جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء السادس والثمانون)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8242 - 2025 / 2 / 3 - 18:42
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

من المساهمين في الكتاب الجماعي المخصص بأكمله لقراءة كتاب "فينومينولوجيا الروح" لهيجل هناك بولين كلوشيك التي انصب اهتمامها على القسم الثاني من الفصل الرابع معنونة مساهمتها ب"انشطار الوعي الذاتي".
في كتابه الذي بين أيدينا، وضع هيجل لنفسه هدف تبرير تجاوز الإبستيمولوجيا التجريبية التي تضع الحقيقة في تطابق المعرفة مع معطى يوجد خارجها، بواسطة إبستبمولوجيا مثالية تقترح إثبات حقيقة المعرفة من خلال بنيتها المفاهيمية (وهو المفهوم الذي سيتم عرضه أخيرا في الفصل السابع، "المعرفة المطلقة"). إذا كان الهدف المركزي للمؤلف هو نظرية معرفة حقيقية، وكان المؤلف يقع بهذا الصدد في خط نقدي مع "نقد العقل الخالص" لكانط و"المبادىء الأساسية لنظرية العلم" لفبخته، فإن الموضوعات التي يناقشها لا تندرج بشكل كامل أو تجريدي في إطار ما يمكن أن نسميه إبستيمولوجيا بالمعنى المعاصر.
بالفعل، عند هيجل، لا يمكن أن يكون الحديث عن الروح في علاقتها بالمعرفة بالواقع ذا صلة إلا إذا تم فهم هذه الروح ليس بشكل تجريدي، كمجموعة من الملكات غير التاريخية، ولكن في ملموسيتها السوسيوثقافية والتاريخية. بهذا المعنى فإن العملية العامة ل"فينومينولوجيا الروح" تتضمن المناقشة المنتظمة للأسئلة الأخلاقية والسياسية التي تستند إلى إحالات ضمنية في أغلب الأحيان إلى تجارب تاريخية محددة - إحالات يقع على عاتق المعلقين تفسيرها.
إن إحدى التجارب المتكررة والبنيوية التي يتناولها كتاب هيجل هي تجربة الغرابة (Fremdheit)، وهي بنية تتضاعف فيها الذات الإنسانية العارفة والفاعلة وتبدو لنفسها غريبة. الشكل الأول الذي تتخذه هذه الغرابة في الكتاب تم تطويره في القسم (ب) من الفصل الرابع، على شكل انشطار الوعي الذاتي داخل ذاته، بين ذاته الخاصة والطريقة التي يصبح بها واعيا بذلك.
في هذا القسم الفرعي، يقدم هيجل نقدا لنوع ديني من التخارج من خلال الوعي الإنساني لجوهره الخاص، والذي أطلق عليه في ما بعد الاغتراب (Entfremdung). هو يفعل ذلك من خلال مناقشة ظواهر تاريخية معينة، أي المسيحية في العصور الوسطى، والرهبنة، والتكوين الديني للمجتمعات الفيودالية. حتى لو لم يكن كتاب "ظاهريات الروح" - على رغم تعبئته للتاريخ - لوحة جدارية تاريخية ينبغي قراءة تسلسل أقسامه زمنيا، فإن هيجل يتيمم هنا مصير الوعي الذاتي في التاريخ البشري، وهي عملية تنطوي على تجسيد جوهرها الخاص من خلال العقل البشري، وكذلك محاولاته من جانبه لإيجاد الوحدة مع ذاته من خلال إزالة الثنائية الداخلية الناتجة عن هذا التخارج.
على غرار القسم (أ) من الفصل الرابع، والذي كان من الصعب التعليق عليه لفترة من الوقت بسبب شاشة قراءته الكوجيفية، فإن القسم (ب) من الصعب قراءته دون استحضار إرث مفهوميته: نقد الدين باعتباره انشطارا ومفهوم الاغتراب (Entfremdung) كانا في الواقع يشكلان محوراً مركزياً في فلسفة هيجل الشاب، وفي داخلها، بالنسبة إلى كتابات ماركس الشاب. ولذلك قد يكون من المغري أن نقرأ هذه المقاطع من خلال إسقاط ردود الفعل على طريقة استقبالها من قبل ماركس ونظريته في الاغتراب.
إن القراءة التي تحرر نفسها من هذا المسار الرجعي قد تتمثل إما في إنكار أن هيجل قد بلور نظرية الاغتراب التي كانت مهمة في بلورة هذه التيمة في القرن التاسع عشر (هذا هو موقف ستيفان هابر في كتابه "الاغتراب")، أو في اقتراح قراءة هيجلية قديمة لهيجل من خلال اعتبار أن هذا الأخير لا يزال يقترح حلاً لاهوتيا للانشطار الديني الذي انتقده، وهو الحل اللاهوتي الذي تم الدفاع عنه أحيانا (هذه القراءة تبناها جان هيبوليت الذي جعل القسم (ب) من الفصل الرابع مركزا عصبيا في "فينومينولوجيا الروح"، ولكن أيضا - من أجل نقدها باعتبارها تناقضا - تبناها جوديث بتلر في كتابه "الحياة النفسية للسلطة").
على النقيض من هذه التفسيرات، من الممكن أن نحمل على محمل الجد الفرضية القائلة بأن هيجل اقترح في هذا المقطع نقدا للدين من خلال نظرية الانشطار والاغتراب التي كان من الممكن استخدامها بطريقة أمينة لغويا من قبل الانتقادات الهيجلية الشابة للدين والمجتمع والدولة. وهكذا، دون أن نزعم أن هيجل شارك في الإلحاد الذي تشبث به نقاده اللاحقون، يمكننا مع ذلك أن نفترض أن قراءة هيجلية شابة لهذا المقطع من كتاب "فينومينولوجيا الروح"، التي تنصف النقد الذي قام به للدين، يمكن أن تنجز في إطار من التصور المحايث.
(يتبع)
المرجع: https://books.openedition.org/enseditions/42191