جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الثاني والثمانون)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8233 - 2025 / 1 / 25 - 17:58
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

الوعي والوعي الذاتي
في الصفحات التمهيدية لهذا الفصل، يصف هيجل بأسلوب مكثف ما يميز الوعي الذاتي في اختلافه عن الوعي: الوعي الذاتي ليس وعيًا بسيطا يتخذ "الذات" متعارضا للمراقبة، ولكنه وعي بالدور الحاسم الذي تلعبه الأنا في تجربة الواقع. بالنسبة إلى لوعي باعتباره كذلك، "الحقيقة هي [...] شيء آخر غير ذاته": في هذا المنظور، فإن المتعارض المقصود أو المدرك، الذي يعتبر "خارج الوعي" و"يُعطى ببساطة كشيء غريب ومكتمل"، هو الذي يشكل لحظة "أساسية" من المعرفة الحقيقية. الحقيقة موجودة قبلا، خارج الأنا، وصالحة بما هي كذلك في استقلال عنها. إن الانتقال إلى الوعي الذاتي يعني وضع هذا التصور الواقعي بسذاجة عن الحقيقة موضع سؤال وإبراز الدور "الجوهري" لنشاط الأنا: "الوعي هو الحقيقة في حد ذاته" (251/103)، لم تعد الأنا رافدا غير ضروري لحقيقة المتعارض ولكنها “محتوى العلاقة والعلاقة نفسها؛ إنه هو نفسه يواجه آخر، وفي الوقت نفسه، يتعدى هذا الآخر، الذي هو بالنسبة إليه هو نفسه فقط. الهذا صحيح لأنني أقصده، الشيء (كذلك) لأنني أدركه، الداخل (كذلك) لأنني أفهمه. عند الوصول إلى "المملكة الأصلية للحقيقة" (252/103)، يصبح الوعي من الآن على يقين من أن كل الحقيقة تتأسس فيه وبه: ليس المتعارض-مع، بل الذات هي التي تجسد معيار الحقيقة. إن الانقلاب الذي يؤدي إليه جدل الفهم (الفصل الثالث) يؤدي إلى وضع فيه الذات التي ما تزال حبيسة ذاتيتها المجردة، تواقة إلى تأكيد اليقين الهش لتصورها الجديد عن نفسها، إلى جعله حقيقة متجسدة في المتعارض-مع الذي تتعلق به.
بواسطة تجاربه السابقة، يحافظ الوعي الذاتي على المكتسبات المتعاقبة للوعي (وجود المقصود الحسي، تفرد الإدراك وشموليته، الجوانية الفارغة للفهم) باعتبارها "لحظات" بسيطة من ذاته (252/103)، مجردة من اتساقها الموضوعي. في مباشريته البدائية لحقيقته المجردة، “طوطولوجيا دون حركة: أنا، أنا هو أنا” (253/104)، سيعيد عرض هذه اللحظات في مشهد جديد، ليس وفقا لسجل الوعي البسيط، ولكن وفقا للسجل المزدوج للوعي الذاتي الذي لم يصل بعد إلى معرفة ذاته ويستمر، على هذا النحو، في التصرف كوعي، لكنه وعي من الآن قلق على ذاته، في بحث عن حقيقته الخاصة، لم يعد يجد "الرضى" (259/107) في وضع المتعارض-مع، بل في نفيه بهدف تأكيده.
لذلك سيكون له "متعارض مزدوج" (254/104)، من ناحية "المتعارض المباشر، متعارض اليقين الحسي والإدراك"، الذي يعتبر من الآن المواجه البسيط "السلبي" لذاته، ومن ناحية أخرى نتيجة العمل التفسيري للفهم"، هو نفسه متعارض هو الجوهر الحقيقي". لم تعد للمتعارض الحسي قيمة إيجابية في حد ذاته، في استقلاله الظاهري، ولكن كوسيلة سلبية لـ "الرضى"، لتأكيد الذات في سيادتها الانفرادية.
التناقض بين الوعي (المتعارض-مع هو الحقيقة) والوعي الذاتي (الأنا هي الحقيقة) يتحول إلى تناقض بين ادعاء الوعي الذاتي بـ"البقاء-من تلقاء-ذاته"، بالاتساق المستقل لذاتيته، والاعتراف باعتماده على المتعارض-مع، وبالتالي ب"لابقائه-من-تلقاء- ذاته": إذا كانت الحرية الحقيقية تتطلب أن تكون قريبة "من ذاتها" في ما ليس هي ذاتها، سيتعين على الذات أن "تنفي" آخرية المتعارض-مع الذي يواجهها حتى تجد فيه انعكاس ذاتها. ومن ثم، فإن الوعي الذاتي ليس "معطى" بدائيا بسيطا (يمكن الوصول إليه عن طريق الحدس الفكري)، ولا الإطار الشكلي البسيط للمعرفة التجريبية (يتم الكشف عنه عن طريق التفكير المتعالي)، ولكنه "إنجاز عملي": إنما فقط من خلال الرغبة في المتعارضات الطبيعية واعتراف الآخر أستطيع حقا أن أدرك ما أكونه.
(يتبع)
نفس المرجع