خطاب فانس في مؤتمر ميونخ للأمن وجديد الرأسمالية الغربية


رشيد غويلب
الحوار المتمدن - العدد: 8261 - 2025 / 2 / 22 - 20:49
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر     

ترجمة:

يصعب علي حقاً عدم مقارنة خطاب نائب الرئيس الامريكي فانس في مؤتمر ميونيخ للأمن وخطاب بوتين في عام 2007 على نفس المنصة.
مثل كلا الحدثين نقاط تحول أدت إلى تغيير جذري في الإجماع القائم. ألقى بوتين الخطاب الذي مثل بداية نهاية لحظة الأحادية القطبية. ومن المرجح أن يظل خطاب فانس في الذاكرة باعتباره الخطاب الذي مثل بداية نهاية التحالف الغربي بعد الحرب العالمية الثانية. وباعتباري مواطناً أوروبياً، أشعر بالحيرة إزاء ما قاله فانس بشأن أوروبا.
وهو على حق في كثير من النقاط. على سبيل المثال، كان موقف أوروبا تجاه الانتخابات في رومانيا أكثر من مجرد موقف مروع ومعادٍ للديمقراطية بشكل واضح. لقد استنكرت بنفسي هذا الأمر في مناسبات عديدة منً على هذه المنصة (يقصد منصة أكس). ولكن، وهذه نقطة مهمة، في معظم انتقادات فانس لأوروبا، فيما يتعلق برومانيا، كانت الولايات المتحدة واقفة إلى جانب أوروبا وعملا معًا، وفي كثير من الأحيان قادت الولايات المتحدة التعامل الأوربي.
فيما يتعلق برومانيا، على سبيل المثال، أعتقد أن أول ما فعلته وزارة الخارجية الأمريكية هو إصدار بيان في الرابع من كانون الأول، أعربت فيه عن قلقها إزاء "تورط روسيا في أنشطة إلكترونية خبيثة تهدف إلى التأثير على نزاهة العملية الانتخابية الرومانية"، مما أدى إلى إلغاء الانتخابات بعد يومين (تبين لاحقًا كذبه تمامًا: لقد اتضح أن هذه "الأنشطة الإلكترونية الخبيثة" تم تمويلها من قبل الحزب الحاكم في رومانيا الذي ألغى الانتخابات!). بعد تصريح وزارة الخارجية الامريكية تبنى الأوربيون الموقف الامريكي.
لذا فمن الغريب، أن يلقي فانس، بعد أقل من شهرين، محاضرة على الأوروبيين حول هذه القضية، دون أن بشير إلى الدور الذي لعبته الولايات المتحدة فيها.
ويمكن قول الشيء نفسه عن ضبط المحتوى في أوروبا و"الرقابة". وهو ينسى أن الكثير من النهج الأوروبي الحالي تم تطويره بالتعاون الوثيق مع السلطات الأميركية وشركات التكنولوجيا. ولم ينشأ إطار العمل الخاص بضبط المحتوى في الاتحاد الأوروبي من الفراغ، بل تأثر إلى حد كبير بالممارسات والضغوط الأميركية.
خذ على سبيل المثال انتقاد فانس للسياسة الأوروبية بشأن الهجرة الجماعية. لقد خصص جزءاً كبيراً من خطابه للشكوى من الهجوم الذي وقع أمس (13 شباط -المترجم) في ميونيخ والذي نفذه (على ما يبدو) طالب لجوء أفغاني شاب، ووصفه بأنه "نتيجة مباشرة لسلسلة من القرارات الواعية التي اتخذها السياسيون في مختلف أنحاء القارة الأوروبية". ولكنه تجنب عمليا ذكر سبب هجرة الأفغان الجماعية من بلادهم، وقد يكون لذلك علاقة بقوة عظمى معينة قررت شن حرب هناك لمدة عشرين عاما وتدمير البلاد تماما... وينطبق الشيء نفسه على العديد من المهاجرين إلى أوروبا، والذين كانت هجرة نسبة كبيرة منهم نتيجة مباشرة لقرارات السياسة الخارجية الكارثية التي اتخذتها الولايات المتحدة.
أشعر أيضًا بعدم الارتياح الشديد إزاء نوايا فانس المعلنة للتدخل في السياسة الأوروبية. هو ينتقد أوروبا بحق لفشلها في الارتقاء إلى مستوى قيمها الديمقراطية، بينما يعلن في الوقت نفسه صراحة عن نية أميركا التدخل في السياسة الأوروبية من خلال دعم حركات معينة ضد المؤسسات القائمة. وينتقد النخب الأوروبية لعدم احترامها القرارات الديمقراطية، في حين يشير إلى أن إدارة ترام سوف تؤثر بنشاط على تلك القرارات. بماذا يختلف هذا عن نوع التدخل الذي يدينه نفاقًا؟
ولعل الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن رؤية فانس تبدو وكأنها تتجاهل تماما السبب وراء بناء العمارة الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية. أوروبا هي المكان الذي بدأت فيه، 100 في المائة، الحربان العالميتان. لقد كانت السنوات الثمانين الماضية فترة سلمية فريدة من نوعها في تاريخ أوروبا: بسبب الكثافة العالية للدول في منطقة صغيرة نسبيا والطبيعة غير السارة إلى حد ما للعديد من الدول الأوروبية (بما في ذلك فرنسا)، كانت القارة في صراع مستمر تقريبا على مدى الألفية الماضية. أنا أكره المؤسسات الأوروبية بقدر ما يكرهها أي شخص آخر، ولكنني لا أنسى الروح الأصلية التي وُضع فيها حد للحروب التي لا تنتهي في أوروبا.
وبجعله أميركا حليفا للقوى القومية ضد هذه المؤسسات، فإن فانس لا ينهي التحالف فقط، بل يعمل بنشاط على تدمير بنية السلام الأوروبية، في عقود ما بعد الحرب بالكامل، مصحوبة بعواقب هائلة. أعتقد أنه من الصواب أن نسأل أنفسنا، هل أصبحت الحرب في أوروبا الآن ضمن أهداف الولايات المتحدة الاستراتيجية؟ ارتباطا بان تاريخ الولايات المتحدة، هو تاريخ إثارة الحروب يميناً ووسطا ويساراً عندما تعتقد أن ذلك في مصلحتها، وبمناسبة خطاب فانس، أعتقد أن طرح السؤال مشروع.
في المجمل، لا أخجل من القول إنني أفضّل خطاب بوتين في عام 2007 على خطاب فانس. وبغض النظر عن رأيك في الأمر، فقد ظل بوتين ضمن حدود ما اعتبره تحديات للمصالح الوطنية الروسية، مثل توسع حلف شمال الأطلسي أو محاولة الولايات المتحدة تحقيق الهيمنة العالمية. ولم يسع إلى التدخل في السياسة الغربية أو وجعل روسيا قوة نشطة تعمل على تقويض المؤسسات الغربية من الداخل. وكانت رؤيته تتمثل في خلق عالم متعدد الأقطاب تكون فيه روسيا قطبا مستقلا، وليس تفكيك البنية الداخلية للأقطاب الأخرى.
في حين أراد بوتين الحد من قوة الغرب على الصعيد العالمي، يبدو أن فانس يريد تفكيك النظام الأوروبي محليا. وهذه مهمة أكثر خطورة بكثير. أنا أؤيد إصلاح أوروبا وأدعو إلى ذلك باستمرار. ولكن بالنسبة لي، المشكلة الأكبر التي تواجه أوروبا حتى الآن تكمن في افتقارها إلى السيادة والاستقلال الاستراتيجيين، وخاصة في مواجهة الولايات المتحدة، وفي جميع المجالات تقريبا.
وإذا كان هناك جانب إيجابي في خطاب فانس، فهو جعل الأوروبيين أخيرا على دراية بهذا الواقع: دعونا نأمل أن تتعلم أوروبا، ولو لمرة واحدة، استخلاص الدرس الصحيح من هذا الواقع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* محلل سياسي فرنسي، والترجمة للنص المنشور في موقع "شيوعيون" الألماني في 17 شباط 2025.