جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الثمانون)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8227 - 2025 / 1 / 19 - 02:36
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

تكلف بقراءة الفصل الرابع من "فينومينولوجيا الروح" أوليفييه تينلاند ووضع ما كتبه في هذا الشأن تحت عنوان: "الوعي الذاتي والحياة والحرية". ولاحظ الكاتب للوهلة الأولى، أن الانتقال من الفصل الثالث (“القوة والفهم”) إلى الفصل الرابع (“حقيقة اليقين الذاتي”) من كتاب "ظاهريات الروح" قد يعطي انطباعا بوجود تغيير كامل في الاتجاه الموضوعاتي غالبا ما يربك المعلقين: يبدو أن الاعتبارات الإبستيمولوجية أو النظرية للفصول الثلاثة الأولى تفسح المجال لمقاربة عملية، وحتى وجودية، لحياة الوعي. يبدو أن مسألة "اليقين" أو "الحقيقة" للمتعارض (الهذا المحسوس، الشيء المحسوس وخصائصه، باطن الظواهر) قد حلت محلها مسألة "الحرية" أو "الاستقلالية" لـ "أنا" لا تكتفي بإدراك العالم وفهمه، لكنها تستثمره بنشاط لتجد فيه "الرضى"، في تجارب الرغبة، الكفاح، الاعتراف والعمل. هل يعني هذا أن هيجل كان مكتفياً بوضع موضوعين متمايزين جنباً إلى جنب، وفقاً لـ "نظام للأمور" غير مبالٍ بـ "الضرورة" العلمية لـ "الطريق المؤدي إلى العلم" (171/61) الذي أصر عليه كثيراً منذ مقدمة العمل؟ فهل يتعلق الأمر، بعد تأسيس نظرية المعرفة، بوضع فلسفة عملية تكون رهاناتها مستقلة عن نظرية كهاته؟ ليس هذا هو الحال: هناك استمرارية قوية للأقوال بين الفصول الثلاثة الأولى والفصل الرابع. في كتاب "ظاهريات الروح"، يُفهم كل شكل من أشكال الوعي من خلال الأشكال السابقة، والتي هي نتيجتها و"حقيقت"ها، ومن خلال الأشكال التالية التي تمهد لظهورها. وبدون هذه حركة القراءة الاسترجاعية والاستباقية، يظل تحليل شكل الوعي جزئيا ويصبح منظوره مشوها . لذلك يجب علينا أن نبدأ من تجارب الوعي الأولى (الفصول 1-3) لفهم ما هو على المحك هنا.
في مقام أول، عند نهاية الفصل الثالث، أعطى تفسير "اللانهاية" كعملية مسؤولة عن اعتبار العالم الظاهري وجوهره الداخلي لمحة عن "الحرية" التي تميز "الوعي الذاتي" على وجه التحديد (245/100): لم يعد الوعي متعارضا لحقيقة أخرى غير نفسه، بل هو نفسه، و"تفسيره" للواقع الظاهري هو، في جميع الأشياء، مجرد "مناجاة فورية مع الذات". إثارة "الرضى الذاتي" المحفز على "الاستمتاع بنفسها فقط"، و"الانشغال بنفسها ذهابا وإيابا" (246/101). يعاش الوعي الحسي والمدرك بشكل عفوي كاحتضان لمتعارض تم تكوينه مسبقا، كاستقبال لمعطى تجريبي لم يعمل على أن يسجل منه إلا حقيقته، بطريقة مرضية إلى حد ما: هذه "الواقعية" التلقائية للوعي الطبيعي وجدت نفسها مزعزعة بإبراز الدور النشط (الممجد) للفهم في تطوير التمثلات الفكرية للعالم الظاهري. من خلال القيام بحركة توحيد العالم الظاهري في "باطن" والحركة المعاكسة لتمييز هذا الباطن المعقول كظواهر، يجعل الوعي حريته الفكرية بديهية كشرط لإمكان القصدىالحسي والإدراك: "الوعي بالشيء ليس ممكنل إلا للوعي الذاتي، […] هذا الأخير هو وحده حقيقة الأشكال السابقة” (247/102). إن العملية "اللامتناهية" لتوحيد التنوع الظاهراتي وبتمايز باطن الظواهر ليست مشهدا يمكن أن يحدث بشكل مستقل عنها، ولكنها فعل خاص بها. لقد جرد المتعارض نفسه من عتمته وغيريته البدائية لينكشف كانعكاس للنشاط الفكري لوعي أصبح منذ الآن "قريبا من نفسه" في ما ليس هو نفسه: من خلال سحب "ستارة" العالم الظاهري لفهم باطن الظواهر، يدرك الوعي مستودع حركته التفسيرية، وبالتالي يلمح "حقيقة تمثل الظاهرة وباطنها" (248/ 102)؛ ألا وهي دوره في التكوين النظري لمعنى الواقع الموضوعي. لكن في هذه المرحلة، لا يعرف الوعي بعد ما يفعله: بحكم انه ما يزال مستغرقا في الاستيعاب الفكري لمتعارضه، يظل فاقدا للوعي بذاته كنشاط ذاتي لتأسيس معقولية الواقع: ما تزال هذه الحركة الحرة للفهم مدركة باعتبارها "ضرورة" (245/101)، كحركة موضوعية تتم رغم أنفها، "هذه الحقيقة حاضرة بالنسبة إلينا فقط، وليست كذلك بعد بالنسبة إلى الوعي" (247/102). الوعي بحرية الأنا الذي يفسر الظواهر، الاستيلاء بالتالي على "الوعي الذاتي" الأصيل، لا يمكن أن يحدث إلا من خلال "ظروف أخرى" (249/102)، وهي على وجه التحديد تلك التي سيتم مناقشتها في هذه القراءة.
في مقام ثان، يحب ان يجعل الكشف عن هذه الحرية التي تعمل سرا في المعرفة الحسية والفكرية بالمتعارض من الممكن إلقاء الضوء بأثر رجعي على معنى تجارب الوعي الأولى. وعلى وجه الخصوص، فإن علاقة الأنا بالمتعارض الذي يواجهها، التي تعتبر حتى الآن البنية الافتراضية للتجربة، يجب أن تكون موضوع تبرير، أو ما يمكن أن نسميه، بالإشارة إلى المنهج الكانطي، حجاجا متعاليا: تحت أي ظروف يمكنني أن أطرح نفسي كذات متميزة عن المتعارض وقادرة على الارتباط به من أجل فهم حقيقته؟ بأي حق يمكنني أن أقصد "هذا" المحسوس أو أن أدرك "شيء" ذا خصائص؟ هنا يأخذ الانتقال من الوعي إلى الوعي الذاتي معنى تفسير الشروط التي تجعل من الممكن السير العادي للوعي باعتباره العلاقة الفينومينولوجية للأنا بواقع أيا كان: هذا يفترض تيممة هذا "أنا" ضمنيا في العمل داخل المعرفة ("أرى الشجرة" [179/66]، "أدرك" [188/70]) التي تشكل القطب الذاتي لبسط الواقع الموضوعي، ولكن أيضا هذا "أنا الآخر" المذكور بشكل عابر في الفصل حول باليقين الحسي باعتباره "هذا-الذي" يقصد "هنا" آخر غيري ("أنا، هذا ط-الذي، أرى الشجرة وأؤكد أن الشجرة هي الهنا؛ لكن أنا أخرى ترى المنزل وتؤكد أن "ليس الهنا شجرة، بل هو منزل بالأحرى" [179/ 66]). يرى هيجل، مقتفيا أثر فيشته، أن أساس الوعي هو الوعي الذاتي الذي يُفهم على أنه وعي عملي، كموقف نشط لـ "أنا" في معارضتها لـ "لاأنا" وكتأكيد وتصديق لحريتها الخاصة من خلال نفي هذه لاأنا. لهذا السبب فإن تجارب الرغبة، الاعتراف، الكفاخ حتى الموت، السيطرة والعمل، بعيدا عن تشكيل موضوعات مستقلة، سيتم فهمها على أنها إضاءة للشروط العملية لعلاقة نظرية بالمتعارض: ذلك لأن أشعر بنفسي كذات ترغب في متعارض طبيعي بهدف استهلاكه، ثم كأنا تسعى إلى الحصول على الاعتراف من أنا أخرى، إذن ك"أنا" لها تماسكها الخاص، "قائمة بذاتها"، بحيث يمكن للعالم أن يصبح "متعارضا"، ويطرح نفسه كنقيض أمامي، ويصبح هكذا متاحا لقصدي الحسي، لإدراكي ولفكري. تشكل تيممة حرية الوعي الذاتي شرطا لمعقولية الأشكال الأولى للوعي: هي "أساسها"، ما يسمح لنا بتفسيرها.
(يتبع)
المرجع: https://books.openedition.org/enseditions/42186