ص 246). وساكن البلد والوالد الذي ولد هم الشياطين. وساكن البلد هذا كان قد اختار بلاداً بعينها ليسكنها، فمثلاً، عندما كان عمر بن الخطاب بالشام وأراد الذهاب إلى العراق، قال له كعب الأحبار أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من ذلك قال وما تكره من ذلك قال بها تسعة أعشار الشر وكل داء عضال وعُصاة الجن وهاروت وماروت وبها باض إبليس وفرّخ " ( تاريخ دمشق لابن عساكر، ج1، ص 147). ولكن لا يسكن الشيطان في هذه البلاد القصور، وإنما يسكن في الأدبخانات وفي أفراج النساء، كما قرأنا في الكتاب الذي لخصه لنا السيد سعد الله خليل، لأن الشيطان، حسب المفهوم الإسلامي، يحب الأشياء غير النظيفة
واختلفت الأحاديث عن ماذا يأكل هذا الشيطان المجسم، فقد روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال:
قال رسول الله (ص): " لا تستنجوا بالروث، ولا بالعظام، فإنها زاد إخوانكم من الجن " ( أحكام النساء لابن
الجوزي، ص 111، حاشية). ولا بد أنه قصد الجن المسلم لأنه قال " إخوانكم من الجن ". فماذا يأكل الجن
غير المسلم ؟ في رواية ابن هشام فإن الشياطين ترضع الإبل غير المصررة، فقد روى: " لا تورد الإبل
بهلا، فإن الشياطين ترضعها " أي، لا أصرة عليها. ( السيرة النبوية لابن هشام، ج2، ص 114).
وفي أحاديث أخرى فإن الشياطين، دون تمييز بين المسلم منهم والكافر، يشاركون الناس في أكلهم إذا لم يسموا باسم الله عليه. وهاهنا ظهرت للمسلمين مسألة عويصة، وهى أن الآكلين إذا كانوا جماعة، فسمَّى أحدُهم، هل تزولُ مشاركة الشيطان لهم في طعامهم بتسميته وحدَه، أم لا تزول إلا بتسمية الجميع؟ فنصَّ الشافعى على إجزاء تسمية الواحد عن الباقين، وجعله أصحابُه كردِّ السلام، وتشميتِ العاطس، وقد يُقال: لا تُرفع مشاركةُ الشيطان للآكل إلا بتسميته هو، ولا يكفيه تسميةُ غيره، ولهذا جاء فى حديث حذيفة: إنَّا حضرنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طعاماً، فجاءت جارية كأنما تُدْفَع، فذهبتْ لتضع يدها في الطعام، فأخذَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بيدها، ثمَّ جاء أعرابي كَأَنَّمَا يُدْفَعُ، فأخذ بيده، فقالَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الشَّيْطَانَ لَيَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أنْ لا يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وإنَّهُ جَاءَ بِهذِهِ الجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، فَجَاءَ بِهذَا الأعْرَابيِ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ يَدَهُ لَفِي يَدي مَعَ يَدَيْهِمَا)) ثم ذكرَ اسمَ اللَّه وأكل، ولو كانت تسمية الواحد تكفى، لما وضع الشيطان يده في ذلك الطعام." ( زاد المعاد، ج2، ص 222).
وجاء المسلمون بأجمل قصصهم عن الشيطان في باب النكاح، فمثلاً، قالوا: كانت امرأة من بني النجار يقال لها فاطمة بنت النعمان لها تابعٌ من الجن فكان يأتيها ( أي يعاشرها) وحين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم انقض على الحائط فقالت‏:‏ مالك لم تأت كما كنت فقال‏:‏ قد جاء النبي الذي حرم الزَنا والخمر‏." ( المنتظم في التاريخ لابن الجوزي، ج3، ص 22).‏ ويعتقد المسلمون أن الجن المسلمين يتزوجون النساء المسلمات وينجبون منهن الأطفال. أما الجن غير المسلم فقد قرأنا قصصه عن مجامعة النساء وسكنه في فروجهن في ملخص الكتاب المذكور أعلاه ولا داعي لتكرارها.
والمسلمون كالمسيحيين قبلهم اعتقدوا أن الشياطين تصيب الإنسان بالأمراض بواسطة السحرة، فقالوا إن اليهودي ابن الأعصم سحر النبي ودس السحر في بئر، فمرض النبي حتى أتاه جبريل وأخبره بمكان السحر فأتوا به ووجدوا خيطاً به عُقداً فقرؤوا المعوذتين فانحلت العقد وذهب السحر. وكان النبي يقول إن الصرع سببه الشيطان، لذلك قال لأصحابه إذا صُرع الإنسان فاقرؤوا في أذنه القرآن. ولذلك جعلوا عقاب الساحر السيف. فقد روى سفيان عن عمار الذهبي أن ساحراً كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل ويدخل في أست الحمار ويخرج من فيه، فاشتمل به جُندب بن كعب على السيف فقتله.( القرطبي، تفسير الآية 102، البقرة).
وما دام الجن مجسداً فكان لابد لهم أن يتقمصوا هيئة بعض زجال الإنس، فمثلاً، لما عزم المسلمون على الخروج لغزو كنانة، ذكروا ما بينهم وبينَ بنى كنانة مِن الحرب، فتبدَّى لهم إبليسُ فى صورة سُراقة بن مالك المُدْلجى، وكان مِن أشراف بنى كنانة، فقال لهم: لا غَالِبَ لكم اليومَ من الناس، وإنى جارٌ لكم من أن تأتيكم كِنانة بشىءٍ تكرهُونه، فخرجوا والشيطانُ جارٌ لهم لا يُفارقهم، فلما تعبَّؤوا للقتال، ورأى عدوُّ الله جندَ اللهِ قد نزلت مِن السماء، فرَّ، ونَكَصَ على عقبيه، فقالوا: إلى أين يا سُراقة ؟ ( زاد المعاد، ج3، ص 86). وعندما اجتمع المشركون في دار الندوة ليتشاوروا في أمر محمد، دخل عليهم الشيطان في هيئة شيخٍ نجدي ونصحهم بأن يحتاروا من كل قبيلة شاباً قوياً ليقتلوا محمد فيتفرق دمه على القبائل ( المنتظم في التاريخ، ج3، ص 4). وروي عن عمر بن الخطاب أنه صارع جنياً في هيئة رجل، فصرعه عمر رضي الله عنه، فقال له الجني: خل عني حتى أعلمك ما تمتنعون به منا، فخلى عنه وسأله، فقال: إنكم تمتنعون عنا بآية الكرسي. ( تفسير القرطبي للآية 255 من سورة البقرة). وهؤلاء الجن كانوا قادرين على قتل الناس، فقد زعمت الجن أنهم قتلوا سعد بن عبادة سيد الخزرج، وكان سبب موته أنه جلس يبول في نفق فاقتيل من ساعته ووجدوه قد اخضر جلده وسمع غلمان بالمدينة قائلًا يقول: نَحْن قَتَلْنَا سَيْدَ الخَزْرَج سعدَ بنُ عَباده‏.‏ وَرَمَيْنَاهُ بِسَهْمَيْنِ فَلَمْ تُخْطِ فُؤادهُ. فذعر الغلمان فحفظوا ذلك اليوم فوجدوه اليوم الذي مات فيه سعد بحوران ( المنتظم في التاريخ، 4، ص 84).
وإذا كان الشيخ المصري ( محمد عيسى داود) قد رأى الشيطان المسلم وتحاور معه، فقد سبقه علماء مسلمون إلى ذلك، فقد قال الشيخ الكبير محي الدين محمد بن عربي الحاتمي الطائي رضى سهل بن عبد الله التستري: رأيت إبليس فعرفته وعرف أتى عرفته فجرى بيننا كلام ومذاكرة كان من آخره أن قلت له لمَ لم تسجد لآدم ؟ فقال غيرة مني عليه أن أسجد لغيره ( يقصد الله) فقلت هذا لا يكفيك بعد أن أمرك وأيضاً فآدم قبلة والسجود له تعالى. ثم قلت له وهل تطمع بعد هذا في المغفرة فقال كيف لا أطمع وقد قال تعالى ( ^ ورحمتي وسعت كل شيء ) قال فوقفت كالمتحير ثم تذكرت ما بعدها فقلت إنها مقيدة بقيود. قال وما هي قلت قوله تعالى بعدها ( ^ فسأكتبها للذين يتقون ) الآية قال فضحك وقال: والله ما ظننت أن الجهل يبلغ بك هذا المبلغ أما علمت أن القيد بالنسبة إليك لا بالنسبة إليه قال فو الله لقد أفحمني وعلمت أنه طامع في مطمع ( شذرات الذهب للدمشقي، ج2، ص 154).وكذلك تمكن الشيخ بن باز من مخاطبة الجن، فقد قال: " أما بعد . . فقد نشرت بعض الصحف المحلية وغيرها في شعبان من هذا العام أعني عام 1407 هـ أحاديث مختصرة ومطولة عما حصل من إعلان بعض الجن - الذي تلبس ببعض المسلمات في الرياض - إسلامه عندي بعد أن أعلنه عند الأخ عبد الله بن مشرف العمري المقيم في الرياض ، بعدما قرأ المذكور على المصابة وخاطب الجني وذكره بالله ووعظه وأخبره أن الظلم حرام وكبيرة عظيمة ودعاه إلى الإسلام لما أخبره الجني أنه كافر بوذي ودعاه إلى الخروج منها ، فاقتنع الجني بالدعوة وأعلن إسلامه عند عبد الله المذكور ، ثم رغب عبد الله المذكور وأولياء المرأة أن يحضروا عندي بالمرأة حتى أسمع إعلان إسلام الجني فحضروا عندي فسألته عن أسباب دخوله فيها فأخبرني بالأسباب ونطق بلسان المرأة لكنه كلام رجل وليس كلام امرأة ، وهي في الكرسي الذي بجواري وأخوها وأختها وعبد الله بن مشرف المذكور وبعض المشايخ يشهدون ذلك ويسمعون كلام الجني ، وقد أعلن إسلامه صريحا وأخبر أنه هندي بوذي الديانة ، فنصحته وأوصيته بتقوى الله ، وأن يخرج من هذه المرأة ويبتعد عن ظلمها ، فأجابني إلى ذلك ، وقال : أنا مقتنع بالإسلام ، وأوصيته أن يدعو قومه للإسلام بعدما هداه الله له فوعد خيرا وغادر المرأة وكان آخر كلمة قالها : السلام عليكم ." ( فتاوى بن باز، ج3، ص 249)؟
وحتى يُثبت المسلمون السنة أن الشيعة من عبدة الشيطان، أتوا بقصة الأعمش الذي قال خرجت في ليلة مقمرة أريد المسجد فإذا أنا بشيء عارضني فاقشعر منه جسدي وقلت أمن الجن أم من الإنس، قال من الجن فقلت مؤمن أم كافر فقال بل مؤمن فقلت هل فيكم من هذه الأهواء والبدع شيء قال نعم ثم قال وقع بيني وبين عفريت من الجن اختلاف في أبى بكر وعمر فقال العفريت أنهما ظلماً عليا واعتديا عليه فقلت بمن ترضى حكما فقال بإبليس فأتيناه فقصصنا عليه القصة فضحك ثم قال هؤلاء من شيعتي وأنصاري وأهل مودتي ثم قال ألا أحدثكم بحديث قلنا بلى قال أعلمكم أنى عبدت الله تعالى في السماء الدنيا ألف عام فسميت فيها العابد وعبدت الله في الثانية ألف عام فسميت فيها الزاهد وعبدت الله في الثالثة ألف عام فسميت فيها الراغب ثم رفعت إلى الرابعة فرأيت فيها سبعين ألف صف من الملائكة يستغفرون لمحبي أبي بكر وعمر ثم رفعت إلى الخامسة فرأيت فيها سبعين ألف ملك يلعنون مبغضي أبي بكر وعمر ( شذرات الذهب، ج1، ص 26).
وطبعاً لم يكن كل المسلمين مقتنعين بهذه القصص عن الشيطان، فقد جادل بعض الفلاسفة في هذه القصص وذكر الشهرستاني على سبيل المثال مجادلة إبليس لله، فقال إن إبليس سأل الله سبعة أسئلة:

أولاً: إذا كان الله قد علم قبل خلقي أي شئ يصدر عني ويحصل مني فلماذا خلقني أولاً وما الحكمة من خلقه إياي؟
ثانياً: وهو قد خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته، فلماذا كلفني بمعرفته وطاعته؟ وما الحكمة في هذا التكليف مع العلم انه لا ينتفع بطاعة أحد ولا يتضرر بمعصيته؟
ثالثاً: وهو حين خلقني وكلفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة، فلماذا كلفني بطاعة آدم والسجود له؟ وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص؟
رابعاً: وإني لم ارتكب قبيحاً سوى قولي، لا اسجد الا لك وحدك، فلماذا لعنتني وأخرجتني من الجنة وما الحكمة في ذلك؟

خامساً: وهو بعد ما لعنني وطردني فتح لي طريقاً إلى آدم حتى دخلت الجنة ووسوست له فأكل من الشجرة المنهي عنها. وهو لو كان منعني من دخول الجنة لاستراح آدم وبقى خالداً فيها، فما الحكمة في ذلك؟
سادساً: وهو بعد أن فتح لي طريقاً إلى آدم وجعل الخصومة بيني وبينه، لماذا سلطني على أولاده حتى صرت أراهم من حيث لا يروني وتؤثر فيهم وسوستي" فهو لو خلقهم على الفطرة دون أن يحولهم عنها فعاشوا طاهرين سامعين مطيعين لكان ذلك أحرى بهم وأليق بالحكمة
سابعاً: وهو بعد ذلك أمهلني وأخّر أجلي إلى يوم القيامة، فلو انه أهلكني في الحال لاستراح آدم وأولاده مني ولما بقى عند ذلك شر في العالم. أليس بقاء العالم على نظام الخير خيراً من امتزاجه بالشر؟ (( الملل والنحل للشهرستاني، ص 12).


ويقول البحتري في تفسيره للآية 102 من سورة البقرة: " أنكر معظم المعتزلة الشياطين والجن ودل إنكارهم على قلة مبالاتهم وركاكة ديانتهم. " وليثبت المسلمون أن دينهم ليس كدين المعتزلة وجب عليهم أن يتعوذوا من الشيطان عند كل كبيرة وصغيرة. ففي العراق المنكوب يقول الدكتور أحمد الكبيسي إن الجن الأشرار هم الذين ساعدوا الولايات المتحدة الأمريكية على تقدمها العلمي والصناعي لكي تستغل الشعوب. ويؤمن هذا الكبيسي أن سرعة تنقل الجن اكثر من سرعة الضوء عدة مرات. وكذلك يؤمن السيد رئيس وزراء العراق بقوة الجن ولذلك يستعيذ من الشيطان الرجيم عند افتتاح كل جلسة للبرلمان، مما أثار حفيظة العراقيين الأيزدية الذين يتهمهم بقية المسلمين بعبادة الشيطان.

السؤال هو: لماذا كل هذا الهوس بالشيطان في التراث الإسلامي ؟ وتكمن الإجابة، في رأيي، في أن الإسلام لم يأت بجديد لم يعرفه عرب ما قبل الإسلام. فالإسلام احتفظ بكل عاداتهم وشعائرهم من الحج والعمرة والهرولة بين الصفا والمروة والأشهر الحرم والطلاق والزواج والعدة ومعتقداتهم في الجن والشياطين. وبما أن النبي قال إن الإسلام جاء ليظهر على كل الأديان، فكان لا بد له من الإتيان بشئ لم تأت به الأديان السابقة، فلم يجد جديداً يأتي به، فجسد الشيطان ليقربه إلى ذهنية البدوي الذي لم يكن بمقدوره أن يفهم التجريد الكامل. ورغم أن العربي قبل الإسلام كان يعرف الله في السماء إلا أن معرفته به كانت قاصرة لقصور الذهن البدوي عن فهم التجريد، لذلك عبدوا الأصنام لتقربهم إلى الله لأنها مرئية لهم. وقد يكون هذا واحداً من الأسباب التي جعلت النبي يجسد الشيطان لهم حتى يسهل فهمهم لما يقوم به الشيطان. والسبب الثاني هو عدم مقدرة النبي على الإجابة على الأسئلة العديدة التي كان يوجهها إليه البدو وقتها، فنهاهم عن السؤال: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " ولكن هذا لم يجد نفعاً، إذ أنهم ظلوا يسألون، فوجد النبي الجواب في الشيطان فجعله مسؤولاً عن كل ما يحدث من قتل وزنى وسرقة وخيانة زوجية ومرض الأحباء، وما إلى ذلك. وتجسيد الشيطان يزيد من أهميته ويزيد من فهم البدوي له.

يتبع ...

*** تطور فكرة الشيطان .

يرى علماء الإنسان أن أول الأعمال الأدبية الأسطورية ولدت في معابد الكهنة وهياكل الآلهة نفسها .. لأنها كانت ترى التراث والأثر المقدس ما هو إلا شكل قصصي حول الآلهة ويقوم بتفسير الأفكار الدينية وتوضيحها بشكل أبسط ..

إلا أنها في نفس الوقت لا تعتبر ملزمة دينيا أو اعتقاد قطعي إيماني .. بل تركوها حسب قوة الإيمان الفردي اذن ليست ملزمة ..
لذا لا يعرف كيف نشأت الأساطير أو من هو من صاغها أدبيا ..
بمعنى بسيط ...
تقوم الاساطير بايجاد تفسيرات لما يقع أمام الإنسان ويصعب عليه تحليله ومعرفة أسبابه .. فتأتي الأسطورة لتحل المشكلة الفهمية العقلية للواقع والتعويض عن عجز العقل البشري آنذاك في الوصول للاجابات الحقيقية الصادقة وأيضا لتبرير مرارة ذلك الواقع وتقبله على أساس أن الأساطير تولد الخلاص القادم ويستعجلون الخلاص بالقرابين والقيام بطقوس معينة لها ..

ولأن البدائيين لم يعرفوا كيف يموت الإنسان وأين يذهب فاعتقدوا أنه الموت هو توقف التنفس ( ومن هنا جاءت كلمة النفس ) وكانوا يؤمنون بأن النفس البشرية عندما تخرج من الجسد تأخذ وتتقمص أشكال أخرى - وهنا ظهرت الأشباح والأرواح والأطياف - ومن ثم ترتفع للأبدية وعالم الألوهية ..
ومن هنا اذا جاز لي التقسيم فأرى أن العبادة البشرية تطورت حسب المراحل التالية :
- عبادة الظواهر الطبيعية
- عبادة ارواح الأجداد الأسلاف
- عبادة أرواح نصف مادية
- عبادة آلهة متعددة
- عبادة إله قومي ( مقتصر على منطقة معينة فقط )
- عبادة إله عالمي واحد ( وهنا توصلوا لله )

هذا التطور كان على مراحل زمنية طويلة ومختلفة ...

ومن سؤال البدائيين بعد الموت .. سألوا أيهما أول الحياة أو الموت ؟
الوجود أو العدم ؟
النافع أو الضار ؟
هنا ظهر التقسيم أو الاتجاهين المتعاكسين ..
قوة ايجابية نافعة للحياة والوجود والضياء وخصوبة الأرض والتكاثر والخير بوجه عام ..
وقوة سلبية ضارة تتمثل في الموت والعدم والظلام والجفاف وغيرها من الأمور السلبية ..
وكحل ابتدأ الانسان البدائي يعبد ويتقرب للإله الذي هو الطبيعة ليزداد خيرها .. وايضا اتجه لعبادة القوة السلبية التي يخافها ليتحاشى شرها ويقلل من ضررها، اي ان الحاجة الى الاله والى حد كبير تمسكا بالامل لتحقيق مصلحة شخصية. من هنا نرى ان الاديان لازالت حتى اليوم تأخذ ابعادا انتهازية مصلحية حتى اليوم ..

هنا لنأخذ فكرة عامة عن هذا الصراع الفكري بين الخير والشر عبر الحضارات المختلفة القديمة ..

- بلاد الرافدين :
نرى ظهور إلهين ألهة مؤنثة وإله مذكر
الإلهة " تهامة " وهي إله الشر وتتمثل في البحر المظلم ( ولازال اسم تهامة يطلق على منطقة في غرب المملكة العربية السعودية ) ويوزايها الإله " ماردوك " وهو إله الخير الضياء
يتصارعون ويقتل ماردوك تهامة ويتفرغ لتنظيم السماء والأرض ويباركهما تكثر الخيرات ..
- في مصر القديمة :
الإله " أوزيريس " إله النيل والخير والخضرة والخصوبة
يوازيه الإله " سيث " إله الصحراء والجدب والجفاف الأشرار ..
يتصارعون وعلى فكرة هما أخوان كما تقول الاسطورة وكان مقدرا خروجهما سوى في نفس اللحظة لكن سيث المجرم احتال وخرج قبل اوزيريس وافسد الارض ..
- الكنعانيين :
كان هناك إله مظلم " يم " ( لاحظوا الإسم يم = بحر ) وهو إله السكون والفوضى يقابله الإله " بعل " وهو إله الخير .. يقتل بعل يم فيسود الخير في الارض لفترة زمنية لكن اتباع الإله يم يستنجدون بالإله " موت " ( كمان لاحظوا الإسم ) فتعود الفوضى ويدخل بعل وموت في صراع أبدي يتناوبون الهزيمة والنصر لآخر الزمان ..
- بلاد فارس :
يقولون أن أول ما نزل من الآلهة هو إله الخير " هرمز " ( ولازال اسمه على مضيق الخليج العربي ) فسأل نفسه لو كان لي منافس كيف سيكون ؟
وتقول الاسطورة أنه بمجرد السؤال ظهر له منافس هو إله الظلام والفساد والظلم" أهرامان " ودخلوا بصراع .. فخلق هرمز الملائكة والبشر ليساعدوه .. بينما خلق أهرامان كل الكائنات الضارة ..
بينما هناك قل اسطوري آخر .. أنه قبل أن يكون الإله هرمز كان هناك الإله الأعظم " ميتهرا " وكانوا يحتفلون بميلاد الإله ميتهرا بتاريخ 25 ديسمبر ( ؟؟ !! هو نفس مولد السيد المسيح عليه السلام ) وانتقلت عبادة ميتهرا للهند القديمة ويقولون أنه ييدخل بمعركة مع آلهة الموت والظلام ويتعرض الإله ميتهرا للأسر فيتم تعذيبه ويستشهد على الصليب ( ؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!!!) وباستشهاده يصيب الارض الجفاف ويتوقف النسل .. لكن بتاريخ 21 مارس يقم من جديد ( وهنا القيامة المجيدة ) فتعود الارض للحياة ...
ولو لاحظنا نجد هنا تقريبا نفس قصة المسيح ونفس تواريخه ميلاده 25 ديسمبر تعذيبه وصلبه على الصليب وبعد صلبه بثلاثة أيام يقوم فترفع روحه للسماء !!!!!!)
كما أن للكهنة التابعين لميتهرا تيجان مقاربة جدا لتيجان بابوات النصارى وأحذيتهم نفس حمراء ونفس الزي عند كهنة المسيحيين ... حتى أن كبير كهنة ميتهرا كانوا يلقبون قبل ظهور المسيحية بقرون وآلاف السنين يسمونه بلقب " البابا " ؟؟؟؟!!!!!!
حتى أنه عندما ظهر زرادشت باعتبار أنه نبي مرسل من قبل إله الخير هرمز أقر المعتقدات التي كانت للإله ميتهرا ..
ونرى هنا صراع الخير والشر بين هرمز وأهرامان الذي يحددونه بعدد 12 ألف سنة يظهر على رأس كل ألف سنة ( إمام مهدي ) من بيت زرادشت يقود الكفاح لينتصر الخير على الشر وبانتهاء السنوات الـ 12 ألف تقوم القيامة ويتم الحكم على أهرامان اتباعه بالخلود في الجحيم ( وهنا نرى التشابه الكبير بين هذه القصة وبين معتقد الشيعة الاثنى عشرية ؟؟!! )
- اليهودية :
ما قبل مرحلة التيه لا نجد في التراث اليهودي إله خالص للشر .. لكن ما بعد التيه بدأنا نلاحظ اشارات غامضة لظهور إله مساو للإله ( يهوه ) وألصقوا فيه أنه سبب كل مصائبهم أسموه " عزازيل " ليمثل الشر .. وكانوا يقدمون القرابين لعزازيل كما يقدمونها ليهوه كما جاء في العهد القديم " .. يلقي هارون على التيس قرعتين ، قرعة للرب وقرعة لعزازيل .. " وكانوا حتى تلك الفترة يعتقدون أن عزازيل وهو ما نعتبره حاليا الشيطان أو الجني أنه يسكن الصحراء يقول عباس العقاد في كتابه " الشيطان " .. أنه إله الخراب والصحراء .. بينما يعتقده آخرون أنه زعيم الملائكة المتمردين على الرب الذين هبطوا للأرض وزنوا ببنات البشر ثم انهزموا أمام جنود الخير ولاذوا بالصحراء "
وعزازيل هذا هو ما يعتقد أنه نفسه عند البابليين هو إله الهلال وكانوا يسمنه الإله " سين " وكانوا يصورونه بشكل وهيئة تيس وله قرنين ... وهذا ما تطور في العقل البشري لاحقا ليكون صورة الشيطان فله قرنين وحوافر وقوائم تيس وذيل ينتهي برأس أفعى ...
وبعد الأسر البابلي لليهود نجد أنهم تأثروا بالعقائد الزرادشتيه وقالوا بوجود إلهين واحد للخير والثاني للشر ... وظهرؤت لأول كلمة " Satan " أو شيطان أو ابليس وهي اختصار للأصل اليوناني " ديابوليس " وتعني ملاك الموت أو زعيم الهاوية السفلي لأنهم يعتقدون أن جميع الموتى سواء الصالح أو الطالح مصيرهم الهاوية السفلى ...
ولنحلل أسم " ديابوليس " Diapolos
Dia هي من الأصل اليوناني Devil = الشيطان
أو
Devin = الألوهية
أو
Die = موت أو ملعون
وهناك لفظة أخرى هي Deuce ( ديوس ) بمعنى الشيطان .. وعندما نرجع للفظ الكنعاني العبراني ( التيوس ) وهي جمع تيس نجد أنها نفس المعنى باللغة العربية أيضا ما يشير للتيس .. لذا نقول أن عزازيل هو لقب آخر للإله " سين " إله التيوس البابلي أو كما يقولون عنه الإله Attis وهو الذي كان على هيئة شاب وسيم جدا مات مقتول وهو على هيئة تيس فهبط سيدا لعالم الموتى السفلي ..
ولانتقاله عن طريق اليهود بعد انتهاء الاسر البابلي لارض كنعان تسرب لليونايين فأسموه الإله " أبوللو " إله الشعر والبحر ( لاحظوا للآن لازال لدينا مقولة أن فلان نزل عليه شيطان الشعر ) ..
ومن هنا يصبح معنى Diapolos هو التيس أبوللو حتى أنه عندما يشاهدون شخصا فائق الجمال يسمونه باللغة اليونانية Apollonian ومن هنا جاء الاعتقاد بأنه والإله تيس نفس الشيء من خلال :
- هيئى التيس
- فائق الجمال
- اصابته اللعنة فاصبح شريرا لأن Die = ملعون
- هبط لعالم الموتى السفلي
- هناك العذاب التمزيق والحرق بالنار وهو ما = Devil
والأن لنرى المسيحية :
بعد أن وصلت البشرية لمرحلة توحيد الإله .. واجهتهم مشكلة كبيرة وهي كيف يتصف الإله الواحد بكل صفات الكمال الخير بينما يحدث الشر ؟
لذا جاء دور الإله النقيض وظهر ابليس أو الشيطان .. فلا نجد انجيلا إلا وفيه ذكر لابليس مصحوبا باللعنة ..
لكنه هنا انتقل من كونه إلها إلى أنه مخلوق تمرد على الخالق وهو سبب بلاء البشرية وآلامها وه أصل الخطيئة وه الذي أغوى وزوجته للأكل من الشجرة المحرمة في الجنة وهنا نلاحظ تعارض الاثر الانجيلي مع الاثر التوراتي وذلك بأن التوراة كانت تقول أن الحية هي التي أغوت حواء لتأكل من الشجرة بينما المسيحية تقول أن هذه الحية لم تكن إلا ابليس متنكرا ؟؟!!! أو أنها حملت ابليس في فمها وتحدث لحواء من خلالها ؟؟؟!!! ...
ويقول الاثر المسيحي أن " ابليس هو أكثر الملائكة جمالا واعظمها شأنا عند الله وكان أقرب الملائكة لله حتى أنه كان يعكس النور الإلهي كالمرآة لذلك جاء لقبه الآخر Lucifer أي حامل الضياء ..
وبعد خلق آدم شعر بالغيرة وأن آدم سيهدد مكانته عند الله كما أنه كان يعرف أنه برفضه السجود لآدم سيكون مصيره اللعنة الأبدية والطرد من الجنة ومع ذلك اعترض على الرب لا وبل رفض الأمر الإلهي وسانده عدة ألوف من الملائكة اعلنوا العصيان للسجود فدفع بهم الله لعالم الظلام تحت الارض وتحولا من ملائكة لشياطين بشعة يتزعمهم ابليس واصبحوا اعداء لذرية آدم ..
حتى أن بعض الأناجيل قالت عندما نزل الرب للأرض على هيئة البشر من خلال شخص يسوع المسيح - حسب اعتقادهم - نعرض له ابليس عدة مرات ليغويه رغم معرفته أنه هو الرب ؟؟!!!!
لكن المسيح الإله كان يفطن دائما للخدعة ويعرفه ويتحاشى مكره وخداعه ...
وفي المسيحية يظهر الشيطان بقدرات جبارة فهو تحدى الله وقام بالثورة عليه والعصيان لأوامره وصرف عن عبادة الله بغواية ذرية آدم .. حتى أنه حاول اغواء الله نفسه عندما تعرض لاغواء المسيح ..
ونجد مثلا في انجيل بولس " أن الشيطان رئيس سلطان الهواء الروح الذي يعمل الآن في ابناء النعصية .." الاصحاح 14 .
وفي انجيل متى اكتشاف الرب المسيح لخدعة الغواية من ابليس " .. اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لابليس وملائكته .. " الاصحاح 25 .
- العرب :
نجد أن البعض يعتقدون أن عزازيل كان ملاكا هبط مع مجموعته للأرض وتزوج الآدميات .. هذا قبل ظهور الإسلام ..
حتى أنهم كانوا يعتقدون أن ذو القرنين كانت أمه آدمية وأبوه ملاكا .. وجد بعض الباحثين أن العرب بعضهم قد عبد الملائكة ..
فالثعالبي يقول في كتابه قصص الأنبياء عرائس المجالس في الصفحة 34 " أن الله عندما غضب على ابليس مسخ صورته فصوره شيطانا بعد أن كان ملاكا وغير اسمه من عزازيل لابليس " بينما ابن كثير يقول أن عزازيل هو من الجن الذين يسكنون الارض وكان تقيا عابدا لله وكرمه الله ورفعه لوحده للسماء وكان يعيش مع الملائكة ..
- هذا التحول من كون ابليس إله للشر ومن ثم ملاك عاصي أو جن صالح يعود للنزاع في العقل البشري وميله نحو التوحيد وكان لليهود أثر كبير في ذلك ابتداء من الاسر البابلي اذ نقلوا تقريبا كل آلهة الرافدين معهم لأرض كنعان في فلسطين والشام وعلى رأس هذه الآله نقلا الإله الجبار ( إيل ) واتباعه من الآلهة التابعة ( عزرا - إيل ، ميكا - إيل ، إسراف - إيل .. الخ ) ومع توجه اليهود للتوحيد الذي فرضه الله الواحد ( يهوه ) والنبي موسى للتوحيد .. لم يتركوا تلك الآلهة وحولوها من آلهة إلى أتباع الله الواحد واعتبروها أقل شأنا من الله .. ولكنها ظلت تحمل الطابع الإلهي فهي مثل الله نورانية التكوين خالدة لها قدرات كقدراته ولها أجنحة آلهة الرافدين ولازالت للآن تماثيلها المجنحة في العراق لليوم ..
وأطلقوا عليها بالعبرانية الملائكة Mala kh وأصبح الإله الجبار ( إيل ) سيد تلك الملائكة وهو جبرا - ايل أو جبريل .. والكلمة تعني بكل اللغات السامية ومنها العربية بمعنى الجبروت والقوة كما كانت تنطقها الحضارة في الرفدين ..
ونجد في سفر أشعيا يقول أن طائفة من الملائكة تسمى السارافيم تحرس عرش الرب في معبد أورشليم وتسبحه ... وسارافيم في العبرية تعنى مفرد ساراف = الحية !!
باعتبار أن الحية هي كانت من الملائكة لكنها أغوت حواء بالأكل من الشجرة المحرمة وهنا رمزية الشيطان أو هي ابليس كما قالت المسيحية .. وبذلك يعتقدون كلهم أن الشيطان كان ملاكا فتمرد ونزلت الحية للأرض فتطورت وظهرت لنا أساطير التنين الذي يرمز دوما للشر والهلاك وينفث النار .. فنجد في انجيل اصحاح الرسل " أنه التنين العظيم ، الحية القديمة ، المدعو ابليس ، الشيطان الذي يضل العالم " الاصحاح 12 .
هكذا أخذنا جولة على الاسطورة وتنقلها في العقل البشري من خلال ما يسمى الإله النقيض أو إله الشر الشيطان وكيف تناقلته البشرية وكيف تطور في العقل الجمعي

يمكن يا عزيزى أن تستمتع بكتابات صادق جلال العظم فى كتابه نقد الفكر الدينى ..كتاب إبليس للعقاد ..كتاب إبليس في التحليل النفسي لفرويد ...علاوة على مقالات لفراس السواح .

أنا مفتون بالميثولوجيا ..ةإذا أحببت أسماء كتب فيها ..اكون سعيد أن أرسلها لك .

*** مزيد من البحث فى أسطورة الشيطان فى الفكر الإنسانى .

لا تكاد أي عقيدة دينية مهما كان أسمها أو مصدرها , قدمها أو حداثتها , أن تخلو من مفهوم خاص عن الشر الذي يمكن أن يصيب الإنسان سواء أثناء حياته و حتى بعد مماته , و لا تكاد أي عقيدةأن يخلو تفسيرها للخلق و التكوين من وجود هذا المفهوم الذي برز عبر التأريخ الطويل لمسيرة الإنسان الاعتقادية بكل أشكالها و مراحلها كفكرة لا بد من تواجدها في صلب إعتقادة و إيمانه , بل و أصبح ضرورة لايمكن الإستغناء عنها و ذلك لفهم أفضل لوجوده البشري و محاولة التفسير و الإجابةعن العديد من الأسئلة و الإشكاليات التي واجهته عبر وجوده الطويل على الأرض و سواء كانت فكرة الشر متجسدة بالنسبة للإنسان القديم في البداية على شكل أرواح ضارة ليس لها كيان أو إسم معين أو بشكل كائن محدد و معروف فيما بعد , فإن هذه الفكرة أصبحت جزءا لا يتجزأ من عملية الإيمان نفسهاعلى اعتبار أن الشرهو النقيض المتعارض على الدوام مع الجانب الآخر من الدين و هو الخير سواءكمنفعة شخصية كما كان يفهم أولاً أو كمفهوم أخلاقي شامل كما أصبح فيما بعد , وعلى هذا الأساس كان تقسيم الإنسان البدائي للأرواح و الأطياف إلى طيب و خبيث و ذلك حسب نفعها أو مضرتها و بالتالي كان يحتاج إلى الكاهن و الساحر ليروض له الخبيث بالرقي و التعاويذ و يجزي عنه الطيب بالدعوات و القرابين .
و خطا الإنسان بعد ذلك بشكل تدريجي و بطئ خطوة أخرى نحو الأمام في طريق الدين فجمع كل الصفات الشريرة و كل تلك الأرواح الضارة والخبيثة في شخصية واحدة تسمى بأسماء عديدة إلا أن أشهرها و أكثرها إنتشاراً على الإطلاق كان أسم الشيطان الذي ورد لأول مرة كإسم علم و ذلك في في التوراة في سفر الأيام الأول – الإصحاح 21: (... و تآمرالشيطان ضد إسرائيل) . وقد ظهرت العديد من التفاسير و الشروحات لتوضح و تعرف شخصيةالشيطان الشهيرة هذه , و لكن على العموم تحددت التفاسير بإثنين فقط لا ثالث لهما الأول يقول بأنه ليس هناك من شخصية معينة و محددة تدعى بالشيطان , إنما الشيطان هو كل تلك الغرائز و العقد النفسية و الرغبات المكبوتة فينا , أو كما يقول عالم النفس سيغموند فرويد (أن الأبالسة في نظرنا نحن , رغبات شريرة , مستهجنة تنبع من دوافع مكبوحة مكبوتة) . أماالتفسيرالثاني فلا يرفض وجودالشيطان ككائن معين و ذو صفات تتفق علها أغلب الديانات على إعتبار أن العقل و العلم لا يرفضان وجود الشيطان أو الأرواح الطيبة منها أو الخبيثة .
أما من الناحية اللغوية فقد حاول الدارسون و الباحثون أن يجدوا أصلاً لهذه التسمية إلا أنهم إختلفوا كل الإختلاف مثلما إختلفوا حول كلمة إبليس فقال البعض أن كلمة الشيطان أصيلةفي اللغة العربية على إعتباروجودالعديد من الكلمات التي يعطي مصدرها معاني و الضلالة و الإحتراق و البعد مثل(شط – شاط – شوط و شطن) , و البعض الآخر قال أنها عبرية و تأتي بمعنى الضد أو العدو . أما كلمة إبليس فقد رأى البعض أن أصلها يوناني من كلمة (Diabolos) ديابلوس و تأتي بمعنى الإعتراض و الوقيعة , و البعض الآخر يرى أنها آتية من كلمة (الإبلاس) أي اليأس التام من رحمة الله و من العودة إلى الجنة , و منهم من قال إن أصل التسمية مأخوذ من (Devil) في اللغات السكسونية و التي تعني يفعل الشر بينما أرجع الآخرون الكلمة إلى (مغستوفليس) و هي مأخوذةمن اليونانية و تعني (كراهية النور) و مصدرها هو السحر البابلي الذي وصل إلى الغرب على أيدي اليهود اليونان و هذه التسمية تمثل روحاً من أرواح النحس التي تتسلط على بعض الكواكب ,لقد اتفقت معظم الأديان السماوية منها و غير السماوية على الصفات التي تنسب إلى الشيطان و إن كانت هذه الأديان تختلف في نظرتها اختلافا جزئياً أو كلياً إلى مدى قدرة ولإرادة الشيطان على فعل الشر كما سنرى لاحقاً ففي البداية لم يكن هناك شيطان إنما هي مجموعة من الأرواح و الأطياف تمتلك صفات معينة و هذه الصفات تتعلق بمدى الضرر أو المنفعة التي يمكن أن تلحق بالأنسان البدائي لكي يقول عنها إنها شريرة أو خيرة و يرمز لها بكائنات أو أشكال مادية محسوسة كالتماثيل و الأحجار و الهياكل و ذلك في محاولة منه لإرضائها أو لتجنب شرورها (مثلما نرى ذلك واضحا في عبادة الأسلاف و الطوطمية و الفشتية) أي إن الشر أو الخير كان محصوراً بالنسبة له في مدى الضرر أوالنفع الذي يلحقه و يصيبه أما إذا كان هذا الضرر يصيب الآخرين و يحقق فائدة له فلا بأس به و يمكن أن يكون خيراً , و لكنه بعد ذلك , و بعد إرتقت عقليته الدينية إلى مراتب و مدارك أعلى من السابق أصبح يفهم الشر كمفهوم أخلاقي شامل أكثر من كونه مفهوما نفعياً فقط , فأصبح يعرف و يدرك أن الشهوات و الفتنة و الإغراء و المطامع إنما هي شرور سواء كانت هذه الصفات في مصلحته الشخصية أم لا , و سواء حققت له فائدة و منفعة أم لم تحقق لأن الشر هنا أصبح مفهوماً شاملاً أكثر من كونه مجرد وسيلة تحقق الضرر أو المنفعة للإنسان على حساب غيره .
و هنايمكن أن تقسم الأديان إلى قسمين رئيسيين و ذلك حسب الوظيفة التي يشغلها الشيطان فيها أو حسب مفهومها للشر و الغاية من وجوده ممثلاً بالشيطان كقوة روحية معبرة عنه (لا يعني هذا التقسيم بين أديان موحدة و أخرى غير موحدة إنما هو تقسيم مبني فقط على وظيفة الشيطان فيها ليس إلا) , وعليه فإن القسم الأول سيشمل الأديان التي تنظر إلى الشيطان كقوة ذات طبيعة شريرة نابعة من تكوينها و مرتبط بوجودها و معبراً عن كيانها التركيبي و بأن فعلها للشر إنماهو تعبير عن هذه الطبيعة التي جبلت عليها و نرى ذلك واضحاً في الأديان القديمة , بينما القسم الثاني يشمل الأديان التي تنظر إلى وظيفة الشيطان أو سبب وجوده و فعله للشر كضرورة تكتيكية إختبارية من قبل الخالق لمعرفة مدى قدرة الإنسان على التمسك بجانب الخير أو إنزلاقه وراء الشيطان و ما يمثله من غواية و ضلالة و بالتالي إعطائه ما يستحق من مكانة خالدة في الجنة أو النار إلى أبد الآبدين , و نرى ذلك في الأديان اليهودية – المسيحية و الإسلامية و إن كانت هناك العديد من الفروقات في مكانة الشيطان و قدرته على فعل الشر في هذه الأديان .
أديان القسم الأول :
إن أي باحث في الأديان القديمة ستصيبه الحيرةو الإرباك و هو يحاول البحث عن شخصية معينة واحدة أو عن الشخصية الشريرة المميزة التي يمكن مقارنتها بالشيطان كما هو معروف في باقي الأديان الحديثة , إذ أن هناك عدداً كبيراً جداً من تلك الكائنات الشريرة الظلامية و التي تتبوأ مكانة كبيرة في عالمها الظلامي و لها قدرة غير إعتيادية على فعل الشر و ذلك واضح من خلال أسماء العديد منها في تلك الأديان مثلما نرى في المندائية : أطرفان (يضرب بقوة , يؤذي) , أماميت (معتم مظلم) , كرفيون (الملتهم) , نمروس (الماردة , الساحقة , الهارسة), أور(قائد جيوش الظلام , المارد , التنين) و غيرها من الكائنات الشريرة , إلا أن الشخصية الرئيسية التي تلفت الإنتباه من بين تلك الكائنات هي الروهة (روح الشر) و التي هي أم الشيطان و الكواكب السبعة و العلامات الزودياكية (البروج الإثني عشر) و أم كل الكائنات الشيطانية في مملكة الكون , إن هذه المكانة الكبيرة للروهة تتعاظم لدينا إذاما علمنا أن ولادة ملك الظلام كانت من قبل الروهة و كذلك سيد الظلام (أور) هو إبن لها و يسمى كاف–قن–كرون إن تعدد الكائنات الشريرة و صعوبة تحديد من يقف على قمة عالم الشر نراها كذلك في ديانة مابين النهرين حيث تقسم الشياطين إلى ثلاثة أنواع و ذلك حسب الأصول التي تنحدر منها , فالصنف الأول هو (ذرية الإله العظيم آنو) و يقصد بهم المنحدرين من اصل سماوي , و الصنف الثاني من أصل بشري و هم أشباح الموتى , أما الصنف الثالث فينحدرون في أصلهم من العالم الأسفل و كانوا حشداً غفيراً من مختلف الانواع ولهم القدرة على إلحاق الأذى بأرواح الموتى الموجودة في العالم الأسفل و بكل المخلوقات على الأرض , كما تشير إلى ذلك إحدى التعاويذ
(عبر الاسوار العالية السميكة , يمرون كالطوفان
يمرقون من بيت إلى بيت
لا يمنعهم باب و لا يصدهم مزلاج
فهم ينسلون عبر الباب كانسلال الأفاعي
و يمرقون من فتحته كالريح
ينتزعون الزوجةمن حضن زوجها
و يخطفون الطفل من على ركبتي أبيه
و يأخذون الرجل من بين أسرته)
بل و وصل الأمر إلى أن يكون لهذه الكائنات الشيطانية نوع من التخصص في عمل الشر و إيذاء الآخرين : (اشاكو) الذي يتغلغل في أجسام الناس يسبب الصداع , (رابيصو) الذي يختفي أثناء النهار و يظهر في الليل يسبب أمراض الجلد , (لبرتو) تسبب الكوابيس و (لباسو) يسبب الصرع ... الخ إضافة إلى أن أشكالهم تتميز بالقبح و الشذوذ كما تشير إلى ذلك إحدى التعاويذ :
( إنهم ليسوا ذكوراً و لا إناثاً
إنهم الرياح المهلكة
لا يعرفون شفقة و لا رحمة
إنهم الشر و كل الشر)
و مع ذلك فأن كل الكائنات الشريرة الموجودة في حضارة ما بين النهرين و ما تمثله من شر قد جمعت في شخصية واحدة تعتبر للعراقي القديم مصدر واساس لكل البلايا التي تصيب البشر بل و حتى الآلهة دونما تمييز , و هي شخصية الربة تياميت التي تعاظم شرها و إزداد بلاؤها ليصيب الأرباب أنفسهم مما حدا بهم أن ينتدبوا الإله الشاب مردوخ لمقاتلتها و القضاء عليها .
أما في الديانة المصرية القديمة فإن الإله المصري الذي نشهد ارتباطه بالشر في كافة العصورالتأريخية في مصر القديمة فهو (Apophis) أبوفيس و هو عفريت على شكل ثعبان ضخم جداً ذي طيات متعددة في كل منها سكين حاد , و إضافة إلى هذا الإله فقد كان هناك أيضا (سيث) أخو أوزيريس , و هما إبنا الإله رع إله الشمس , الذي تشير المصادر إلى أنه قتل أخاه أوزيريس و رماه في نهر النيل و مصدر آخر يشير إلى اتهم أخاه بالظلم و العدوان و انكشفت هذه الكذبة فاصبح سيث رمزاً للكذب و النميمة و بالتالي أصبح مرادفاً (لكل ما يدل على الخراب و الشر) , وفي الأزمنة المتأخرة من المملكة المصرية الحديثة اعتبر هو نفسه التيفون (الريح العاتية الشديدة) و الثعبان أبو فيس و الشيطان و بذلك فقد صار عنصر شر بذاته وعدواً للأرباب .
و نجد كذلك في الحضارة الهندية و عقائد شعوبها مثالا آخر لفكرة تعدد الكائنات الشريرة و عدم وضوح الشخصية الرئيسية من بينها والتي يمكن مقارنتها بشيطان الأديان السماوية إلا بالكاد , فهناك الـ(راكشا) و هي عفاريت خبيثة ,ينسبون إليها أعمالا كأعمال الشياطين في الأديان الأُخرى و الـ(راكشا) كما يقول البعض هو الأسم الذي كان يطلق على الهمج الأوائل الذين سكنوا الهند قبل إغارة الآريين عليها و كانت لهم حراسة على الطرق و ينابيع الماء , وقد رسخ في الأذهان إنهم أعداء البشر و إنهم يتربصون بالناس و يؤذونهم , و هناك أيضاً الحية آهي (Ahi) التي هي نفسها كما يظهر تجسمها للشر و التي قتلها الإله أندرا , و كذلك الربة الهندية (سيتالا) التي غضب عليها الإله (كيلاسا) و أخرجها من الجنة و بذلك صارت من الأرباب الساقطة المغضوب عليهم , ونجد أيضاً (مايا) و هي تعبير عن العالم المحسوس الذي يعتبر هو الشر و الباطل و إن كل ما يربط الإنسان به شر و باطل مثله و قد صوروا العالم المحسوس أو (مايا) على شكل أنثى شديدة الفتنة و الإغراء على إعتبار أن كل الملذات و الفتن و الشرور تتجمع حسب رأي الهنود في المرأةأما الشخصية المميزة بين هذه الكائنات الشريرة و التي يمكن مقارنتها بشكل كبير بشيطان الأديان السماوية فهي شخصية الرب (Mara) مارا الذي أغوى بوذا , وقد صورته الأساطير الهندوسية و التعاليم الدينية كمسؤول عن كل مباهج الدنيا و لذاتها و إغراءاتها و الفساد و الهرطقة وهو يسكن دوماً في الطبقة السادسة من السماء .
أما في الديانة الزرادشتية فنرىأن هناك تطورا كبيراً قد لحق شخصية الشيطان فنجدها أكثر وضوحا و أكثر تحديداً منها في بقية الأديان القديمة , و يسمى الشيطان في الزرادشتية بأهريمان (Ahriman) و سمى كذلك أنكرامينو (Angramanyu) , وعلى الرغم من وجود شخصية دروج (Druj) والتي هي التجسم الأنثوي للشر و تمثل جميع أعمال أهريمان الشريرة إلا أنه يبقى الشخصية الرئيسيةو الوحيدة الممثلة للشر بكل وضوح .
و كما رأينا فإن إحدى المميزات التي تتمتع بها الأديان القديمة في مفهومها عن الشر هي تعدد الكائنات الشريرة و عدم وجود شخصية واحدة رئيسية كما هو الحال في شيطان الأديان الحديثة , إضافة إلى ذلك نرى أن الصراع الموجود و المستمر بين هذه الكائنات وما تمثله من قوى شريرة و ظلامية مع نقيضها من قوى الخير هو صراع يجري دائماً بعيداً عن الإنسان بمعنى آخر أن الصراع بين هاتين القوتين هو صراع مباشر بينهما و لا دخل للإنسان فيه , فعالم النور في الديانة المندائية يرسل عدداً من الأثري (منداد هيي – هيبل زيوا) في رحلات إلى عالم الظلام لسحقه و قمع قواه الشريرة , كذلك في البابلية عندما تبعث الأرباب بالإله الشاب مردوخ لمقاتلة الربة تياميت و القضاء عليها و هذا ما تم فعلاً عندما استطاع هزيمتها و تقديم قائد جيوشها كنكو إلى الآلهة ليحكموا عليه بالموت و ليخلقوا من دمه الإنسان , و في الزرادشتية يستمر الصراع سجالاً بين الجانيبن , (أهورا مزدا) إله الخير و أهريمان إله الشر , إلى أن ينتهي الأمر بهزيمة عالم الظلام و شياطينه و لكن هزيمة مؤقتة و ليست نهائية ليبدأ بعدها الصراع من جديد , و في الديانة المصرية القديمة يستمر القتال و الصراع بين أوزيريس من جهة و بين سيث من جهة أخرى و كما أن عبادة أوزيريس تحظى بشعبية كبيرة في شمال مصر فأن عبادة سيثا هي الأخرى تحظى بشعبية كبيرة لدى أهل جنوب مصر , و ربما كان الصراع بين هذين الشعبين هو الأصل في اختلاف نظرتهما إلى هذين الإلهين . و من خلال هذه الصراعات المستمرة بين هذين القوتين المتناقضتين , نلاحظ أن المبادرة بالتحرك و الهجوم و الفعل يبدأ دائماً من جانب قوى الخير أو إله الخير أو عالم النور , بينما تكون حصة القوة المقابلة , قوة الشر هي رد الفعل و الدفاع فقط عن نفسها و وجودها من هذه المبادرات و الأفعال , فعالم النور في المندائية هو الذي يرسل الأثريين لمقارعة عوالم الظلام و كائناته و ليس في يد الكائنات الشريرة إلا القتال و الدفاع عن نفسها من هذا الخطر المحدق بها دون أن تستطيع أن تتخذ فعل المبادرة كما هو الحال في الجانب الآخر , وقد بدا ذلك واضحاً عندما رغب ملك الظلام أن يعلن الحرب على ملك النور و العوالم الأخرى : (.... سأصعد غلى تلك الأرض المشعة و أعلن الحرب على ملكها , سأنتزع منه تاجه و أضعه على رأسي , و سأكون ملك الأعالي و الأعماق) إلا أنه يعجز عن ذلك تماماً و يكتفي بالصراخ و الزئير دون فعل حقيقي يذكر . و نفس المشهد يتكرر في الديانة البابلية في رحلة مردوخ و مقاتلة الربة تياميت حيث تكون المبادرة بالتحرك و الهجوم و الفعل من قبل جانب الخير و كذلك هو الحال في الديانة الزرادشتية , في الصراع بين اله الخير أهورا مزدا و بين إله الشر أهريمان .
كذلك نلاحظ أن هناك تركيزاً ملفتاً للإنتباه في هذه الأديان على الشخصية الأنثوية باعتبارها رمزاً من رموز الشر أو الشيطان , ففي المندائية هناك (الروهة) و في البابلية (تياميت) و في الديانة الهندية (سيتالا و مايا) و في الزرادشتية نرى (دروج) , إضافة إلى إن معظم الشخصيات الشريرة الرئيسية في هذه الأديان هي آلهة مثل (الرب مارا) في الديانة الهندية و (الربة تياميت) في الزرادشتية و (الإله سيث) في الديانة المصرية , وهناك مسألة أخرى لا يسعنا إلا أن نذكرها و نحن نختتم أديان القسم الأول و هي إن معظم الشعوب التي كانت تدين بهذه العقائد قد إستعملت الرقى و التعاويذ للحماية من الشيطان و أذيته , إذ نرى أن لدى عقائد البابليين إن الرقى كانت شائعة الإستعمال , يحملها الناس لوقايتهم من أخطار العفاريت و حتى الأرباب كانت تحملها طلباً للسلامة و القوة بل و حتى مردوخ كما ذكرت أسطورة الخلق البابلية كان مزوداً بالسحر لدى محاربته تياميت , و كذلك نرى في الهند إن أحجار الخواتم و الرقى استخدمت و لبست و التي دون شك كانت في إعتقادهم تطرد الأرواح الشريرة , و أيضاً لدى المصريين كان إستعمال التعاويد أمراً شائعاً جداً و في المندائية ما زال المندائيون يستعملون السكندولة ****يلة من وسائل الحماية ضد الكائنات الظلامية الشريرة مع ما تحمله السكندولة من رموز عالم الظلام نفسه إن مبدأ محاربة الشر بالشر أو برموزه قد أخذ شكلاً آخر لدى بعض العقائد المتطرفة في نظرتهاللشيطان , إذ اعتقد أهل هذه العقائد إن عبادة الشيطان هي الوسيلة الأكثر ضماناً للوصول إلى عالم النور , بمعنى آخر , الوصول إلى النور من خلال الظلام , وقد بدا ذلك واضحاً لدى بعض الفرق الثنوية و منها المانوية و الشامانية اللتان تؤمنان أن إله الخير و النور قد ترك الأرض للشيطان ولو إلا حين , و كذلك الفرقة الأورفية و الكاثارية التي ظهرت بين العشائر الألمانية في القرون الوسطى , و أيضاً البوجمولية في بلاد البلقان و الألبية في فرنسا الجنوبية .

أديان القسم الثاني:
تحدثنا و بشكل مختصر عن مفهوم الشيطان أو الكائنات الشريرة و عالمها الظلامي في بعض الأديان القديمة , نرى أن هذا المفهوم أو هذه الصورة قد تغيرت و بشكل كامل و جذري مع مجئ الديانة اليهودية ليستمر هذا التغيير و يتبلور بشكل أكبر في الديانة المسيحية و أخيراً في الإسلام , و على الرغم من وجود العديد من الإشارات في العهد القديم إلى العفاريت و الشياطين و الأرواح الشريرة إلا أن الشيطان كان يتمتع بمنزلة خاصة و مكانة معروفة و محددة ككائن معين و محدد له شخصيته و مكانته التي لايضاهيها أصلاً غيره من العفاريت و الأرواح الشريرة.
إن أهم التغييرات التي لحقت بالشيطان و صورته عن مثيلتها في الأديان القديمة هي :
1- تحول الشيطان من مكانته كإله في الأديان القديمة إلى مجرد ملاك , أو كبير الملائكة في أحسن الأحوال و المقربين من الله , و الذي تم إسقاطه و إبعاده عن الحضرة الإلهية الربانية لسبب من الأسباب و هي غالباً ما تكون الكبرياء و الإعتزاز بالنفس و الخيلاء و الغرور ,: (إن افتخار الشيطان بجماله و حكمته التي أعطاها الله له هما السبب في سقوطه) و كذلك القرآن الكريم (و إذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى و استكبر و كان من الكافرين) , و أيضاً (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين . قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين) , إن حالة التغيير هذه من الألوهية التي كان عليها الشيطان إلى وضعيته الجديدة كملاك و مغضوب عليه أيضاً قد دعم الإتجاه التوحيدي بشكل قوي جداً , إذ لم يتبق أي نوع من التساوي في المكانة و النفوذ بين الله و بين الشيطان , إنما أصبح الله هو الإله الذي لا اله غيره و هو الخالق لكل شئ و الآمر لكل شئ , أما الشيطان فقد أصبح دوره في هذه الأديان الثلاثة دوراً هامشياً وليس له إلا أن يسير في دربه المرسوم له سابقاً , لقد ساد الإعتقاد في الفكر العبري القديم إن كل شئ يعود في خلقه إلى الله فالله معطي الحياة جميعها , يهوة هو الرب الأعلى و هو المصدرر الوحيد للخير و الشر , أو كما يذكر في سفر أيوب 38:8 و ما بعدها (... إن كل مصيبة تحل بالناس سواء بالأفراد أو الأمم يرسلها يهوة) , وكذلك : (فهو الذي يرسل من يريد إلى شيول (الجحيم) و ينتشلهم منها متى شاء) , وهو الذي أغوى الإنسان كي يختبر تقواه و مدى إخلاصه له و إستمراره في تعبده كما في حالة إبراهيم و أيوب , وقد عبر أيوب عن هذه الحقيقة عندما قال (أنقبل الخير من عند الله و لا نقبل الشر) ( , و كذلك في سفر أشعياء 244-24 نقرأ (من الذي دفع يعقوب إلى السلب و إسرائيل إلى الناهبين, ألم يكن الرب) , إن هذه السيطرة الكاملة لدى الرب بأفعال الخير أو الشر على حد سواء قد جعلت الباحثين في الأديان الحديثة يعطون رأيين أثنين حول علاقة الله بالشيطان , الأول يقول أن الشيطان ربما يكون هو الرب متنكراً و الثاني يقول أن الشيطان هو يد الله اليسرى المسيرة من قبله أو أن الشياطين هي مخلوقات ربانية غير كامله .
2- على الرغم من قدرة الشيطان في هذه الأديان على فعل الشر و إغواء البشر و دفعهم إلى عصيان الله ثم التهلكة , فإن هذه القدرة الخارقة في الحقيقة ما هي إلا مظهر يختبئ تحته شيئاً آخر تماماً و مخالف للواقع الذي يقول إن الشيطان لا يمتلك أي إرادة خاصة به على فعل الشر , إنما كل أفعاله يكون مصدرها أما أمراً مباشراً أو غير مباشر من الرب أو لضعف الإنسان أمام الإغراءات و الغواية , ففي المسيحية نرى أن الشيطان في الظاهر يمتلك قوة خارقة و يستطيع أن يفعل ما يشاء في هذا العالم , ففي إنجيل يوحنا 14-30 نقرأ (... الشيطان الآن هو أمير بل ورب هذا العالم الفاني على السواء) و يقول عنه بولس في رسالته الثانية إلى كورنثوس بأنه (إله هذا الدهر) كما أنه (رئيس سلطان الهواء) كما يقول عنه في رسالة أفسس و هو روح الضعف , الشرير , رئيس هذا العالم , التنين العظيم , الحية القديمة إضافة إلى العديد من الأخبار و الإشارات التي تتحدث لنا عن قوته الكبيرة و مدى قدرته و سلطانه على إتيان الشر , و لكن في حقيقة الأمر فإن الشيطان لا يستطيع أن يخطو خطوة واحدة دون أن يستأذن الرب في ذلك كما حدث في حالة طرد الشياطين من أحد الأشخاص و توسل هذه الشياطين إلى يسوع أن يأذن لها بالدخول في الخنازير , فأذن لهم (لوقا 8 : 26 - 34) أما في الإسلام فإن الشيطان لا يمتلك الإرادة الخاصة به أيضاً لفعل الشر و لكن هنا يأتي فعله كنتيجة مباشرة لضعف الإرادة الإنسانية أمام الشر و الغواية و الإغراء: (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني و لوموا أنفسكم) بل و في آية أخرى نرى بوضوح الدور الهامشي للشيطان و حقيقة موقفه الضعيف , فالله يخاطبه بقوله (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) .
3- لعل أهم التغييرات التي طرأت على شخصية الشيطان و مكانته و علاقته بالرب هي تحول الصراع بينه و بين الرب من حالة الصراع المباشر بين الأثنين إلى حالة الصراع غير المباشر , و هنا أصبح الإنسان و لأول مرة مركزاً رئيسياً لهذاالصراع وو سيلة الطرفين المتنازعين لتحقيق الإنتصار كل على حساب الطرف الآخر , وتحول الصراع وفق هذا المفهوم من عالمه العلوي الذي كان يجري فيه إلى عالمنا البشري مجسداً بالإنسان الذي بدأ يعتبر محوراً لساحة المعركة يدور حولها الشيطان و الرب على حد سواء , و نرى ذلك واضحاً و خصوصاً في الديانة الإسلامية عندما يطلب الشيطان من الرب إطلاق يده على إغواء البشر و إغرائهم على العصيان و الفسق كما يشاء , فأعطاه الله ما أراد حتى يوم الدين : (... قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون . قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم .قال ربي أغويتني لأزينن لهم في الأرض و لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منه المخلصين ) , و كذلك (قال أنظرني إلى يوم يبعثون . قال إنك من المنظرين . قال فيما أغويتني لأقعدن لهم سراطك المستقيم . ثم لآتينهم من بين أيديهم و من خلفهم و عن أيمانهم و من شمائلهم و لا تجد أكثرهم شاكرين) . أصبح الإنسان هو الوسيلة و هو الهدف الذي يسعى الجانبان إلى كسبه و الصراع من أجله و من خلاله بنفس الوقت , و تحولت المعركة بين الله و بين الشيطان من رحلات و غزوات و معارك بين عالميهما و كائناتهما إلى معركة تدور داخل الإنسان باعتباره يمثل وجهان لعملة واحدة و هما الخير و الشر , النور و الظلام , الحق و الباطل و الفائز منهما هوالذي يجعل الإنسان يتخذ الوجهة التي يريدها , تماماً كما حدث في قصة أيوب و المعاناة التي واجهها هذا العبد الصالح الذي صمد حتى النهاية في اختياره لطريق النور و الإيمان فاندحر بذلك الشيطان مع هذا العبد و خسر معركة كان يمكن أن يفوز بها و لكن فقط لو شاء الله تعالى . و الملفت للنظر في الأمر أن الديانة المندائية و على خلاف بقية الأديان القديمة نراها تحمل نفس المفهوم عن الصراع بين الرب و الشيطان الموجود في الأديان الحديثة على الرغم من وجود المفهوم القديم عن طبيعة الصراع و ما هيته و كيف يجري في العوالم العلوية و التي لا دخل للأنسان فيها , و لكننا مع ذلك نجد الكثير من النصوص التي تتحدث عن المحاولات التي تجريها الروهة لكسب آدم إلى صفها و الإبتعاد به عن طريق الله القويم , مثلما يذكر أحد النصوص في كنزا ربا الأيمن 3 ص 107 , حيث تتكلم الروهة و ملائكة الكواكب حول آدم :
(سنمسك آدم و ندخله في تجمعنا
في تجمعنا سندخله , ونعلق قلبه و نجعله في قبضتنا
و نصطاده عبر الأبواق و المزامير , حتى لا ينفصل عنا)
4- أصبحت و ظيفة الشيطان في هذه الأديان الثلاثة الأخيرة , وظيفة إختبارية تكتيكية فقط و ابتعد الشيطان بذلك عن ممارسة الشر كطبيعة موجودة فيه و مجبول عليها و انحصر دوره فقط في القيام بمهمة اختبار الإنسان و مهمة تضليله و غوايته ليس إلا , كما نرى ذلك في قصة أيوب أو قصة تجربته للمسيح و معرفة صلابة إيمانه أو في عملية التحدي التي جرت بين الله من جهة و بين الشيطان من جهة أخرى في الديانة الإسلامية , حول الإنسان و مدى صموده و صلابته في اختيار أحد الطريقين , طريق الحق أو الباطل , طريق الخير أو الشر , طريق النور أو الظلام.

عندما نخوض فى أسطورة الشيطان فلابد أن نعرج على كتابات للكاتب الرائع صادق العظم كما أشرنا سابقا .
سنحاول أن نضع إقتباسات لهذا الكتاب القيم ...لأنه من الصعوبة بمكان نقله كاملا .

القسم الاول

تمهيد:
لوحاولنا ان نحدد المشاعر الرئيسية التي عبّرت بها الاديان السامية الثلاثة عن علاقة الانسان بالإله لوجدنا انها تنحصر في المحبة والخوف والكراهية: محبة الله والخوف من جبروته وعقابه ,وكره عدوه ابليس.
عالج المفكرون الدينيون هذه المشعر وافردوا لها الصفحات والكتب, وكانت اقوالهم عن ابليس تتراوح بين المحاولات الجدية لمعرفة المكانة التي يحتلها في نظام الكون وتحديد علاقته بالاله واستقصاء الغاية التي وجد من اجلها, وبين مجرد الاستفاضة في شرح تلبيسة على البشر وتلقينهم التعاليم والتعاويذ المعروفة بغية ابعاده واتقاء شره..
لاشك أن كل واحد منا يحمل في محيلته صورة معينة عن شخصية ابليس ورثها كجزء لايتزأ من ثاقفته التقليدية وتربيته الدينية.
ولا اجدني مضطرا لان استرسل طويلا في اعادة هذه الصورة الى الاذهان لانها معروفة جيدا لدى الجميع, كان ابليس من المقربين بين الملائكة وكان له شأن عظيم في نظام الملأ الاعلى, الى ان عصى امر ربه فطرده من الجنة ولعنه لعنة أبدية, فأصبح بذلك تجسيدا لكل ماهو شر وجمع في ذاته كافة الخصائص التي تنتفي عن الله.
ونلاحظ هنا ان اسمه يدل على جوهره وهو "الابلاس" أي اليأس التام من رحمة ربه ومن العودة الى الجنة (وفقا للتفسيرات الاسلامية التقليدية لمعنى الابلاس).
ومن منا لايعرف المثل الذي يُضرب بأمل ابليس في الجنة ,دلالة على الامل الضائع كل الضياع.
تدل كلمة ابليس عند الجميع على الدس والفتنة والوسوسة والافساد والعصيان وماإليه من الصفات الشنيعة والقبيحة التي جسدها خيال البشر في شخصية واحدة هي الشيطان.
وعلى مر العصور أضفت مخيلة الانسان قوى كبيرة وقدرات عظيمة على ابليس: منها الطاقات الفكرية الخلاقة والقوى الفنية المبدعة ومنها القدرة على القيام بخوارق الاعمال وعجائب الافعال حتى اصبح ابليس يلي الاله مباشرة من حيث قوته وقدرته ومنجزاته.
وقد ألّف الامام جمال الدين بن الجوزي كتابا سماه"تلبيس ابليس". واحاط فيه بالطرق التي يلبّس بها ابليس على البشر فيبعدهم عن طريق الصلاح, والطريف في هذا الكتاب انه لا يرسم لنا الصورة التقليدية الشائعة لشخصية ابليس فحسب وانما يسبغ عليها من حيث لا يعلم ولايدري قوى خلاقة مبدعة تثير الاعجاب والتقدير.

وعلى سبيل المثال يعزو ابن الجوزي معظم الحركات الدينية والفكرية الكبرى التي قامت في تاريخ الحضارة الاسلامية الى عمل ابليس ويجلعه مسؤولا عنها فيحوله بذلك الى فيلسوف كبير ومتكلم قدير.
يقول إمامنا المحرتم ان السوفسطائية والدهرية والطبائعية, واديان الشرق الاقصى, والمسيحية, وعلم الكلام وفرقة المعتزلة هي من اعمال ابليس ونتيجة لتلبيسه على المفكرين والعلماء.
كما انه يرد حركة الخوارج والرافضة والزهد والتصوف الى تلبسه على أئمة هؤلاء القوم بما فيهم ابوطالب المكي والامام الغزالي.
ويقول عن بعض الآراء الفلسفية مايلي:
"أن ارسطوطاليس واصحابه زعموا ان الارض كوكب في جوف هذا الفلك وان في كل كوكب عوالم كما في هذا الارض وانهارا واشجارا.. فانظر الى مازيّنه ابليس لهؤلاء الحمقى مع ادعائهم كمال العقل.
كما انه يقول عن تلبيس ابليس على اهل اللغة والادب مايلي:
"قد لبّس على جمهورهم فشغلهم بعلوم النحو واللغة من المهمات اللازمة التي هي فرض عين عن معرفة ما يلزمهم عرفانه من العبادات وماهو اولى بهم من آداب النفوس وصلاح القلوب.
نستنتج اذن ان الفكرة الشائعة عن مقدرة ابليس لاتنحصر في مجرد اعتباره مصدر اغواء الناس عن سلوك الطريق القويم بل تتعدى ذلك لتشمل قسما كبيرا من مجرى الاحداث ويعتبر مسؤولا عن معظم الحركات الفكرية والفنية والسياسية في تاريخ الحضارة.

بعد هذه المراجعة السريعة للصورة التقليدية الشائعة عن ابليس وسلطانه أريد أن ابين ان هدف هذه الدراسة هو اعادة النظر في قصة ابليس ودراسة شخصيته وموقفه ومسؤوليته ومصيره على ضوء جديد يختلف عما الفناه من عقائد وافكار سيطرت على تصورنا لهذا المخلوق.
أما المراجع الاولية التي سأعتمد عليها فهي الآيات القرآنية التي تروي لنا قصة ابليس وسيرته وبعض المؤلفات التي تركها لنا المفكرون المسلمون الذين اهتموا بابليس وشخصيته و عصيانه ووظيفته ونهايته.
ولكن قبل ان ادخل في صلب الموضوع اريد ان يتضح للجميع ان بحثي يدور في اطار معين لايجوز الابتعاد عنه على الاطلاق الا وهو اطار التفكير الميثولوجي-الديني الناتج عن خيال االنسان الاسطوري وملكاته الخرافية.
انني لااريد معالجة قصة اليس باعتباها موضوعا يدخل ضمن نطاق الايمان الديني الصرف ولا اريد ان اتكلم عنه باعتباره كائنا موجودا وحقيقيا وانما اريد دراسة شخصيته باعتبارها شخصية ميثولوجية ابدعتها ملكة الانسان الخرافية وطوّرها وضخمها خياله الخصب.

عند التفكير بموضوع ابليس أجد نفسي واقفاً وجهاً لوجه امام تراث ميثولوجي - ديني عريق في قدمه وتاريخه.
وجل ماأريد تحفيظه هو دراسة احدى الشخصيات الرئيسية التي انحدرت الينا مع هذا التراث شرط ان نبقى ضمن حدود المعطيات البديهية للتفكير الميثولوجي وبدون ان نخرج عن مسلماته الأولية.
ومن هنا يجدر بي ان ألفت الانتباه الى ان الفكرة المسبقة والشائعة عن الاسطورة وعن اهميتها بعيدة قليلا عن حقيقة الدور الذي تلعبه الاساطير في حياة الانسان وفي تركيب حضارته.
لقد اعتدنا ان نقول عن امر ما انه من باب "الاساطير والخرافات" لنحط من شأنه ونبعد أذهان الناس عنه ولننفي عنه صفات الواقعية والموضوعية ولنبين انه مجرد وهم وخيال.
لذلك أرى انه لابد من الاستطراد ولو قليلا في شرح بعض الحقائق الهامة عن طبيعة الاسطورة وعن اهمية التفكير الميثولوجي بالنسبة للانسان والمجتمع.

عرّف الفلاسفة الانسان بانه حيوان ناطق واذا كان الانسان حيوانا ناطقا فلاشك كذلك انه حيوان خرافي. فكما انه الحيوان الوحيد الذي يتصف بالنطق فانه الحيوان الوحيد ايضا الذي ينسج الخرافات والاساطير ويحولها ميثولوجيات معقدة يؤمن بها ايمانا جازما كما لو كانت حقائق واقعة لا ريب فيها.
التفكير الاسطوري اذن صفة جوهرية من صفات الانسان ووجه هام من اوجه نشاطه العقلي بالمعنى الواسع للعبارة.
لذلك وجه الكثيرون من الباحثين اهتمامهم الى دراسة نشاط الانسان الخرافي لما يكشفه من الحقائق الاساسية عن الانسان وعن مجتمعاته وقدراته وحضاراته.
وعلى سبيل المثال عندما اتكلم في هذا البحث عن "مأساة ابليس" لابد انكم ترجعون في اذهانكم الى الارتباط العضوي القديم بين المأساة والدراما من جهة وبين الميثولوجيا والتفكير الاسطوري من جهة اخرى.
كما ان اعادة النظر في هذه الشخصية الاسطورية التي درجنا على تسميتها بابليس ستتفتق عن ابعاد ونتائج هامة بالنسبة للدين والفــــن والفلسفة.
وقد بذل الباحثون جهوداً كبيرة لشرح العلاقات والارتباطات العضوية بين التفكير الاسطوري وبين الابعاد الدينية والفنية والفلسفية لأية معضلة من المعضلات الكبرى التي يواجهها الانسان.
الميثولويا بحد ذاتها كانت ولاتزال دينا بالقوة وفلسفة بالقوة لانها تحتوي في قالبها المرن غير المحدد الاطراف والابعاد على عناصر المواساة والتعزية الضرورية لكل دين وعلى خصائص التعبير الفني الخلاقة والاستجابة الجمالية للمؤثرات التي تحيط بالانسان وعلى نزعة نحو تعليل الاحداث وتفسير الوجود والتساؤل عن اصله وغايته. بالاضافة الى ذلك كانت الاسطورة ولاتزال الوسط الذي واجه الانسان فيه مشكلاته الكبرى والدائمة كالموت والمصير والشر واصل الاشياء وغايتها ومعناها. لذلك كان التفكير الميثولوجي يشكل وما قوة حضارية خلاقة يغرف منها الفكر الديني والتامل الفلسفي والتعبير الفني بالاستمرار. وزيادة في الايضاح سأستشهد بنص كتبه الفيلسوف الالماني أرنست كاسبرر الذي يعتبر من الرواد الذين درسوا طبيعة الاسطورة وبينوا علاقتها الجوهرية بباقي اوجه النشاط العقلية والروحية والفنية عند الانسان.
يقول كاسبرر في تحديده لعالم الاسطورة ، وهو العالم الذي حصرت نفسي فيه في هذا البحث، مايلي :
" فعالم الاسطورة عالم درامي - عالم اعمال وقدرات وقوى متصارعة, والاسطورة ترى هذا الاصطدام بين تلك القوى في كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة. والادراك الاسطوري مفعم دائما بهذه الخصائص العاطفية, فكل مايرى او يحس محاط بجو خاص - جو من الفرح او الحزن او العذاب او الهياج والاستبشار والغم. في حال الاسطورة فكل شئ ثمة خيّر أو شرير, صديق او عدو ، مألوف او غريب، جذاب معجب او منفر متوعد"

سأختم هذا الجزء التمهيدي من بحثي بالتأكيد على ان كلامي عن الله وابليس والجن والملائكة والملأ الاعلى لايلزمني على الاطلاق بالقول بأن هذه الاسماء تشير الى مسميات حقيقية موجودة ولكنها غير مرئية. ان تركيب اللغة يتطلب منــي بطبيعة الحال ان اكتب واتكلم بطريقة معينة توحي في الظاهر وكأن الشخصيات التي أرذكرها موجودة بالفعل ولكن لايجب الا يخدعنا هذا الوهم اللغوي , فلو كنت اكتب عن الامير هملت مثلا فلن يعتقد احد منكم بأن لهذا الاسم مسمى خارج نطاق التراث الادبي الذي تركه لنا شكسبير.
كما انه عندما نقول"قتل هملت عمه" فاننا لانعتقد بان مثل هذه الحادثة وقعت فعلا في تاريخ الدانمارك, وكذلك عندما نقول"طرد الله ابليس من الجنة" يجب الا نظن بأن مثل هذه الحادثة وقعت في تاريخ هذا الكون, لان مغزى هذا الكلام ومعناه يكمن في كونه رمزا لا فيه كونه وصفا لاحداث وقعت بالفعل .


القسم الثاني

اذا رجعنا الى المصادر التي قلنا اننا سنعتمدها في دراستنا لقصة ابليس نجد ان سيرته تبدأ بوصف لمكانته المرموقة في نظام الملأ الأعلى وعرض للمنزلة الرفيعة التي كان يتمتع بها بين الملائكة قبل طرده من الجنة. يقول الامام عز الدين المقدسي في كتابه"تفليس ابليس" مخاطبا الشيطان:
" وانت الذي خلقك الله بيد قدرته , وأطلعك على بدائع صنعته, ودعاك الى حضرة قربته, وألبسكخلع توحيده, وتوّجك بتاج نورك , ويستأنسون بحضورك , ويهتدون بعلمك ، ويقتدون بعملك . فما برحت في الملأ الاعلى. تشرب بالكأس الأملى . وتتلذذ بالخطاب الأحلى . طالما كنت للملائكة معلما وعلى الكروبين مقدما"(1)
ومن ثم تصف لنا الآيات القرآنية ماذا حدث لإبليس وكيف عصى ربه فلعنه الى يوم الدين وطرده من الجنة:
"وإذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدّس لك, قال اني اعلم مالا تعلمون.
وعلّم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني بأسماء هؤلاء ان كنت صادقين..
قالوا سبحانك لاعلم لنا الا ماعلمتنا انك انت العليم الحكيم. قال ياآدم انبئهم بأسمائهم فلما انبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم اني اعلم غيب السماوات والارض واعلم ماتبدون وماكنتم تكتمون واذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا الا ابليس ابى واستكبر وكان من الكافرين" البقرة:30 - 34
".. وإذ قال ربك للملائكة اني خالق بشرا من صلصال من حما مسنون, فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، فسجد الملائكة كلهم اجمعون, الا ابليس ابى ان يكون من الساجدين, قال ياابليس مالك ألا تكون مع الساجدين, قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حما مسنون, قال فاخرج منها فانك رجيم وان عليك اللعنة الى يوم الدين, قال رب فانظرني الى يوم يبعثوم, قال فانك من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم, قال رب بما اغويتني لأزينن لهم في الارض ولأغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين.." الحجر:28 -41

"ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا الا ابليس لم يكن من الساجدين. قال مامنعك الا تسجد اذ امرتك، قال انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. قال فاهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها فاخرج انك من الصاغرين، قال انظرني الى يوم يبعثون. قال انك من المنظرين، قال فبما اغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لأتينهم من بين ايديهم ومن خلفهم وعن ايمانهم وعن شمائلهم ولاتجد اكثرهم شاكرين. قال اخرج منها ملوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم اجمعين" الاعراف:10-17

تبدو قصة ابليس كما وردت في هذه الآيات ,بسيطة في ظاهرها, لقد أمره الله ان يقع ساجدا لآدم فرفض وكان ماكان من شأنه, غير انه لو اردنا ان نتجاوز هذه النظرة السطحية الى مشكلة ابليس لرجعنا الى فكرة هامة قال بها بعض العلماء المسلمين وهي التميز بين الامر الالهي وبين امشيئة او الارادة الالهية, فاالمر بطبيعة الحال إما ان يطاع وينفذ وإما أن يعصى, وللمأمور الخيار في ذلك. اما المشيئة الالهية فلا تنطبق عليها مثل هذه الاعتبارات لانها بطبيعتها لاتُرد, وكل ماتتعلق به المشيئة الالهية واقع بالضرورة. لقد شاء الله وجود اشياء كثيرة فير انه امر عباده بالابتعاد عنها كما انه امرهم باشياء وكلنه ارادهم ان يحققوا اشياء اخرى(2) لذلك باستاطعتنا القول بأن الله أمر ابليس بالسجود لآدم ولكنه شاء له ان يعصي الامر, ولو شاء الله لابليس ان يقع ساجدا لوقع ساجدا لتوه اذ لاحول ولاقوة للعبد على رد المشيئة الالهية.

اذا نظرنا الى الامور من هذه الزاوية بامكاننا ان نعتبر الامر والنهي اشياء طارئة وعرضية اذا قيست بسرمدية المشيئة الربانية وقد الذات الإلهية.
عندما نعيد النظر في الآيات القرآنية التي اثبتها في الصفحات السابقة يتبين لنا ان الله اراد للملائكة ان "يسبحوا بحمده ويقدّسوا به" , ويقول الطبري في تفسيره الشهير ان التسبيح والتقديس هما توحيد الله وتنزيهه وتبرئته مما يضيفه اليه اهل الشرك به(1).
وبعبارة اخرى يشكل التوحيد واجب الملائكة الاول والمطلق الذي ينبع من المشيئة الإلهية نفسها.
بعد ان بينا الفارق بين الواجب المطلق نحو الله وبين واجبات الطاعة الجزئية لأوامر الرب بامكاننا ان نميز الامور التالية في جحود ابليس:

1) لا شك ان ابليس خالف الامر الالهي عندما رفض السجود لآدم غير انه كان منسجما كل الانسجام مع المشيئة الالهية ومع واجبه المطلق نحو ربه.

2) لو وقع ابليس ساجدا لآدم لخرج عن حقيقة التوحيد وعصى واجبه المطلق نحو معبوده.
أراد الله للملائكة ان يقدسوه وان يسبحوا باسمه, لذلك كان السجود لآدم وقوعا في مايضيفه اهل الشرك الى الذات الصمدية مما هي منزهة عنه، إذ ان السجود لغير الله لايجوز على الاطلاق لانه شرك به . في الواقع يثير اختيار ابليس سؤالا هاما جدا هو : هل تكمن الطاعة الحقيقية في الاذعان للأمر ام في الخضوع للمشيئة؟ هل يكمن الصلاح في الانصياع للواجب المطلق ام لواجبات الطاعة الجزئية؟ لو كان الجواب على هذا السؤال بسيطا وواضحا لما وجدت المأساة في حياة الانسان ،ولما وجد ابليس نفسه في هذه المحنة ولما وقع بين براثن الامر والمشيئة. نستنتج إذن ان موقف ابليس يمثل الاسرار المطلق على التوحيد في اصفى معانيه وانقى تجلياته , وكان لسان حال ابليس يقول:" جبين سجد للأحد لايذل في الوجود لأحد"(2).
وعبّر شهيد الصوفية الحلاج عن هذه الحقيقة في كتاب الطواسين بالكلمة التالية:
" التقى موسى وابليس على عقبة الطور، فقال له ياابليس ‍ مامنعك عن السجود؟ فقال منعني الدعوى بمعبود واحد, ولو سجدت له لكنت مثلك, فانك نوديت مرة واحدة"انظر الى الجبل" فنظرت, ونوديت انا ألف مرة اسجد فما سجدت لدعواي بمعناي"(3)

3) برر ابليس رفضه السجود لآدم تبريراً منطقيا واضحا اذ قال: . بالاضافة الى ذلك تتضمن الآيات القرآنية التي أشرت اليها تبريرا خفيا لرفض ابليس وهو معرفته المسبقة بأن آدم وذريته سيعيثون في الارض فسادا ويسفكون الدماء وكان هذا شعور الملائكة اجمعين عندما قالوا لربهم:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدس لك.." أي كانت الملائكة بما فيهم ابليس, على علم بما سيرتكبه آدم وذريته من الكبائر والمعاصي فاستكبرت واستعظمت ان يخلق الله من يعصيه ويسفك الدماء.
وعند امعان النظر بحجة ابليس الاولى التي تتألف من مفاضلته بين جوهره (النار) وبين جوهر آدم (الصلصال) نجد انها لم تكن استكبارا وفخارا بقدر ما كانت استذكارا لحقيقة اساسية شاءها الله وأوجدها على ماهي عليه.
وهذه الحقيقة هي ان الله لم يخلق الطبائع على درجة واحدة من السمو والكمال وانما ميز بينها, ليس من حيث خصائصها الطبيعية والمادية فحسب بل من حيث درجات كمالها ورفعتها ايضا.
وبناء عليه ففي امكاننا ان نصنف الكائنات والانواع في نظام تقديري معين يبدأ بالكمال المطلق ذاته ثم يتدرج بالانواع هبوطا كل حسب درجة كماله التي اسبغها الله عليه الى ان نقترب من العدم باعتباره الحد الذي نقف عنده. ولاريب ان النار بطبيعتها وجوهرها تحتل مرتبة اسمى وأرفع في هذا الترتيب من المرتبه التي يحتلها الصلصال. بعبارة اخرى تنطوي مفاضلة ابليس بين جوهره وبين جوهر آدم على نظرة فلسفية معينة لنظام الكون وترتيب الطبائع وفقا لدرجات الكمال التي تتصف بها. لذلك كان ابليس على حق في جوابه لان الخالق جعل الاشياء على ماهي عليه من درجات الكمال والسمو, وأمر السجود لآدم يشكل مخالفة صريحة لهذا النظام وخروجا على الترتيب الذي شاءه الله وأوجده. فاذا كان جوهر ابليس ارفع في سلم الكمالات من جوهر آدم فلن تستطيع النار عندئذ ان تذل للصلصال الا بالسير في اتجاه مضاد لطبيعتها ومناف لدرجة الكمال التي اسبغها الله عليها، وهذا امر محال مالم يطرأ تحوّل جذري على المشيئة الالهية فتغير ترتيب الطبائع عما كانت عليه منذ ان اوجدها الله.
لقد أمر الله ابليس بشئ وشاء له تحقيق شئ آخر لذلك سنرى فيما بعد ان امر السجود لم يكن أمر مشيئة وانما كان أمر ابتلاء. ومن الطريف ان نلاحظ بهذا الصدد ان التحول الذي لحق بابليس بعد طرده من الجنة لم يمس جوهره وانما جرى على صفاته واحواله فتشوهت صورته واصبح لعينا رجيما.
عبّر الحلاج بطريقته الخاصة عن هذه الحقيقة في المحاورة التي مرّ ذكرها بين موسى وابليس حيث يبين ابليس لكليم الله ان التغير الذي اصابه والتشويه الذي نزل به كانا في الاحوال الظاهرة والزائلة فحسب ولم يمسا جوهره الدائم ومعرفته الثابته لاحكام المشيئة الالهية. قال موسى لابليس:
- تركت الامر.
فأجاب ابليس: كان ذلك ابتلاء لا أمرا.
فقال له موسى: لاجرم قد غيـّر صورتك.
فأجاب ابليس: ياموسى ذا وذا تلبيس والحال لامعوّل عليه فانه يحول. لكن المعرفة الصحيحة كما كانت, وماتغيرت وان الشخص قد تغيـر(1).

أما الحجة الثانية التي برر ابليس رفضه السجود لآدم فكانت تستند الى علم الملائكة بأن آدم وذريته سيفسدون في الارض ويسفكون الدماء, فكيف يسجد من كان غارقا في التوحيد والتسبيح والتقديس ومن كان إمام الملائكة وخطيب الكروبيين لمخلوق سيفسد في الارض ويسفك الدماء؟؟
يلخص الحلاج هذه الناحية من الموضوع بقوله:
قال الله لابليس: لاتسجد؟ يا أيها المهين ! فأجاب ابليس: محب والمحب مهين ، انك تقول مهين وانا قرأت في كتاب مبين, مايجر علي ياذا القوة المتين, كيف اذل له وقد خلقتني من نار وخلقته من طين, وهما ضدان لايتوافقان واني في الخدمة اقدم , وفي الفضل اعظم, وفي العلم اعلم وفي العمر أتم. (2)

نستكمل ما كنا فيه من مأساة إبليس .

نستخلص اذن من قصة ابليس كما وردت في الآيات القرآنية التي ذكرناها ليست بالبساطة التي كنا نتخيلها، لانها ليست قصة الصراع بين الخير والشر والحق والباطل. وقع ابليس بين شقي الرحى , رحى المشيئة من ناحية ..و رحى الامر من ناحية اخرى فكان عليه ان يختار اختيارا مصيريا بين واجبه المطلق في التقديس والتوحيد والتسبيح وبين واجبات الطاعة الجزئية التي أمره بها الله , فجاءت محنته مفعمة بالعناصر الدرامية والمأساوية.
قبل ان استمر في استخلاص النتائج المترتبة على هذا التصور لمحنة ابليس اجدني مضطرا للرد على الدعوى التي قال بها العقاد في كتابه"ابليس" .
تتلخص دعوى العقاد في محاولة للدفاع عن النظرة التقليدية السطحية الى شخصية ابليس واعتباره مجرد كائن عصى أمر ربه فطرده من الجنة. لذلك يرفض العقاد الاعتراف بمحنة ابليس ويقول بوجوب سجوده لآدم. وعند تمحيص هذا الرأي نجد انه يستند الى حجتين:

1- وجب على الملائكة السجود لآدم لانه خير منهم فهو قادر على فعل الخير والشر بينما الملائكة قادرة على فعل الخير فقط وهي بمنجاة من غواية الشر ولا توصف به(1).

2- حق السجود لآدم لان الله علمه الاسماء كلها ولم يعلمها للملائكة مما جعله أسمى مرتبة منها(2).
وسأرد على كل من هاتين الحجتين على حدة.

يبدو لي ان دعوى العقاد القائلة بفضل آدم على الملائكة لانه عرضة للخير والشر بينما هي بمنجاة من غوايته دعوى فاسدة من اساسها للأسباب التالية:
أ- تبرهن قصة ابليس انه حتى سادة الملائكة والمقربين منهم ليسوا بمنجاة من غواية الشر والا عصى لما عصى ابليس ربه وانتهى الى بئس المصير. نستنتج اذن ان الملائكة عرضة للخير والشر وهي كالانسان, مطالبة بالخير وممتحنة بالشرور مما ينفي فضل آدم على الملائكة وبالتالي يلغي ضرورة السجود له.
ب- لوافترضنا جدلا مع العقاد ان الملائكة ليست عرضة للخير والشر وانما هي تفعل الخير دائما بطبيعتها وجوهرها فهل يعني ذلك ان آدم افضل منها؟
لنطرح السؤال بصيغة اعمل وأشمل: أيهما افضل، الكائنات التي تصنع الخير احيانا وتصنع الشر احيانا أخرى فتفسد في الارض وتسفك الدماء ام الكائنات التي لاتصنع الا الخير بصورة مستمرة ودائمة؟
اعتقد ان الجواب على هذا السؤال واضح كل الوضوح ولايتطلب مزيدا من النقاش بدليل ان تصورنا الاخلاقي للارادة الفاضلة في أسمى مراتبها يقول بانها تصنع الخير باستمرار وبدون أي عناء او جهد, لان صنع الخير اصبح من جوهرها ومعدنها.
اما الارادة الناقصة فهي لاتزال تصارع وتجاهد للتغلب على غواية الشر لها محاولة بذلك الاقتراب من الارادة الفاضلة باعتبارها مثلها الاعلى. واذا كانت الملائكة, وفقا لدعوى العقاد, بمنجاة من غواية الشر فلا شك ان الله أنعم عليها بارادة فاضلة تجعلها أسمى وأرفع بدرجات من آدم وذريته. عندما قال الله للملائكة:" اني جاعل في الارض خليفة " استكبرت الملائكة الامر واستعظمته بدليل جوابها"أتجعل من يفسد فيها ويسفك الدماء". فهل يريد العقاد ان يجعل من قدرة آدم على افساد وسفك الدماء مصدراً لسموه على الملائكة؟

____________________
(1) عباس محمود العقاد ، ابليس ، دار الهلال ، القاهرة ، ص 10 ، 11 .
(2) العقاد , ص 148 .

ننتقل الآن الى الرد على حجة العقاد الثانية التي تدعي بأن سجود الملائكة حق لآدم لان الله علمه الاسماء كلها ولم يعلمها للملائكة. بيـّنا في السابق ان سمو ابليس على آدم كان سموا بالطبيعة والجوهر وليس سموا في الاحوال العارضة الزائلة كالتي اكتسبها آدم عندما علمه الله الاسماء كلها. بعبارة أخرى لايؤلف علم آدم بالاسماء كلها خاصة من خصائصه الجوهرية المميزة ، ولاشك انه كان باستطاعة الملائكة تعلّم الاسماء لو شاء الله ذلك. نرى اذن ان علم آدم بالاسماء كلها كان علما طارئا انعم اله عليه به ليغري الملائكة على السجود.

نستخلص مما ورد:
1- ان لافضل لآدم على الملائكة , بما فيهم ابليس, لا من حيث قدرته على صنع الخير والشر ولا من حيث علمه بالاسماء كلها.

2-أن جوهر ابليس افضل واسمى من جوهر آدم لان الله خلقه من نار وخلق آدم من صلصال وهو الذي للصلصال الا يسمو سمو النار.
3- ان دعوى العقاد القائلة بانه كان يجب على ابليس ان يسجد لآدم لانه افضل من الملائكة دعوى فاسدة ومردودة.

القسم الثالث

لنعد الآن الى محنة ابليس الناتجة عن تناقض الامر و المشيئة.
عبّر الحلاج عن محنة ابليس بايجاز رائع بقوله:
" لما قيل لابليس اسجد لآدم خاطب الحق:أرفع شرف السجود عن سري الا لك حتى اسجد له؟ ان كنت أمرتني قد نهيتني "(1).
وحدد الامام المقدسي طبيعة التناقض بين الامر والارادة الالهية بالكلمات التالية:
فاني نظرت بعين اليقين دائرة الشقاوة والسعادة: تدور على خط الامر ومراكز الارادة، وبينهما تدقيق يدق عن التحقيق، ومضيق يفتقر سالكه الى رفيق للتوفيق. فالآمر يهب والارادة تنهب، فما وهبه الآمر نهبته الارادة. الآمر يقول افعل والارادة تقول لاتفعل(2).

يبدو ان الامام المقدسي ادرك الكثير عن اهمية العناصر الدرامية والمأساوية التي تنطوي عليها محنة ابليس. لذلك نراه يشدد على عنصر التناقض الذي واجهه ابليس وعلى عجزه عن ان يجد مخرجا لائقا لنفسه، مما جعل الاختيار الذي كان عليه ان يقوم به اختيارا مصيريا تتوقف عليه شقاوته الابدية او سعادته الابدية، فاما ان يخضع لمتطلبات المشيئة وينسم مع واجبه المطلق فيسعد في نهاية المطاف ، وإما ان ينزلق في الاذعان للأمر والخضوع لواجبات الطاعة الجزئية فيفشل في الامتحان ويشقى الى الابد. أي ان السجود وضع كيان ابليس وحياته وسعادته الابدية في الميزان لان "الآمر يهب والارادة تنهب" و "الآمر يقول افعل والارادة تقول لاتفعل".

_________________________________
(1) كتاب الطواسين ، المقدمة ، ص 11 -12 .
(2) تفليس ، ص 4 .

بالاضافة الى ذلك تبين الفقرة التي استشهدنا بها من كتاب الامام المقدسي ان الذين يقعون في مثل هذه المحنة لايرون طريقهم واضحة ناصعة ولايتاح لهم ان يميزوا بسهولة بين الاختيار الصائب والاختيار الفاسد لان "بينهما تدقيقا يدق عن التحقيق" . كما ان الذين يتورطون في مثل هذا المأزق يجدون أنفسهم في وحدة تامة لاينفعهم فيها لا نصح صديق ولامعونة رفيق ، عليهم ان يختاروا وحدهم وان يتحملوا نتائج اختيارهم لان الطريق التي كتب عليهم ان يسلكوها"مضيق يفتقر سالكه الى رفيق للتوفيق"، على حد قول الامام المقدسي.
في الصفحات التالية سأحاول ان احدد عناصر المأساة في محنة ابليس وان ابرز نواحيها المتعددة بقدر مايسمح به الموضوع من الدقة والوضوح. لذلك ساعتمد مرجعين رئيسيين هما: مسرح سوفوكليس من التراث الادبي اليوناني الغربي وقصة النبي ابراهيم من التراث الديني السامي، ولاحاجة لي ان اطيل الكلام في اعادة قصة ابراهيم الى اذهانكم. اُمر ابراهيم ان يذبح ولده اسحاق(أو اسماعيل) ولما هم بذلك فداه الله "بذبح عظيم"(1).
وهنا أقف برهة لاشير الى دراسة كيركجورد الشهيرة لقصة ابراهيم في كتابه "الخوف والقشعريرة" لابين اني اعتمدت في هذا القسم من بحثي الخطوط العريضة لتأوليه لتجرية ابراهيم. ولكن هذا لايمنع وجود بعض الخلافات الاساسية بين الآراء التي سأوردها حول هذا الموضوع وبين نظرة كيركجورد الخاصة الي شخصية ابراهيم.
مما لاريب فيه ان قصة ابراهيم تحتوي على امكانات مأساوية عنيفة وتتضمن كثيرا من المقومات الرئيسية للتراجيديا، ولكنه لايحق لنا، في اية حال من الاحوال، ان نعتبرها مأساة حقيقية لانها تنتهي نهاية سعيدة متفائلة يرتاح لها الجميع. فالشعور الذي تخلفه فينا قصة ابراهيم يختلف اختلافا تاما ونوعيا عن الشعور الذي تخلفه فينا قصة الملك أوديب مثلا.(2)
توجد اعتبارات عديدة تجعل من محنة ابليس مأساة حقيقية وسأوجه اليها الانتباه واحدة تلو الاخرى:
1- كثيرا ماتقع المأساة في ساعات الازمات الكبرى والهزات العنيفة التي تقلب الاوضاع السائدة وتزلزل أركان الانظمة القائمة وتهز القيم المسيطرة فيشعر الذين يمرون بالتجربة بان كيانهم السابق ونمط وجودهم المألوف قد وضعا موضع التساؤل وان العالم الذي يحيط بهم اصبح على وشك الانهيار بمقوماته المادية والروحية والاخلاقية.
أنعم الله على ابراهيم"بغلام حليم" "فلما بلغ معه السعي" قال له: يابني اني ارى في المنام اني ابحك.. , اُمر الله بذبح ولده تقدمةً منه الى الله, فقلب هذا الامر المعايير والمقاييس وصدع القيم واضاع الملامح وخلط القسمات اذ على الاب الرحوم العطوف ان يقتل ولده اشنع قتله عن سابق تصميم وتدبير, وبكل هدوء وخشوع , كان ابليس للملائكة معلما وعلى الكروبيين مقدما, كان , كما يقول الامام المقدسي, ساكن البال مستقيم احال, صالح الفعال ولكن بينما هو في حضرة الشهود اتى الله لآدم الى الوجود وامر له بالسجود(1) , فاهتز نظام الملأ الاعلى وانقلبت المعايير والموازين مرة اخرى اذ على الجبين الذي لم يسجد الا للأحد ان يذل بالسجود لبشر, وعلى معلم الملائكة في التوحيد ان يجحد التقديس والتسبيح, وعلى النار ان تخضع للصلصال. ولكن ابليس رفض السجود فلعن الى يوم الدين. بعبارة اخرى تعرض علينا القصة جحود ابليس وطرده وهو في قمة عزه , ومن ثم ترينا اياه في حضيض بؤسه وشقاوته شأنه في ذلك شأن القصة اليونانية القديمة التي تعرض علينا الملك اوديب في ذروة مجده وسلطانه, ومن ثم ترينا اياه ضالا في متاهات اليأس والعذاب والألم.
لقد اضحى كل منهما منبوذا مكروها بعد ان هوى الى ادنى مهاوي الشقاء فاصبح كل من كان عونا لهما عونا عليهما.

2- اذا رجعنا الى مسرحية انتيجونا نجد ان المأساة التي انتهت اليها البطلة ناتجة عن التناقض الجوهري القائم بين ماتمثله انتيجونا من ناحية ومايمثله كريون ملك ثيبة من ناحية اخرى. كانت انتيجونا مصممه تصميما مطلقا ان تدفن جثمان اخيها القتيل مهما كلفها الامر وكان دافعها الى ذلك حبها العظيم لاخيها وايمانها الذي لايتزعزع بضرورة تنفيذ مشيئة السماء القاضية بدفن الموتى.

تقول انتيجونا لاختها أسمينا:
" أما انا فماورية اخي, فاذا اديت هذا الواجب فما اجمل بي ان اموت ولئن مت فانما صديقة لحقت بصديقها. سأؤدي واجبا عدلا ملؤه التقوى, لان الوقت الذي سأروق فيه الى الموتى أطول من الوقت الذي سأروق فيه الى الاحياء, فسأكون قرينته أبد الدهر "(1).
ومن ناحية اخرى نجد ان الملك كريون كان مدفوعا بعاطفة نبيلة ووطنية لما أمر بانزال العقاب بالاخ الذي حمل السلاح ضد مدينته وقتل على ابوابها. كما انه كان صادقا في محاولته لاحلال حكم القانون واعادة النظام الى مدينة ثيبه بعد الفوضى التي عصفت بها. لذلك كان لزاما عليه ان يتمسك بالحزم ويتسلح بالشدة ويصر على تنفيذ اوامره وارشاداته بحذافيرها ، وبكل تفاصيلها وان يتوعد كل من تسول له نفسه مخالفة النظام بأشد انواع العقاب. وجميع هذه الاجراءات امور طبيعية وضرورية في مدينة عانت من ويلات الحرب والوباء والفوضى ماعانته ثيبه عندما تسلم كريون مقاليد حكمها وكانت النتيجة ذلك الصدام المفجع بين متطلبات السلطة الزمنية وضروراتها ، متمثلة في شخصية كريون, وبين متطلبات السماء وأوامر الآلهة متمثلة في شخصية انتيجونا, وحصد الجميع الموت واليأس والمأساة. عندما يسأل كريون انتيجونا:" وكيف جرؤت على مخالفة هذا الامر ؟" أجابت:
" ذلك لانه لم يصدر عن (ذوس) ولا عن (العدل) ... ولا عن غيرهما من الآلهة الذين يشرعون للناس قوانينهم, وماأرى أن امورك قيد بلغت من القوة بحيث تجعل القوانين التي تصدر عن رجل أحق بالطاعة والاذعان, من القوانين التي تصدر عن الآلهة الخالدين, تلك القوانين التي لم تكتب, والتي ليس الى محوها من سبيل...
ألم يكن من الحق على اذن ان اذعن لأمر الآلهة من غير أن أخشى أحدا من الناس؟ وقد كنت اعلم اني ميتة . وهل كان يمكن ان اجهل ذلك حتى لو لم تنطق به؟ لئن كان موتي سابقا لاوانه فما أرى في ذلك الا خيرا.." (2).

اذا نظرنا الى قصة ابراهيم من هذه الزاوية تبين لنا انها تحتوي على تناقض شبيه بالتناقض الذي صوره سوفوكليس في مسرحيته المذكورة.
لابد ان ابراهيم عانى الأمرّين من التناقض بين احترامه لمتطلبات الابوة العاطفية وواجباتها الاخلاقية من جهة وبين ضرورة الاضعان للأمر الالهي القاضي بذبح اسحاق من جهة اخرى.
كان ابراهيم يحب ولده اكثر مما يحب نفسه وكان يقوم بواجبات الابوة خير قيام, ولكن ماعساه ان يفعل اذا تعارض هذا الحب وتعارضت واجبات الابوة مع متطلبات الطاعة التامة لأوامر الاله ومع واجباته الدينية المطلقة تجاه ربه؟؟
الحق يقال ان محنة ابراهيم مشحونة بعناصر المأساة وببوادر توترها الى درجة اعظم من مسرحية انتيجونا لان التناقض الاساسي في مسرحية سوفوكليس كان بين السلطة الزمنية وبين اوامر السماء الازلية. ولكل واحد من طرفي هذا التناقض مصدره المستقل عن مصدر الآخر اما بالنسبة لابراهيم فان طرفي التناقض يعودان في نهاية الامر الى مصدر واحد هو الله.

____________________________
(1) طه حسين ،" من الادب التمثيلي اليوناني ، سوفوكليس" ، دار المعارف بمصر, ص 138 .
(2) " من الادب التمثيلي اليوناني " ، ص 151 .

عندما خضعت انتيجونا لأوامر السماء خالفت بذلك أوامر السلطات الزمنية بينما حين خضع ابراهيم لامر ربه ووضع المدية على عنق ولده خالف بذلك القواعد الاخلاقية التي انزلها الله على عباده عن كيفية معاملة الآباء للأبناء. بعبارة أخرى لما أطاع ابراهيم ربه من الناحية الدينية اضطر لان يعصيه من الناحية الاخلاقية.
ولاتختلف محنة ابليس من حيث النوعية عن محنة كل من انتيجونا وابراهيم . كان امامه الامر الالهي المباشر بان يقع ساجدا لآدم وفي الحين ذاته كانت امامه متطلبات المشيئة الالهية الداعية للتوحيد والتقديس والتسبيح والتي لاتسمح بالسجود لاحد سوى الذات الصمدية.
فاذعن ابليس لمتطلبات المشيئة وعصى بذلك أمر السجود فطرد ولعن وكتب عليه اليأس المطلق من العودة الى الجنة.
لكن مأساة ابليس كانت اعظم وافجع من محنة ابراهيم, ولاقول مأساة ابراهيم بسبب ذلك الكبش الذي ذبحه عوضا عن اسحاق, لان التناقض الذي واجهه ابليس لم يكن بين واجبات الطاعة الدينية وبين واجبات الطاعة الاخلاقية، بل كان بين واجبات الطاعة للأوامر الالهية فحسب. بعبارة اخرى واجه ابليس الرب وهو يناقض نفسه بصورة مباشرة ومفضوحة فذهب ضحية هذا التناقض وضحية الموقف الذي اختاره ووقفه.
من ينظر الى شخصية انتيجونا بشئ من الدقة والعمق لايمكن ان يرى فيها مجرد البطلة التقليدية التي تمثل كل مايوصف بالخير والحق والجمال بينما يمثل خصمها نقيض هذه الخصال. كما ان من يفهم قصة ابراهيم بابعادها الانسانية لايمكنه ان يرى في محاولته ذبح ولده مجرد جريمة نكراء تتنافى مع ابسط بديهيات الانسانية والاخلاق. وكذلك الامر بالنسبة لابليس لان من يدقق النظر في محنته لن يرى في جحوده أمر السجود مجرد تجسيد للعصيان والشر والخطيئة. اذا نظرنا الى الامور من زاوية معينة فاننا لانشك بأن ابليس كان عاصيا وجاحدا ولكن من ناحية أخرى يجب الا ننسى جحوده كان اعظم تقديس للذات الالهية وأكبر مثل على التمسك بحقيقة التوحيد.
وقع ابليس في الاثم عندما جادل ربه ولكن الله هو الذي سمح له بذلك واصغى له عندما قال:انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.
وهنا تتجلى شخصية ابليس المأساوية باعتبارها مزيجا من البراءة والاثم, من الجمال والقبح , من الحق والباطل , من الخير والشر.
انه يتصف بهذه الصفات مجتمعه شأنه في ذلك شأن الابطال المأساويين الذين عرفناهم من خلال التراجيديات الكبرى في تاريخ الادب, اذ كان على ابليس ان يرفض السجود تماما كما كان على "أوريستيز" ان يقتل امه وعلى "هملت" ان يقتل عمه وكان عليه ان يتحمل مثلهم البلاء والالم واليأس الناتج عن فعله.
وجميع هؤلاء الابطال وجدوا أنفسهم بين شقي الرحى. فهم محقون من ناحية وغير محقين من ناحية أخرى ولايتحمل هذا التوتر المأساوي الا أشدهم بأسا واصلبهم عودا, أي لايتحمله سوى من كان معدنهم من معدن الابطال.

3- ستتضح لنا الامور بصورة افضل لو ميزنا بين نوعين من المأساة:"مأساة الغربة" و "مأساة المصير أو القدر".
والموضوع الذي أريد ان اطرحه الآن هو: ان محنة ابليس تمثل بكل جلاء كلا النوعين من المأساة.
ينتج البلاء في مأساة الغربة بسبب الانفصال عن "وضع معين" كان البطل يشارك فسيه قبلا ولكنه يجد نفسه غريبا عنه الآن.
وتعطينا اعمال ميلتون ودوستوفسكي وكافكا وكتاب كامو "الغريب" أمثلة عن مأساة الغربة.
اما بالنسبة لغربة ابليس فقد قال الحلاج, على لسان ابليس/ وفي وصفها ووصف ويلاتها مايلي:
" أفردني, أوحدني , حيرني طردني لئلا اختلط مع المخلصين, مانعني عن الاغيار لغيرتي, غيرني لحيرتي, حيرني لغربتي, حرّمني لصحبتي, قبّحني لمدحتي, احرمني لهجرتي, هجرني لمكاشفتي, كشفني لوصلتي... " (1)
وكتب الامام المقدسي على لسان ابليس الاسطر التالية في وصف غربته وشقائه:
"ثم لكمال شقوتي سألت الانظار, فصرت اضحوكة للحضار. أذوب اذا سمعت الذاكرين, أتمزق اذا رأيت الشاكرين, واحد افر من ظله, وواحد اهرب من زكي فعله. وواحد تحرقني انفاسه , وواحد يعجزني مراسه... اذا تاب التائب قصم ظهري. واذا رجع الآيب نقص عمري. كلما بنيته مع العاصي في سنة, تهدمه التوبة في سنة. فانا في ويل لا يزول. وحرب لايحول. وحزن شرحه يطول" (2)

__________________________
(1) "طاسين الازل والالتباس".
(2) "تفليس" , ص 26 ،27

اما اذا رجعنا الى الوصف الرائع الذي تركه لنا ابوحيان التوحيدي لحال الغربة فاننا نجده ينطبق كل الانطباق على حال ابليس, قال ابوحيان:
"ياهذا ‍! الغريب من غربت شمس جماله , واغترب من حبيبه وعذاله , واغرب في اقواله وافعاله.. الغريب من نطق وصفه بالمحنة بعد المحنة ، ودل عنوانه على الفتنة عقيب الفتنة, وبانت حقيقته فيه في الفينة حد الفينة.. يارحمتا للغريب! طال سفره من غير قدوم، وطال بلاؤه من غير ذنب واشتد ضرره من غير تقصير, وعظم عناؤه من غير جدوى!"(1)
تعتبر مسرحية"الملك أوديب" ومسرحية"روميو وجولييت" لشكسبير من اروع ماكتب حول مأساة المصير. وكل من قرأ مسرحية سوفوكليس المذكورة يعرف كيف أخذ القدر مجراه المحتوم وصدقت جميع النبوءات, وكيف فشلت جميعالمساعي التي قام بها اوديب وجوكاستا ليفتا من مصيرهما المظلم.
اذا نظرنا الى محنة ابليس من هذه الزاوية تبين لنا انه كان مسيرا في جميع خطواته وفقا للقدر الذي كتبه الله عليه شأنه في ذلك شأن كل ماهو كائن في ملكه بدليل الحديث القدسي القائل:"أن أول ماخلق اله القلم فقال له اكتب قال يارب ومااكتب قال مقادير كل شئ حتى تقوم الساعه من مات على غير هذا فليس مني"(2)
وعبر الحلاج عن هذه الحقيقة بانشاده عن ابليس:
القاه في اليم مكتوفا وقال له .... اياك ان تبتل بالماء

____________________
(1) "الاشارات الالهية"، تحقيق عبدالرحمن بدوي، القاهرة ، 1950 ، ص 80 ، 81 ، 82 .
(2) الشيخ محمد المدني، الاتحافات السنية في الاحاديث القدسية،حيدر اباد، 1258 هـ ، ص 87.

نحاول فى المداخلات القادمة أن نغوص فى العوامل النفسية التى حدت بالإنسان أن يبدع فكرة الشيطان .

دائما ما كان الإنسان، ولا يزال، يجند قواه المعرفية لإدراك حقائق الأشياء وبلوغ ماهياتها. أصاب حينا وإنزلق إلى الخطأ في أحايين كثيرة، فكان أن أضاع (في مواضع غير قليلة) صواب معرفته في لجة بحر أخطائه. توهم شيوع أمر ما، معرفة بكنهه، والتسليم به من الجموع المتعاقبة، بيانا لحقيقته وإدراكا لمفهومه. ومن أشيع ما يتوهم الناس معرفتهم به، هو الشيطان. فالتسليم في أمره وفعاله، أزاح المعرفة به عنهم، لينقسموا طوائف عدة ومذاهب شتى في النظر إلى أصله وفصيله إن كان كائنا، وإلى مباني مفردة الشيطان ومعانيها لدى أولئك الذين ينكرون كائنيته. وقد كان من شأن هذا التباين في النظر أن يقود إلى يقين بإستحالة وجود معرفة موحدة بالشيطان، لا أن يقود إلى إستحالة معرفته، كما يبدو للناظر للوهلة الأولى.
إن عدم تبلور معرفة موحدة في قضايا من هذا النوع، لا يدل على إستحالة المعرفة، وإنما يشير إلى تفاوت درجات النظر إلى الموضوع، تبعا لتفاوت مستويات المعاش للأفراد والجماعات.
إن الحقيقة الشيطانية ليست واحدة، ومعرفتها لن تكون واحدة، وأية محاولة قسرية لإيهام الذات بالقدرة على إنتاج معرفة موحدة في هذا الشأن، تؤدي بنا، كما أدت بغيرنا، إلى أن نلوذ بالخرافات والأساطير، كونها الملاذ الآمن لخيباتنا المتكررة في الإنتاج المعرفي.

معنى الشيطان .
مع إختلاف الناس في البيئة واللغة والدين، حملت مفردة الشيطان تأريخانية الإختلاف بجدارة لا تليق إلا بشيطان. فهي ، في المصادر الإسلامية والمعاجم العربية، من شطن بمعنى بعد، والشيطان وفق هذا القول هو كل بعيد عن الخير أو الرحمة، وليس بغريب أن يكون الشيطان بمعنى المخالف لقصد الله ووجهته، وحينئذ يكون من شطن بمعنى خالف. وأيا كان، شطن بمعنى بعد أو خالف، فإن المعنيين لا يفترقان بلحاظ أن الله هو الخير المطلق، والشيطان الشر الذي يبتعد عنه ويخالف أمره في شؤون خلقه. وبالمقابل فإن المعنى ينصرف عن مألوفه كما في أعلاه، إلى الهالك أو مخلوق من النار، وذلك على قول من يرى بأن الشيطان من أشاط بمعنى أحرق وفرق ووزع وسفك. أما الشيطان الأول (إبليس) فجاءت تسميته من الإبلاس بمعنى الإياس من الخير. وبهذا يكون الشيطان إسم جنس عام، بينما إبليس إسم علم خاص بالشيطان الأول الذي أغوى آدم. ويذكر أن تسمية الشيطان تجاوزت المعنى الديني إلى غيره، فالشيطان سمة للإبل وتوصيف للعطش وإلهام للشعر وإسم لبعض الحيات.
وفي الأدبيات المسيحية، إستنادا إلى اللغات الأصلية للكتاب المقدس، فإن كلمة الشيطان تعني مقاوم أو الخصم أو العدو، بينما كلمة إبليس تعني مفتر أو مكايد أو المتمرد.
إن هذا التنوع في المعنى يقترن كما هو ملاحظ، بالصفات المتنوعة المنسوبة إلى الشيطان، وهي على كل حال، صفات بشرية لا تتجاوز قدرة الإنسان على الإتصاف بها، إن لم نقل إن الإنسان من حيث هو إنسان، تجاوز الكثير من هذه الصفات إلى ما هو أشد وأنكى.

إن الوظيفة الفعلية لتباين المعنى إنما تكمن في توصيف تباين الشر الذي يختص به الإنسان. فهذه المعاني، في تباينها وتنوعها، لا تتجاوز الشر الإنساني إلى الشر اللاإنساني، فهي، على سبيل المثال، لا تختص بالكوارث الطبيعية، إذ لا يمكن للشيطان، على إختلاف معانيه، أن يختص بأي شر لا يقع في مقدور بني البشر. فهو (الشيطان) محكوم، بهذا المعنى، بقدرة الإنسان على إتيان الشر، وحيثما تلاشى شر الإنسان، تلا شى الشيطان.

إن شيطنة الشيطان هي الإرادة والأفعال الشريرة للإنسان، والشيطان نفسه ليس بأكثر من تجسيد للأفعال الشريرة الصادرة عن تلك الإرادة الشريرة، المحكومة بدورها، بالمعطيات الواقعية للحياة الإجتماعية في ظرف تأريخي ملموس. ولهذا فإن صواب القول يكمن في التصريح بأن الشيطان يتبع خطوات الإنسان في شر أفعاله. وحيث أنه كذلك، فإن معاني كلمة شيطان تنطوي عل محالية إنصرافها إلى ما يتجاوز الأفعال الشريرة للإنسان، في قيمتها النسبية، أي كونها أفعال شريرة بمقتضى المصالح والقواعد الإجتماعية المعينة. فالزنى مثلا، يعد من عمل الشيطان فقط عندما يسعى الإنسان لإشباع رغبته في اللذة الجنسية على خلاف ما تقتضيه المصالح والقيم الإجتماعية السائدة، وعندها فقط يتجسد الإنسان في صورة شيطان زان، يتوهمه الأدب الديني شيطانا تجسد في هيئة جسم بشري لإشباع رغبته الجنسية مع بنات الناس.
إن الأفعال المنسوبة إلى الشيطان وفق المعاني التي ذكرناها، هي أفعال صادرة عن الإنسان، أو لنقل هو الشر الذي يصدر عن الإنسان وينسب إلى الشيطان، إما عن جهل بالأسباب الموجبة للشر، أو في محاولة واعية لتمويه تلك الأسباب، خدمة لمصالح غير مشروعة. وعلى تدرج هذه المعاني يمكننا تأكيد القول الشائع بأن الشيطان لا يمكنه أن يكون واحدا، فهو الشياطين كلهم مع لحاظ إختلاف شدة شيطنة كل شيطان بما يتوافق ودرجة الشر الصادر عن الإنسان، وعديد هذه الشياطين هو ذاته عديد البشر الغارق في الشر....

فى تأملنا لتاريخ الوجود الإنساني بمعايير تلازم وتناقض الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، فإننا سوف نقف أمام صورة يصعب حدها بمقاييس أية مدرسة فكرية أو فنية. وهو أمر يشير إلى تعقيد هذه الثنائية المقلقة للعقل والوجدان. مما جعل منها على امتداد التاريخ الإنساني إشكالية ترافق وجود الإنسان من أول صرخة يطلقها في الوجود إلى آخر واحدة يرافقه بها الأهل والأقارب والجيران والأصدقاء والأعداء. بل أن الوعي الإنساني قد رفعها في محاولاته تحديد المعنى الجلي والمستتر في وجوده وأفعاله إلى مصاف البداية الأزلية. وهي صيغة عصية على المنطق، لكنها معقولة برغبته في تفسير ما يكمن في أعمق أعماق نزواته المتكسرة في إرادة ما يريد، وما يعانيه من نهي منطقي أو أخلاقي لما يعتقده فضيلة تسمو على ما في طبيعته.
وفي كلتا الحالتين لم يفلح في التوصل إلا إلى مفاهيم جلية بمعايير اللغة عصية بمعايير المنطق والمطلق، وهي الطبيعة والفطرة. بحيث لصق بالأولى ما يقترن بالغريزة وبالثانية ما ينأى عنها في سمائها. بمعنى انه حول الطبيعة "الأرضية" إلى فطرة "سماوية". وفيما بينهما حاول السباحة في عالم تتصارع فيه قوى الخير والشر، والفضيلة والرذيلة. وهو الأمر الذي جعل من وجود الإنسان دراما معنوية اشد تعقيدا على الوصف والتحديد من دراما الوجود مع أنها حياتنا. وفي هذا كانت وما تزال وسوف تبقى فيما يبدو إشكالاتها ما بقي الإنسان يولد باكيا وأهله يتضاحكون!
وهي المفارقة التي جرى رفعها إلى مصاف الصراع الأزلي، وذلك لأنها كانت تحمل في جيناتها الوجودية ما دعته ثقافة الإسلام بوحدة عوالم الملك والملكوت والجبروت، أي الطبيعة وما وراء الطبيعة والإرادة الإنسانية. رغم أن القضية تبدو واضحة وجلية للعيان عندما ننظر إليها بعين الحقيقة. والمقصود بذلك عندما ننظر إلى وجود الإنسان على انه وجدان ما يعانيه بين بداية جلية ونهاية اشد جلاء. فالحياة الإنسانية محكومة بالولادة والفناء، وما بينهما لا شيء غير جبروت الإرادة في تحدى كل ما يعترض مساعيها من اجل بلوغ ما يعتقد الإنسان والجماعة والأمة المثل الأعلى والغاية المرجوة والسعادة المثلى. وفي هذا يكمن سر تحول الحياة إلى دراما مع أن بدايتها ونهايتها جلية. وذلك لان بداية الوجود الإنساني ونهايته ترتقيان إلى مصاف اليقين. وما بينهما فقط يمكنه أن يكون "سر الأسرار" الذي اقلق الوعي الإنساني وما زال يشغله في محاولاته بلوغ اليقين. وهو يقين لا يخلو من القلق.

وعندما ننظر إلى مختلف نماذج الإبداع الإنساني في الأساطير والأديان والفلسفات والآداب والفنون، فإننا نستطيع رؤية القلق الدفين في محاولاتهم تثبيت اليقين. وليس هذا القلق في الواقع سوى "ملاك الإنسان الضائع" في محاولاته بلوغ الهدوء والسعادة بين مكونات لا تثير في حركتها غير القلق. بمعنى أننا نستطيع أن نرى في ذلك محاولات الإنسان تحرير نفسه من ثقل الرذيلة الكامنة فيه. وهي رذيلة تحكمها "غريزة بلا حدود". من هنا الرغبة العنيدة في معاندتها! ومن صراعهما تبلورت فكرة الأخلاق والحدود بوصفها القوى الروحية والسماوية ضد قوى الطبيعة الأرضية.. وهو صراع أرّق الإنسان دون أن يسلّمه لداء الإعياء. فقد كان السؤال المقلق والجوهري لمعنى وجوده يتعاظم مع كل هزيمة للجسد، بوصفه موطن الغريزة... ومع كل تعاظم له كانت تتعاظم فكرة السمو والمتسامي والروحي والروحاني. ومع كل تراكم في وعي الذات تتحول القوة الشيطانية التي جرى انتزاعها من النفس وإخراجها إلى أنواع مختلفة من شياطين الجنس والأنس إلى عالم الروح الباطني... وهو التحول الذي بلغ ذروته في صعود واستتباب فكرة "شيطان النفس" ووسواسه للفؤاد وتلبيساته للعقل. ولا يعني ذلك فيما لو جرى التعبير عنها بمنطق التأويل الفلسفي المتسامي، سوى أن الإنسان يدرك مع كل رقي مادي وروحي في صيرورته التاريخية وكينونته الثقافية، بان حقيقة الشيطان هي لعبة الوجود الأبدية والقلق المرافق لرؤية صراع الخير والشر فيها.
وهي الحالة المادية والمعنوية التي أنتجت معنى الشيطان وصورته بصورة قد تكون هي الأوسع والأدق والأعمق مقارنة بنقضيها... وليس مصادفة أن نعثر على تسميات و"نماذج شيطانية" ***ق في كميتها ونوعيتها "النماذج الملائكية". بل حتى في القرآن نعثر على 94 مرة يتكرر فيها اسم الشيطان بينما يبلغ عدد المرات التي يتكرر فيها اسم الملائكة 73 مرة. وهي نسبة يمكننا العثور عليها في الأدب والفن وقصص الأطفال وأحاديث العجائز وحكايات الشعوب وأعمال الفلاسفة وأقوال الحكماء!! وهو واقع يشير إلى طبيعة القلق المتناغم مع رغبة الخروج من مأزق الوجود المعنوي الذي يحاصر الإنسان ظاهرا وباطنا على مستوى الحياة الفردية والاجتماعية. كل ذلك يعطي لنا إمكانية القول، بان الشيطان هو المرافق الخفي لسر الأسرار، أي لدراما الحياة المتذبذبة بين يقينين. وفي هذا يكمن أيضا سر "اختياره" مبدأ الدراما التاريخية ونهايتها للإنسان. وفي هذا أيضا يكمن مصدر الصراع التاريخي في التفسير والتأويل والمواقف والمساعي تجاه القوة التي تتحدى الإنسان وتنبع منه بقدر واحد.


عندما ننظر إلى تاريخ الأساطير ونوعية "الشيطان" فيها، فإننا سوف نقف أمام صور متنوعة ومختلفة ومتباينة من حيث تقييمها لدوره وموقعه ووظيفته وأثره بالنسبة لحياة الإنسان، إلا أنها تشترك جميعا في الإقرار الخفي بدوره في إشكالية القضاء والقدر. وهو الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بان الشيطان يبرز في أساطير الأمم على انه القوة الفعالة في كينونته الوجودية. وفي هذا يكمن طابعه الخاص بوصفه قوة وجودية في أساطيرها. في حين توحدت وتشابهت صورته ونموذجه في الأديان من خلال تحويل قوته الوجودية إلى وجود قوي في مصير الإنسان الأخلاقي والروحي. وهي استعادة ونفي لما في تاريخ القلق الإنساني العميق في محاولاته تحدي النقص الدائم في الوجود البشري.
فالقلق من القلق! وهي الدورة التي تصنع شياطينها وملائكتها.... وهي فكرة عقلانية نعثر على صيغتها الدينية وصورتها النموذجية في الرؤية الإسلامية التي جعلت من الشيطان نموذج التحدي العنيد والاستكبار المحكوم بغيرة أبدية ليست بذاتها سوى أحد عناصر الوجود... فعندما يعتدّ إبليس بناره،,, فانه يكون بذلك قد جهل بان قيمته ليست بذاته بل بوحدة في مكونات الوجود الأخرى. وهي فكرة عانت منها عقلية الفلسفة الأولى عندما حاولت أن تجعل من عناصر الماء والهواء والتراب والنار كل لحاله مبدأ الوجود. لكنها إذا كانت تحتوي حينذاك على أبعاد منهجية مهمتها تفسير الوجود، فان رفع أي منها إلى مصاف القيمة الذاتية سوف يجعل منها بالضرورة قوة تكسر الوجود... وليس استعلاء النار على التراب كما هو الحال في الرؤية الإسلامية سوى الصيغة المعبرة عما يمكن دعوته بغواية الدراية الناقصة، أي ضعف العقل عن إدراك الأبعاد الكبرى في وحدة مكونات الوجود. بينما إدراكها يشكل مضمون المعرفة الحقيقية.. وهي المعرفة التي تصنع من التراب والنار مختلف نماذج الفخار والحجار، بمعنى قدرتها واستعدادها على صنع فخار الرونق وافتخار النفس الغضبية، وكذلك حجارة القبور والقصور.. وهي مفارقة مقلقة للعقل والضمير رفعتها الأديان من حضيض الوجود الخشن إلى عالم الأخلاق المتسامي بوصفه الأسلوب الروحي للتمسك بعروة اليقين. ومن ثم لم يكن ظهور الشيطان وتحديه السافر لمبدأ الخليقة سوى الوجه الآخر لرغبة الخليقة في أن تكون مطيعة وأمينة لحقائق المطلق.. وفي هذا يكمن سر التضاد الهائل والتعايش القلق بين مكونين متعارضين ومتضادين ومتلازمين في نفس الوقت... وهي الصورة التي رفعها الإسلام إلى مصاف الرؤية الأزلية – الأبدية، أي الملازمة لوجود الإنسان بين عوالم الملك والملكوت والجبروت. إذ تحول الشيطان في الرؤية الإسلامية إلى نموذج التحدي العنيد والعمل المدرك للإغواء والإغراء والرذيلة، أي القوة التي تشكل مصدر الامتحان الأخلاقي للبشر.... وهي الصيغة التي تمثلت مضمون التراكم الثقافي لقوة وفاعلية الإغواء والإغراء والرذيلة في المصير الروحي للفرد والجماعة والأمة والحضارة. وهو السبب الذي جعل من "الشيطان" مصدر الغواية والإرادة الخادعة والاعتداد بالنفس والاستكبار والضغينة والنميمة والكذب والخداع والغش، باختصار كل أصناف وأنواع الرذيلة.
فعندما نتأمل تاريخ الأمم والثقافات وتجارب صعودها وهبوطها، ارتقاءها وانحطاطها فإننا نقف دوما أمام حقيقة مستترة يقوم فحواها في طبيعة الصراع بين "شياطينها" و"ملائكتها". ومهما كانت النتيجة، فان هذه التجارب تكشف عن أن "للشيطان" مظاهر و"مآثر" على قدر ما في الثقافة من دراما الغواية والدراية. بمعنى أن الصراع العلني والمستتر في تاريخ الأمم والثقافات عادة ما يضعهما أمام إشكاليات المعرفة ونوعية التمسك باستنتاجاتها.. وليس مصادفة أن تتوصل الثقافة الإسلامية ، بان من ليس له أستاذ فأستاذه الشيطان.. وهي عبارة تكشف عن حجم المعاناة الكبرى للثقافة تجاه قضايا التلبيس والشبهات والقلاقل والفتنة المحتملة في العقل والضمير والوجود الاجتماعي للبشر ومواقفه العملية من كل ما يشكل بالنسبة لهم قيمة كبرى. فهي العبارة التي كثفت في أعماقها إشكالية التراكم الثقافي وتربية الإرادة بالشكل الذي يحررهما من غواية الارتماء وراء كل عابر طريق أو تقليد أجوف.
فالامتحان الأكبر لوجود الإنسان والجماعة والأمة يقوم في مستوى إدراكهم لتراكم الحق والحقيقة والخير والفضيلة. وهو تراكم يفترض التكامل بمعايير العلم والعمل، أي بمعايير أحراره العظام ومرجعياته الروحية المتسامية، لكن من خلال وضعها الدائم على محك التجارب الذاتية. إذ لم يكن المقصود بالشيطان هنا سوى تقاليد الغواية المتكسرة بتقليدية الفكر والوعي. فهي المكونات التي تصنع شياطينها، أي قواها القادرة على إغواء العقل والضمير وإغرائهما في التلذذ الحار ببرودة البلادة الأبدية للجمود والتحجر. وهو إغواء وإغراء لا يفعلان في الواقع إلا على لف الفرد والجماعة والأمة والثقافة في فلك الاجترار الدائم للزمن، مع ما يترتب عليه من فقدان التراكم الضروري بالنسبة للتاريخ ووعي الذات. وهو زمن لا يعمل إلا على جعل الأمة والثقافة يواجهان ما يواجهه العوام من قلق الزمن الضائع.
إذ ليس الزمن الضائع بالنسبة للفرد والجماعة والأمة والثقافة سوى الوجه الآخر للإرادة البشرية المتكسرة بدهاليز الإغراء الإغواء. وهي إرادة شيطانية، بمعنى أن مبدأها الولع وغايتها الولع وما بينها اجترار للقلق. وهي صورة واحدة من حيث المضمون. أنها الصورة التي تثير الفزع في الطفولة والولع في الرجولة والجزع في الكهولة. ذلك يعني أنها صورة الإرادة المسلوبة. فحقيقية الشيطان في هذا الميدان ليست إلا الوجه الآخر لتلون الإرادة المتكسرة بدهاليز الإغواء والإغراء. فقوته من ضعفها وضعفه من قوتها. وهي معادلة تصنع ما يمكن دعوته بثلاثية الإرادة الشيطانية: جسد بلا روح، وإيمان بلا هداية، وعلم بلا دراية. وهي ثلاثية تقفل على الروح والعقل والإيمان إمكانية العمل بما فيهم من قوة قادرة على تنقية النفس والارتقاء بها إلى مصاف التمسك الدائم بالحق والحقيقة.
وهي ثلاثية أكثر من يمثلها ويجسدها الآن في العالم العربي القوى التي تعمل بمتطلبات الغريزة الجسدية وليس بمرجعيات الروح الثقافي للأمة، والتي لا يحتوي إيمانها على هداية لأنه موجه ضد حقيقة الإيمان باعتباره إحسانا، والتي لا يتعدى علمها تكرار واجترار ما عفا عليه الزمن من أحكام ومفاهيم ميتة. والقضية هنا ليست فقط في أن كلام القدماء، مهما كان عظيما يبقى جزء من تجاربهم، بقدر ما في خطورة تطويعه الجزئي الذي يجعل من فكر القدماء عبارات، ومن عباراتهم هراوات الإرهاب والاستبداد عوضا عن تحرير العقل واختبار الحكمة. وهي حالة تجعل من الممكن القول، بان الشيطان العربي المعاصر (أو العصري!!) هو القوة التي تعمل بدون هوية تلقائية في مواجهة إشكالاتها الكبرى والصغرى. وهو شيطان مارد، لأنه بلا آفاق. بمعنى انه قادر على سحق كل التراكم التاريخي للثقافة ، لأنه لا يعمل في الواقع إلا بأسلوب رمي الحجر بالحجر حتى دون أن يدرك الأبعاد الروحية فيه. وهو أسلوب لا قيمة وله ولا اثر في إنهاك القوى الشيطانية الفاعلة في نفسية وذهنية العالم العربي الحالي. وذلك لأنه يكتفي بصورة "رمي الجمار"، أي حجر بحجر، دون الاعتبار برمزيتها التي قيل عنها"إذا كسرت الحجارة للرمي فاكسر مع الحجارة إرادة الباطن وشهوات الأسرار وممكنات الأهواء". بمعنى التحرر من عبودية الإغواء والإغراء القائمة في ضعف الإرادة.
بعبارة أخرى، إن مهمة كسر الحجارة الشيطانية القابعة في العقل والضمير تفترض كسر الإرادة المتكسرة وإعادة صهرها ببوتقة الحق والحقيقة. وبدون ذلك تبقى إشكالية الشيطان إشكالية وجودنا. وهي أتعس إشكاليات الوجود، لأنها مجرد شيطنة بلا شيطان! ولا يسع المرء هنا سوى التمني برميها إلى الشيطان!! وهي حالة تعبر عن المأزق الحرج والطريق المسدود. فحقيقة الشيطان هنا هي إشكالية تلازم فقدان المرء والمجتمع والدولة والثقافة لمرجعيات كينونتها الثقافية. وهو الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول، بأن شيطان العرب الأكبر الآن هو العمل دون هوية تلقائية، أي العمل بلا منظومة من المرجعيات العامة والملزمة في ميدان القومية والدولة والثقافة. وبدون ذلك يستحيل الخروج من مأزق الطريق المسدود. أما تذليل هذا الخلل الهائل فيفترض بناء الوجود الفردي والاجتماعي والقومي على أسس ثقافية حرة ومرجعيات تلازمها في بناء الدولة، لكي لا يكون كل ما فينا مجرد ملاك ضائع في دراما الوجود التاريخي للأمم.