جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الثامن والسبعون)
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8222 - 2025 / 1 / 14 - 00:48
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
سوف نلاحظ مع هيجل أن "المفهوم الخالص للقانون" الذي وصلنا إليه لا يسائل ببساطة العلاقة بين القوانين المحددة ونموذج الجاذبية الكونية فحسب، بل يسائل أيضا مفهوم الشرعية ذاته، وهو السبب الذي من أجله أمكن لهيجل أن يؤكد أنه " تجاوز ايضا القانون في حد ذاته" (229/92). لم يتم وضع ضرورة قوانين محددة موضع تساؤل فحسب، بل حتى مفهوم الضرورة القانونية نفسه أو ما يسميه هيجل “الضرورة الداخلية للقانون” (230/93). بالفعل، ينص القانون على علاقة ثابتة بين الحدود المختلفة، وهو بذلك يفترض الاستقلال الفعلي للأخيرة عن علاقتها؛ غير أن مفهوم القانون يتضمن بيان ضرورة العلاقة بينهما، أي أن يبين هيجل ألا وجود لأحدهما دون الآخر، وأنهما ينطلقان من وحدة واحدة. ولهذا السبب سيناقش النص قانونا يقدم نفسه بطريقتين، الأولى في الشكل الواضح والمتمايز للقانون الذي تطور، والثانية في شكل الهوية، أي قوة فريدة.
سنؤكد، مثلا، لتفسير السقوط الحر للأجسام، أنه ناتج عن قوة، وهي الجاذبية. ولكن، عندما يتعلق الأمر بتفسير هذا السقوط بشكل أكبر، سيتعين علينا أن نحدد كيفية عمل هذه القوة وسنذكر بعد ذلك قانون هذا الفعل؛ للقيام بذلك، سيتعين علينا التمييز داخل حركة موحدة، مثلا بين الزمان والمكان كما رأينا في القانون الذي صاغه جاليليو؛ وسنبحث بعد ذلك عن العلاقة الثابتة بين هذين الكيانين لنصل إلى حقيقة أن مقادير “الزمن المنقضي والمكان المقطوع يرتبطان ببعضهما البعض كجذر ومربع” (231/93). فلو توقفت العلوم التجريبية عند صياغة مثل هذا القانون واكتفت بذلك، لن تشبع الرغبة العميقة في التفسير، ولاستمر العقل في مطالبته بالتبرير.
بالفعل، من شأن الفهم الدقيق لضرورة القانون أن يكون بمثابة القدرة على إظهار أن الحركة مقسمة بالضرورة إلى مكان وزمان، وكذلك تبرير الأسباب التي تجعل الأخيرين يرتبطان ببعضهما البعض على وجه التحديد وفقا لعلاقة رياضياتية تتناسب عكسيا مع مربع المسافة. لكن لا يبدو أن العلم قادر على الإجابة على هذا السؤال. لذلك سعى هيجل إلى إظهار أن العلوم لا تميز الضرورة الحقيقية من العلاقات التي تكتشفها، السبب الذي من أجله يستطيع أن يؤكد أن متطلبات مفهوم القانون تنقلب ضد القوانين نفسها: فهي في الواقع ليست في مستوى ادعاءاتها، أو مفهومها، ما دام أن مصطلح الضرورة بداخلها يبقى"كلمة فارغة" (232/94).
يصر هيجل ضمنيا في هذه المقاطع على انتقاد البرنامج النيوتوني الذي صاغه بالفعل في أطروحته حول "مدارات الكواكب" (1801) مقتفيا أثر شيلينج: تخلى نيوتن في الواقع عن أي تفسير حقيقي للأشياء ليكتفي بـ "تحديد قوانينها"، مكتفيا همذا بكيف على حساب لماذا. إن حركة التفسير ليست اختراقا لجوهر الأشياء، بل هي تتوافق مع الفهم الذي يسعى إلى جعل الأشياء مفهومة وهو يتحدث إلى نفسه: "في الشيء نفسه، لا يولد شيء جديد يتوسط لهذه الحركة، لكن هذه الأخيرة لا تؤخذ في الاعتبار إلا كحركة فهم» (235/95). كنا نبحث عن ضرورة موضوعية للظواهر، وإذا بنا نكتفي مرغمين بالضرورة الذاتية البسيطة للفهم.
لكن عند هذه النقطة بالتحديد تبدأ الأمور في الاتجاه المعاكس، لأنه من المناسب أن نسأل أنفسنا ما إذا كانت المشاكل التي نواجهها لا تأتي على وجه التحديد من نفس المبادئ التي توجه الفهم في نشاطه والتي تخدمه في التفكير في تنظيم العالم الفوقحسي؛ لهذا السبب، تكون الإجابات التي يقدمها لنا الفهم غير مقنعة لأنه ينصب الهوية الصورية معيارا للحقيقة (أ=أ). مع ذلك، فقد رأينا، على العكس من ذلك، أن التفسير الحقيقي لمحتوى القوانين كان يفترض أننا نستطيع إظهار الهوية الجوهرية للحدود المختلفة (مثل المكان والزمان). يكفي أن نقول إننا يجب أن نذهب إلى ما هو أبعد من الملاحظة البسيطة لعلاقة قارة وثابتة بين الحدود المستقلة، لكن هذا يزعزع تماما العالم الفوقحسي الذي يُنظر إليه على أنه مجموعة من العلاقات القارة والثابتة. إن التشكيك في معيار الحقيقة يرقى إلى تحويل موضوع المعرفة ذاته؛ ولذلك فإن العالم الفوقحسي الذي يُفهم على أنه "السيادة الهادئة للقوانين" و"النسخة المباشرة للسكون" للعالم المحسوس هو الذي يجب أن يكون موضوع تصحيح جدلي. من الواضح أنه لا يمكن إرجاع الظواهر إلى العلاقات الثابتة والأبدية للميكانيكا العقلانية، بل على العكس من ذلك، فهي تظهر عالما عملياتيا يفترض أننا نوافق على التغيير، عالم يتكون من عمليات مختلفة على وجه التحديد ويتطلب بالتالي صياغة نماذج أخرى للمعقولية غير نموذج الشرعية الميكانيكية البسيطة. العالم الأول الفوقحسي كما يتصوره الفهم مباشرة، والذي ينظمه مبدأ الهوية المجرد، يخون العالم الحقيقي الذي يتميز على العكس بـ “مبدأ التبادل [ Wechsel ] والتنوع [ Veränderung » (237/97). . لذلك يجب علينا أن نجلب التناقض والتبادل إلى العالم الفوقحسي نفسه؛ الشيء الذي يؤدي في الواقع إلى تعطيل نمط وجوده بالكامل، أي إلى قلبه.
(يتبع)
نفس المرجع